هنالك شيء ما ليس على ما يرام في واقعنا الوطني، يتجلى في حالة القلق و التذمر الشائعة بين الناس، على كل المستويات. كل شيء يتعرض للانتقاد، الأفراد و المؤسسات والهيئات، الخاصة والعامة، ولا نسمع عن بدائل تطرح ولا عن أفكار مبتكرة يمكنها أن تفتح أفاقا جديدة للأمل. نبحث عن نخبنا و مثقفينا، ولا نسمع إلا أصواتا خافتة. لربما تعبوا من كثرة ما تجاهل قولهم المتجاهلون، وأعرض عنهم المعرضون. و نبحث عن هامات و زعامات، لعلها تشير على الناس فتطمئنهم، و ترشدهم إلى سبيل رصين. ولكن لا شيء يبرز، لا السبيل ولا المرشدون. وكأني بالجميع فضل الغوص في الدواخل بحثا عن الذات، وتحقيقا لطموحاتها قبل أي شيء آخر. وبالتالي، لاشيء يصل سوى أخبار الاصطفافات هنا وهناك، وشيوع منطق التوجس، وغياب كلي للثقة بين الفرقاء. سواء بين المؤسسات، و بين الجيران في العمارة والحي، وبين الزملاء في الإدارات و أماكن العمل… “كلها حاضي من صاحبو…!”، والعجيب أن لا أحد يعرف بالضبط لما يصدر منه كل هذا السلوك الغرائبي. من الهين جدا أن نسهب في تعداد أسباب هذه الحالة المجتمعية الشاذة، و نجد لها جذورا، و سياقات تاريخية أفرزتها، و نجد لها أسبابا اجتماعية واقتصادية وثقافية. و من الممكن الاجتهاد من أجل “تحديد طبيعة المسؤوليات” بشكل سلس، ثم بعد ذلك، توزيع نسب “تلك المسؤوليات” بين “السياسات العمومية” التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة، وبين تقصير “هيئات الوساطة”، السياسية و المجتمعية، و بين “استكانة المجتمع” نفسه إلى الفردانية، و قبوله بممارسات مشينة طارئة، تم تجاهلها، بسلبية مقيتة، إلى أن انتشر سمها بين الناس، وشرع في تدمير الذات المجتمعية، ودفعها إلى التكلس هنا، و التحلل هنالك، حتى صار الشيء كضدده، وأصبحت القيم كانعدامها. و ما يؤلمني في كل ما يجري، هو رؤية الناس ينظرون و “يتفرجون” على أوضاع قاسية، و هم مستمرون في سلبيتهم ينتظرون “حلولا تنزل عليهم من القمر”، أو كأني بهم يقولون “اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون”… أما في قلب خانة الشأن العام وتدبيره، تواترت علينا أخبار الإضرابات: إضراب الأساتذة، و الأطباء، و الممرضين، و مهنيي النقل، وأصحاب المهن الحرة، و التجار في عدة مدن… والقادم أكثر…. وبدون خلفية، من المشروع أن نتساءل لماذا يحدث كل هذا ؟ هل كل أولئك الناس، وكل تلك الفئات، يصرخون ويحتجون لأنهم “يتآمرون على الحكومة” ؟ أم هم يتآمرون على “الأحزاب المشكلة لها”؟ أم تراهم يحملون “إيديولوجية تعادي إيديولوجيات أحزاب الحكومة”؟ هل من المعقول أن نقول أن الناس يتحركون ويقومون بإضرابات لأنهم ضد “الحزب الأغلبي الذي يقود الحكومة” أو ضد “برنامجه و مرجعيته”؟ بصدق، لا أظن ذلك. إن الواقع بحسب ما أستشفه و ما أعايشه، كباقي مواطني هذا البلد، هو أن الناس “ملات من الكذب”، و “ملات من التهريج السياسي”، و”عيات تاتسنى الخير الموعود”، و “ما بان ليها والو”، و “عيات من الوعود الكاذبة”، و تعبت من الاستغلال الحزبي والسياسوي للمناصب وللمصالح لفائدة “أتباع أحزاب بعينها”، من دون باقي كفاءات و شباب المغرب غير المنتمين حزبيا، أو من بين الشباب الذين هم منتمون لمرجعيات سياسية أخرى، و هو حقهم المطلق ولا يجب أن ينقص من حقوق مواطنتهم شيئا. يا سادة…. يا حكماء… أرجوكم… “أ الرجوع لله!”. اتقوا الله في مواطنيكم، وفي شباب الوطن، ولا تتركوهم يعتقدون أنهم “محكورون في بلادهم” من طرف من هم في المسؤوليات الحكومية. أم تراكم تتهامسون بينكم معتقدين أنهم يستحقون منكم كل هذا التجاهل والبؤس، لأنهم “اقترفوا ذنب التصويت عليكم”؟ أم أن “الذنب ديال الناس أنهم تاقوا فيكم؟”. كيف لا تريدونهم ألا يظنوا أنكم إنما “تنتقمون منهم و من أسرهم”، من خلال رتابة خطابكم السياسي وتواصلكم، و ضعف مطلق في سياساتكم وبرامجكم، وعجز كلي عن ابتكار أوراش جديدة ينصهر فيها العاطلون، و يمتدحها الرأي العام؟ والله إن تحت المياه، التي تبدو راكدة و هادئة، لتجاذبات قوية، و غير مؤطرة، أخشى أن تفرز أمواجا عاتية تحمل الغضب وتعبر عن القنوط. ألا فبادروا، بنية حسنة، إلى تكسير ديناميكية تشكل تلك “الأمواج”، عبر فعل جديد هادف وفيه كثير من الإقدام، فسواحلنا لن تحتمل أن يضربها أي “تسونامي”. دعونا نركز مع ما يحاك لبلادنا من طرف “خصوم الخارج” الطامعون في أرضنا و الساعون إلى النيل من حقوقنا التاريخية وتقزيم جغرافيتنا وإشعاعنا. الرجوع لله… خليوا سفينة الوطن غادة باطمئنان، لأن الوطن أكبر من الحزب ومن العشيرة…. أكبر من أي حزب و من أي عشيرة. أشد على أيديكم… “راه ضيق الناس كبير”، والألم يعتصر دواخل الضعفاء والمعوزين والشباب العاطل في الأحياء، والطبقة المتوسطة تنتحر ببطء، لأنها تعبت من قهر التفقير من جراء سياسات ليبرالية موغلة في تمجيد “السوق والفردانية”. في كثير من الأحيان، أسأل نفسي : يا ترى… عوض البحث عن شماعة “يتعلق عليها الفشل ديال الحكومة”، أو محاولة تبرير الفشل ب “مؤامرة مدبرة”، ما الذي يمنع الأغلبية الحكومية، وهي ترى كل هذه المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تدل على واقع أزمة، من أن تعلن أنها “جربت وفشلت”؟ أو أنها لم تهتد إلى أنجع الحلول لمشاكل الناس؟ ألم يكن التقاة، أيام السلف الصالح، يرفضون تقلد مسؤوليات إذا أحسوا أنها أكبر من قدرتهم على النهوض بها، أو يتركونها إذا تأكد لديهم قصور بين؟ أليس من عمق الإيمان الزاهد و التقوى الصحيحة، أن يبتعد الإنسان كليا عن اقتراف ما من خلاله تضيع مصالح الناس؟ وبالتالي، ليس عيبا الإقرار بالفشل أو، على الأقل، الاعتراف أن “وعود المهرجانات الخطابية” كانت كبيرة أكثر من القدرة على تحقيقها وأكبر من “كفاءات أصحابها”. ألم يحن الوقت، بكل تجرد، لطرح “مبادرات شجاعة” لتغليب المصالح الاستراتيجية الوطنية، وإعادة “توزيع الأوراق” وفق منطق أقدر على تيسير حلحلة واقع الأزمة؟ الشعب المغربي متسامح و سيحترم اعترافكم بأخطائكم يا سادة. ولكن الشعب أبدا لن يسامحكم على ما أنتم فيه من “تنطع و غرور”، و تشبت بالكراسي، و رفض الاعتراف بالواقع المزري من أثر عدم تمكنكم من تدبير الشأن العام بشكل عقلاني يحرص على المصالح العامة. للراكبين في سفينة الفاعل الحكومي، أقول : “احذروا أن تزيدوا التضييق المادي على الأسر المغربية، و احذروا ما أنتم فيه من تعطيل لحظوظ الشباب المغربي في المستقبل”! إن استمراركم في رفض إطلاق الطاقات، و عدم فسح المجال للكفاءات، و رفض اعتماد أساليب وطرق جديدة في تدبير الشأن العام، و حرصكم على تعطيل التفكير الإيجابي، و تغييب الاجتهاد الجماعي التشاركي، و عدم خلق شروط التجديد والابتكار، والاستثمار الحر والمنتج، و عدم حرصكم على حفظ الثرات المادي واللامادي ليبقى للأجيال المقبلة، و عدم خلق أوراش وطنية للتشاور بشأن القضايا الكبرى، كلها خطايا لن يغفرها لكم الشباب الغيور على وطنه، والوفي لثوابته وتاريخه. وإن غدا لناظره قريب. * فاعل سياسي ومتخصص في الحكامة الترابية