آلاف الفلسطينيين المرابطين سيتدفقون اليوم (الجمعة) من مختلف الأراضي المحتلة إلى مدينة القدس لنصرة المسجد الأقصى، ولمؤازرة المعتكفين فيه، وكسر الحصار المفروض عليه من قبل القوات الإسرائيلية طوال الأيام الخمسة الماضية. الفلسطينيون، الذين يقومون بهذه المهمة الأخلاقية والدينية ويتحدون جبروت الاحتلال وآلته القمعية الجبارة، يفعلون ذلك نيابة عن مليار ونصف مليار مسلم ينتشرون في مختلف قارات العالم. لا يملكون الصواريخ، ولا الدبابات، ولا الطائرات، ولا حتى البنادق، ويدركون جيدا أنهم يخوضون معركة غير متكافئة مع عدو مدجج بالأسلحة الحديثة، ومع ذلك لا يترددون لحظة واحدة في خوض المواجهة بصدورهم العارية إلا من الإيمان والعزيمة القوية المترسخة بضرورة الدفاع عن مقدساتهم، والشهادة من أجل حمايتها، وتكريس عروبتها وإسلاميتها. المرابطون في الأرض المحتلة يقومون بواجبهم وينتصرون لضميرهم وقلوبهم المؤمنة، وهم على دراية عميقة بالمخططات الإسرائيلية لتهويد مدينتهم، وتدمير أقصاهم، وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه. في مطلع هذا القرن وبعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد، وصل إسماعيل جيم، وزير الخارجية التركي في حينها، إلى مطار غزة، طالبا اللقاء على وجه السرعة بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لأنه يحمل رسالة على درجة كبيرة من الأهمية لا تحتمل التأخير. الرئيس عرفات رحّب بضيفه التركي الترحيب اللائق، فقد كان يقدّر دائما حجم تركيا وتاريخها وأهميتها الاستراتيجية كدولة إسلامية وريثة للخلافة الإسلامية، تضم شعبا يحمل في أعماقه غضبا عارما تجاه المؤامرة الإسرائيلية، فهؤلاء هم أحفاد السلطان عبد الحميد الذي طرد وفد الحركة الصهيونية من مجلسه عندما حاولوا رشوته وحكومته من أجل القبول بدولة يهودية في فلسطين. الضيف التركي طلب لقاء مغلقا مع الرئيس الفلسطيني لا يحضره إلا المترجم. فما كان من الأخير إلا أن لبى طلبه فورا، وطلب من أحد وزرائه (فريح أبو مدين وزير العدل) أن يكون هذا المترجم، رغم أن لغته الإنجليزية ليست أفضل كثيرا من لغة رئيسه، ولكنه أراده أن يكون شاهدا على التاريخ. السيد جيم قال للرئيس عرفات إنه يحمل إليه عرضا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، مرفوقا بمساعدات مالية سخية، وباعتراف دولي شامل من أمريكا والدول الكبرى، وحل القضايا المعلقة بما فيها قضايا اللاجئين والقدس والمستوطنات، شريطة أن يوافق الرئيس الفلسطيني على إقامة كنيس يهودي صغير في باحة المسجد الأقصى، وليس مهما لمن تكون السيادة على هذا الكنيس، أو أي علم يرفع عليه، المهم أن يقام الكنيس، وأن يطلق عليه «هيكل سليمان». الرئيس الراحل، بفطرته ونظرته الثاقبة حول هذه المسألة، فاجأ الضيف التركي بابتسامة عريضة، مؤكدا له أنه موافق كليا على العرض، فانشرح صدر الوزير التركي، وهجم على الرئيس عرفات يقبله، ولكنه قال إن هذه الموافقة على قيام هذا الكنيس مشروطة بموافقة الشعب التركي، فإذا وافق الشعب التركي على الاقتراح فإنه سينفذه فورا، اذهب إلى هذا الشعب التركي، مخاطبا الوزير، واستفتْه في الأمر وأنا سأطبق رغبته فورا. كلام الرئيس عرفات وقع كالصاعقة على الوزير التركي، فقد امتقع وجهه، واندفع خارجا من المكتب متوسلا الرئيس عرفات أن ينسى الموضوع كليا، وألا يتحدث مطلقا عن هذا العرض، واستقل طائرته عائدا إلى أنقرة. بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة تريد بناء هذا الكنيس، على أنقاض المسجد الأقصى، فهي تقوّض أساساته ببناء الأنفاق تحته، وترسل المتطرفين اليهود إلى باحته من حين إلى آخر، لجعل هذه الاقتحامات طبيعية يتقبلها الفلسطينيون كأمر واقع، تماما مثلما فرضوا التطبيع والمستوطنات والمفاوضات العبثية، والسلام الاقتصادي. أجندة نتنياهو واضحة: أولا، التوسع في الاستيطان وقد فرضه على أمريكا والسلطة التي استأنفت المفاوضات معه، والتقاه رئيسها تحت خيمة القمة الثلاثية؛ وثانيا، فرض الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وقد حقق اختراقا كبيرا بدفع الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى القبول بهذه الحقيقة عندما أشار إليها الأخير في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ وثالثا، تهويد القدس وإقامة الهيكل المزعوم، وقد حقق الشق الأول بخنق المدينة بكتل استيطانية وتدمير بيوت أهلها وجعل اليهود أغلبية مطلقة فيها، وها هو يسعى حاليا إلى تحقيق الشطر الثاني، أي بناء الكنيس اليهودي وتدمير الأقصى. اليوم، يجب أن يكون بداية تحرك عربي وإسلامي مكثف لنصرة المرابطين المتصدين لهذا المشروع الخبيث، فإما أن تبعث الشعوب العربية رسالة تضامنية واضحة إلى العالم بأسره تعكس استعدادها للدفاع عن مقدساتها، وإلا فإن علينا أن نتوقع خسارة أولى القبلتين وثالث الحرمين، تماما مثلما خسرنا فلسطين، والحرم الإبراهيمي، والكرامتين العربية والإسلامية في أرض الرباط. نخاطب الشعوب لأننا يئسنا من هذه الأنظمة بعد أن تأكدت عمالة معظمها، ورضوخها الكامل للإملاءات الإسرائيلية والأمريكية، وانعدام أي نخوة أو كرامة لدى الغالبية الساحقة من المسؤولين فيها من رأس الهرم إلى قمته؛ فهؤلاء لا يريدون أن يلقوا مصير الراحل ياسر عرفات، ولا يتطلعون إلى الشهادة مثله ومثل سبعة آلاف فلسطيني استشهدوا منذ اندلاع الانتفاضة الأولى. إن مؤامرة الصمت، التي تشارك فيها الأنظمة العربية، لا تقل إجراما في حق القدسالمحتلة عما يقوم به اليهود المتطرفون والجيش الإسرائيلي الذي يدعمهم من اعتداءات واقتحامات لباحة الحرم الشريف. لولا أننا نعرف الواقع المر والمخجل للسياسة العربية لقلنا إن مشهد استباحة الأقصى يستحق من القيادة المصرية أكثر من «إصدار التوجيهات إلى الخارجية والأجهزة المعنية بسرعة التدخل لتهدئة الأوضاع في المسجد الأقصى»، كما بشرتنا بذلك الصحف المصرية بالأمس. توقعنا أن نسمع أو نرى موقفا قويا من القمة السورية السعودية التي اختتمت أعمالها أمس، ووصفها وزير الإعلام السعودي بكونها قمة تاريخية، ولكن يبدو أن خادم الحرمين الشريفين منشغل بتشكيل حكومة لبنانية أكثر من انشغاله بالقدسالمحتلة. حتى العاهل الأردني الراعي الرسمي للصخرة المشرّفة الذي تكفّل والده بترميم قبتها، على نفقته الخاصة، اقتصرت ردة فعله على استدعاء وزير خارجيته للقائم بالأعمال الإسرائيلي في عمان، لإبلاغه باحتجاج رسمي قوي اللهجة. لا نطالب بتحريك الجيوش، فهذا شرف لم نعد نقترب منه، ولكننا نطالب بخطوات عملية، مثل إغلاق السفارات الإسرائيلية، والتحرك بقوة لدى الحليف الأمريكي، الذي خضنا جميع حروبه في أفغانستان والعراق. فهل هذا كثير على القدس وأقصاها وقبة صخرتها؟ نعترف، وبكل ألم وحسرة، بأن الكنيس اليهودي قد يقام قريبا، وأقرب مما نتصور في باحة المسجد الأقصى، أو على أنقاضه، طالما استمر هذا الوضع العربي المخجل.