في حياة كثير من الشعوب، أبان التاريخ بأن شجاعة العودة خطوات إلى الوراء، ووقف نزيف عبث الاستهتار بالمسؤوليات العمومية، وتصحيح الاختيارات السياسية عندما يتأكد أنها كانت خاطئة، كان هو أنجع السبل للقفز مئات الخطوات إلى الأمام، وضمان الحفاظ على المكتسبات، وتحصين التجربة الديمقراطية بحق. ولأن الديمقراطية خيار استراتيجي لا رجعة فيه، يجب أن نعترف أنها مريضة بسبب ما يعتري حياتنا الحزبية، وعلينا أن نسارع لنعالجها حتى لا يصبح المرض مزمنا، و حتى نضمن بذلك أن لا تتحول الديمقراطية إلى نقيضها إذا استمرت الأزمة الاجتماعية و الاقتصادية، واستمر الناس يرون واقعا يجعلهم يعتقدون، عن خطأ كلي أو صواب جزئي، أن الديمقراطية والعمل الحزبي أصبحا، في وقتنا الحاضر، لا يأتيان إلا بالمفسدين وناقصي الكفاءة والنزاهة، ومعرقلي تطوير البلاد للأفضل.
اليوم، ونحن نتجاوز شهرين من الانتظار بأن يتمكن رئيس الحكومة من إنهاء مفاوضاته مع أغلبيته الحزبية، ويتقدم بتصوره لإعادة هيكلة الحكومة، وأسماء “اللاعبين الجدد” الذين ستدفع بهم كفاءاتهم المفترضة للاستوزار، حتى يتفضل عاهل البلاد بتعيينهم، طالعتنا نشرة صادرة عن وزارة الاقتصاد والمالية بخبر ارتفاع إجمالي الدين الخارجي العمومي للمغرب، خلال النصف الأول من سنة 2019، إلى 35.2 مليار دولار، أي ما يعادل 337.8 مليار درهم. بمعنى أن مديونية المغرب في عهد الحكومة الحالية ارتفعت ب 11.2 مليار درهم مقارنة مع نهاية سنة 2018، حيث كان الدين العمومي الخارجي للمغرب 326.6 مليار درهم. وللإشارة، هذا الدين الخارجي هو الأعلى منذ سنة 2014، التي كانت فيها المديونية الخارجية في حدود 278 مليار درهم، لتتجاوزت عتبة 300 مليار درهم سنة 2015، ثم تستمر في الارتفاع بدون توقف. خبر كارثي بكل المقاييس، لا يمكن الصمت أمامه.
في شهر يناير 2019، كتبت مقالا بعنوان “الأزمة زاحفة وهم غافلون”. حينها أثرت الانتباه إلى أمور كثيرة على درجة كبيرة من الخطورة. و بعد عشرة أشهر، أرى أن كل شيء في ما كتبته لا زال راهنيا بشكل غريب: نفس التشخيص للوضعية العامة، ونفس المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الكارثية، ونفس الحكومة المسؤولة عن تردي التدبير العمومي في بلادنا. لا شيء تغير، فقط ازددنا قلقا من واقعنا، وازددنا خوفا على وطننا من فرط الاستهتار الذي يطبع تدبير عدة مجالات، ومن أثر السياسات العمومية التي ستقضي على حظوظ الإقلاع. وليس خبر المديونية إلا نموذجا من نماذج تدبير حكومي، بأغلبية حزبية تسير بنا إلى جرف هار لن نستطيع الخروح منه.
في نفس المقال، كتبت، بكل أمل، دعوة إلى أن نفكر جميعا، وأساسا الفاعلون السياسيون الحزبيون، مخارج تحفظ كرامة الجميع، و تحفظ، قبل ذلك كله، ما أعتقد أنه أسمى الطموحات و أرقاها، ألا وهو الدفاع عن المصالح الاستراتيجية لدولتنا الوطنية، وتعزيز اقتصاد بلادنا، وإدماج شبابنا في دينامية التنمية والكرامة، وعبر كل ذلك، حفظ مصلحة الوطن وكل مكونات الأمة المغربية المجيدة.
وأذكر أنني قلت “في كثير من الأحيان، أسأل نفسي: يا ترى، عوض البحث عن شماعة نعلق عليها فشل الحكومة، أو نبرر فشلها بما في خيال البعض من وجود “مؤامرة ضد الحزب الأغلبي”، ما المانع ونحن نرى كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تدل على واقع الأزمة، من أن تعلن الحكومة للمغاربة بكل شجاعة، أنها “جربت وفشلت”؟ أو أنها حاولت بنية صادقة، لكنها لم تهتد إلى أنجع الحلول لمشاكل الناس؟”.
واستأنست بما في “المرجعية” التي يدعي البعض أنها “الأساس الفكري والإيديولوجي”، الذي يبرر به الحزب الذي يرأس الحكومة كل اختياراته، وقلت:
“ألم يكن التقاة أيام السلف الصالح، يرفضون تقلد مسؤوليات إذا أحسوا أنها أكبر من قدرتهم على النهوض بها؟ ألم يكونوا يتركونها إذا تأكد أنهم قاصرون عن أداءها بحقها؟ أليس من عمق الإيمان الزاهد و من التقوى، أن يبتعد الإنسان كليا عن اقتراف ما تضيع به مصالح الناس؟ وبالتالي، عوض الترقيع، ما العيب في الإقرار بالفشل أو، على الأقل، الاعتراف أن وعود المهرجانات الخطابية، و بهتان الحملة الانتخابية، كانت كبيرة أكثر من القدرة على تحقيقها، و لن نقول أنها أكبر من “كفاءات أصحابها” على تحقيقها ؟؟ ألم يحن الوقت، بكل تجرد، لطرح “مبادرات سياسية شجاعة” لتغليب المصالح الاستراتيجية الوطنية، وفق منطق أقدر على تيسير حلحلة واقع الأزمة؟ الشعب المغربي متسامح و سيحترم اعترافكم بأخطائكم يا سادة. ولكن الشعب أبدا لن يسامحكم على ما أنتم فيه من تشبت بالكراسي، ورفض للاعتراف بالواقع المزري التي خلفه عدم تمكنكم من تدبير الشأن العام، بشكل عقلاني يحرص على المصالح العامة.”
الحقيقة قاسية ويجب أن تقال.. بقلم // يونس التايب
واليوم، أمام ما تبدو لي أنها صعوبات حقيقية يجدها السيد رئيس الحكومة في إخراج سيناريو “التعديل” المستند على إبراز كفاءات حقيقية جديدة؛ ولأن الاحتمال قائم بأن يفشل في مسعاه للتفاهم مع ما بقي من حلفاءه الحزبيين، والعجز عن المحافظة على أغلبيته؛ نحتاج أن نقول الحقيقة لعلها تلاقي أذانا صاغية في صفوف من عجزوا، حتى الآن، عن إقناع المغاربة بأنهم قادرين على تدبير الشأن العام، وإنجاز التوافقات الكبرى التي تحتاجها بلادنا، وتحقيق آمال وطموحات أبناء هذا الوطن الغالي.
وأمام المؤشرات الخطيرة التي تبين تردي الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمالي، وتراجع مؤشرات الثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين الوطنيين، وتراجع الاستثمار الدولي المباش، وتقهقر الخدمات في الصحة و التعليم، وهجرة نخبة الكفاءات للاستقرار بالخارج، واستمرار نزيف الهجرة السرية للشباب، وشيوع البطالة بشكل هيكلي في المجتمع، والكوارث التدبيرية والاختلاسات التي حملها لنا تقرير المجلس الأعلى للحسابات، ووضعية الاقتصاد والمالية كما شخصها تقرير والي بنك المغرب، واستمرار أحزاب الأغلبية في شنآنها وتجاذباتها وغياب الثقة بين أطرافها، واستمرار نفس الحرص على تعيين الأتباع والمنتسبين في المسؤوليات العمومية بدون استحضار معيار الاستحقاق، وما يعلمه الجميع من طغيان نية العزوف عن المشاركة في الانتخابات المقبلة، ماذا ننتظر لنقول الحقيقة كما هي، حتى ولو كانت قاسية؟ أم هنالك من يريد يسلم إلى المجهول وطنا، حضارة شعبه بعمر 3500 سنة؟؟
ألم يحن الوقت لنرفع صوتنا بالحق ونعترف بأن “أم المشاكل” في هذه السنوات السبع العجاف، هي أن الحكومة السابقة، وهذه الحكومة، ومن قادهما، لم يكونوا في مستوى المهام والمسؤوليات، وأساءوا بسياساتهم واختياراتهم إساءات بالغة في حق وطننا وشعبنا بشكل غير مسبوق، ونشروا الشعبوية وسفهوا مقام المسؤولية العمومية؟
لا مجال لتزييف الواقع. الوضع الاقتصادي والاجتماعي كارثي. وهذه هي الحقيقة المرة التي يرددها الناس في الشوارع ويتهامسون بها، ويجب أن نقولها، ونتصرف على أساسها، قبل أن تتفاقم الأمور بشكل سيصعب تدبيره، خصوصا وأن الحكومة وأحزابها سيتهربون ولن يتحملوا المسؤولية أمام الشعب، وسيكون على الدولة أن تحل مشاكل تورط في خلقها بعض السياسيين غير الأكفاء.
وعليه، في أفق محتمل بأن يعجز السيد رئيس الحكومة عن إعداد توليفة “التعديل”، وفي أفق ما قد يأتي بعد التعديل، إذا تم، من صراعات بين الأحزاب المشكلة للحكومة، و”عودة حليمة لعادتها القديمة” حيث ستنهمك أحزاب الأغلبية، بعد أسابيع، في صراعات سياسوية استعدادا للانتخابات القريبة جدا؛ في أفق كل ذلك و تحسبا له، ربما حان الوقت أن نفكر في حلول استراتيجية لم يسبق أن تحدثنا فيها بشكل صريح، سعيا لإنقاذ ما يمكننا إنقاذه، وما يستحق منا ذلك.
وأحد تلك الحلول هي أن ننتقل إلى “شكل مؤسساتي آخر” ندبر به المرحلة المقبلة، بتوافق وطني يرقى إلى مستوى اللحظة التاريخية، التي تقتضي أن يعلو الوطن ومصالحه على الحسابات السياسوية الضيقة. و أن نشتغل في إطار مرحلي، بعبقرية مغربية أصيلة، من خلال حكومة كفاءات حقيقية، ترأسها شخصية وطنية تحضى بمصداقية واحترام كبيرين لما اجتمع فيها من القوة والأمانة، ونركز بكفاءة واقتدار، في ورش وطني رائع، على:
– التصدي لأوجه العجز المسجلة في مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية، برؤية ملكية متبصرة، ودعم سياسي قوي، وبسند شعبي تواق لرفع نجاعة تدبير الشأن العام بعيدا عن السياسوية المقيتة. – تدبير ملفات الفساد التي أبرزها المجلس الأعلى للحسابات، حتى يصير مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة هو القاعدة التي ينضبط لها الجميع. – إرساء أسس النموذج التنموي الوطني الجديد على أساس تشاركي، و نتخذ الترتيبات المؤسساتية والقانونية لتسهيل تنزيله في إطار المرحلة الجديدة التي نريدها مرحلة الإقلاع الشامل. – تأهيل الحقل الحزبي لمدة سنتين على الأقل، عبر آليات قانونية رادعة، تحفظ وتدعم الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب، وتدعم مسار تجديد النخب، وتفرض الانفتاح الحقيقي على المواطنين، وتجويد العرض السياسي، وتشجع اندماج هيئات سياسية تحمل مشاريع متقاربة، عوض ما نحن فيه من كثرة الأحزاب وتشتتها ووهنها و ضعف أداءها العام. – تطوير الترسانة القانونية لتقوية المشاركة السياسية، وتعزيز الديمقراطية التمثيلية لتصير أكثر تجسيدا لانتظارات المواطنين، وأكثر قدرة على مواجهة العزوف السياسي ومحاصرة شيوع التسفيه والعدمية، ومنع خطر تقلص مساحات التعددية السياسية و الفكرية في الأفق، إذا لم نتحرك بسرعة.
أفلا نقول الحقيقة ولو كانت قاسية، ونعلي مقام الوطن أولا؟ أم على قلوب أقفالها؟؟ (*) بقلم // يونس التايب إعلامي وفاعل سياسي الحقيقة قاسية ويجب أن تقال.. بقلم // يونس التايب