تنتهي سنة 2018، لينطلق عام جديد نتمناه مليئا بالرحمة وبالإنجازات والخير العميم، حتى نتمكن من تجاوز الصعاب التي عشنا على إيقاعها، ونمر إلى سرعة “البراق” في التعاطي مع التحديات المقبلة. وبرغم التفاؤل الذي أومن بضرورة إبقاءه أملا في مستقبل مشرق لبلادنا، تتفاعل بدواخلي هواجس كثيرة من خشية أن لا تحمل سنة 2019 ما نأمله، إذا ظلت نفس المعطيات القائمة حاليا و نفس العقليات كما هي، و لم يستوعب الفاعلون المعنيون أن عليهم تغيير الديناميكيات السلبية التي تعززت خلال السنة التي نودعها، لكي لا تكون لها امتدادات وأثار قوية في المستقبل. ولكي نستطلع القادم بأمل، علينا العودة لبعض ما ترسخ في أذهان المغاربة خلال هذه السنة التي نودعها، على عدة مستويات، و نترافع على ضرورة تجاوز السلبي منه، حتى نتقدم بخطى أكثر ثباتا. على المستوى الاجتماعي، الكل متفق على حالة الاحتقان التي عشناها من أثر انسداد أبواب الحوار بين الفاعلين الاجتماعيين والحكومة، وشيوع التوجس وضبابية الرؤية التي لا تتيح استيعاب ما هو آت في الأفق، وتنامي أشكال مختلفة للاحتجاج ضد السياسات العمومية التي لم تستجب لانتظارات الناس، و شيوع تذمر شعبي من واقع “أخبار” الإجرام و حالات الانتحار، وأخبار مواليد غير شرعيين انتهى بهم الأمر في القمامات، وحالات اغتصاب لأطفال، وحالات تحرش بنساء، وحالات سرقة وعنف في الفضاء العمومي بشكل غير مسبوق، الشيء الذي عزز القلق الوجداني والتوتر المجتمعي. ولعل أثر كل ذلك في نفوس المغاربة تقوى بفعل “الانفجار المعلوماتي” الذي نعيشه، وكذا شيوع الارتباط بشبكات التواصل الاجتماعي المتنوعة، وسهولة نقل صور أي شيء يحدث في أي مكان بواسطة هاتف محمول وكاميرا. وقد سبق لي أن نبهت في مقالي “إبقاء شعلة الأمل ضرورة مجتمعية استراتيجية”، إلى خطورة هذا الوضع. وأنا اعتبر أن تجاوزه رهين بإقدام الفاعل الحكومي على رفع التضييق عن الناس في قوتهم ومعيشهم اليومي، وتوسيع دائرة التدبير التشاركي للشأن العام، و اللجوء إلى أكبر قدر من الاستشارات في القضايا الكبرى التي لا يمكن لفاعل حزبي واحد، مهما علا شأنه، أن يحلها بمفرده، بغرور وتنطع. وأجدد أمنيتي بألا يستسلم شباب وطني لليأس، رغم كل شيء، لأن استسلامهم سيكون فوزا سهلا لدعاة “التسفيه والعدمية”، الذين سيحققون هدفهم الاستراتيجي من خلال “شل حركة المجتمع المغربي” نهائيا، والدفع بالمواطنين للإنزواء والكف عن أي مساهمة في الشأن العام، ومقاطعة كل فعل مواطن وهادف، ومقاطعة الحياة والفرح والحب. و أجدد التحذير من أن الغرض من دفع المجتمع للاستسلام، هو تمكين “البعض” من التحكم في كل المفاصل وفي آليات تدبير الشأن العام، وتخليد أنفسهم في المناصب على حساب أبناء الشعب الأكفاء الوطنيين والنزهاء، واستدامة الاستفادة من الامتيازات ضدا على الطبقات المتوسطة وعلى ضعاف الناس. أما على المستوى الاقتصادي، لم يرق أداء الحكومة إلى ما كان ممكنا تحقيقه من نجاحات اقتصادية كبرى بفعل الإشعاع الدولي الذي حققته الدبلوماسية الملكية، إفريقيا و عربيا، وبفعل تمكن المغرب من المحافظة على استقراره وتجاوز “فخ 2010″، في الوقت الذي سقطت دول بأكملها في حالة من الفوضى وفقدت قدرتها على منافسة الاقتصاد المغربي. وهكذا ظهر أن الفاعل الحكومي المغربي، الحالي والذي سبقه، لم يستطع للأسف مواكبة اهتمام الرأسمال العالمي ورغبته في الاستثمار في بلادنا، ولم يتم توفير ما يلزم، باستثناء ما تحقق، بإشراف مباشر من عاهل البلاد، في مجال قطاع صناعة السيارات وصناعة الطيران. من جهة ثانية، تميزت السنة التي نودع بالإصرار على نهج سياسة الاقتراض بشكل تجاوز كل الأسقف المعقولة، مما سيكرس، خلال 2019، استمرار ممارسة قد تهدد، لا قدر الله، استقلال قرارنا الاقتصادي الوطني أمام صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، إذا ما حدثت على المستوى العالمي أزمة اقتصادية في أية لحظة قد يختل فيها التوازن في العلاقات الدولية. كما ميز آخر سنة 2018، صدور قانون مالي تغيب عنه أي رؤية بعيدة المدى لإطلاق ديناميكية استثمارية، يمتزج فيها القطاع العام والقطاع الخاص، بمنطق تكاملي ومندمج. الشيء الذي يؤكد أن الفاعل الحكومي لا يستطيع إيجاد حل مؤثر وشامل لمشكل تشغيل الشباب. أضف إلى ذلك، ما تم تسجيله من عجز عن بلورة تصور استراتيجي لتأهيل قطاع التكوين المهني، وجعله رافدا لتسهيل تشغيل الشباب، مما يجعلنا نشك في أن الأمر مرده إلى ضعف الفعالية ونقص حقيقي في الكفاءة لدى البعض. نفس الشيء يمكننا أن نقوله فيما يخص المقاولات الصغرى والمتوسطة التي تخبطت في صعوبات جمة، خلال سنة 2018، وسيستمر ذلك خلال السنة الجديدة، سواء فيما يخص التمويل أو الولوج إلى الأسواق. وقد تم تسجيل إغلاق العديد من المقاولات لأبوابها، دون أن يشكل ذلك مدعاة للقلق بالنسبة للفاعل الحكومي، الذي ظل يجتمع صباح كل خميس، ويتعاطى مع ما يصله من أخبار وتقارير بهدوء مستفز، وكأنه غير معني بهذا الملف، ولا بملفات اقتصادية أخرى تدل على تقلص حظوظنا لبلوغ نادي الدول الصاعدة، الذي كنا واقفين على بابه، وكان ذلك لنا طموحا مشروعا و واقعيا، قبل ثمان أو عشر سنوات. أما على المستوى السياسي، فأعتقد أن الكثيرين متفقون على أن ما عرفته الساحة خلال السنة، من تجاذبات بين مكونات الأغلبية الحكومية، ومن تقاذف إعلامي تجاوز حدود اللياقة في مناسبات عدة، لم يزد إلا في تعميق اقتناع المواطنين عامة، و الشباب على وجه خاص، بأن “السياسة ما هي إلا خوى خاوي”، وأن “السياسة مجرد لعب و تهريج… ولا خير يرجى من أصحابها”. وأخشى أن دعاة العدمية والتسفيه سيعمدون إلى تعزيز جهودهم لكي يتشكل، من الآن، توجه لصناعة “رأي عام مقاطع” للعملية برمتها تحت مبرر أن “لا جدوى منها”. وهذا والله هو أخطر ما يمكن أن يقع، لأن مقاطعة العملية السياسية، من جهة، لن تغير الواقع ولن تفقد العملية شرعيتها، في ظل القوانين القائمة، و من جهة أخرى، سيؤدي أي سلوك سلبي يائس إلى ترسيخ طغيان “طائفة” من الناس، سيرفضون بشكل كارثي كل رأي أو توجه مخالف، وسيعززون ممارساتهم السياسوية الضيقة، ويكرسون ولاءات خارجة عن الثوابت الوطنية التي اختارها المغاربة. فحذاري أن نغفل عن هذه النقطة لأنها قد تكون حاسمة في كل الاتجاهات، الإيجابية منها والسلبية. ولعل من أسوأ ما وقع أمام أعيننا، وآلمتنا كثيرا دلالاته غير المصرح بها، هو انخراط البعض في صراع انفعالي وصل إلى حد التطاول على سلطات مستقلة، وأطلق العنان لخرجات إعلامية متوترة، وكأن قد نزلت بالقلوب “الحمية” دفاعا عن مواطن فرد، بينما المسؤولية العمومية تقتضي “الصراخ والله” عن أكثر من 34 مليون مواطن، دفاعا عن حقوقهم جميعا، خصوصا وأن بعضهم ظل يحتج ويشكو ألما ويطلب بعض حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويلتمس من الفاعل الحزبي المساند للفاعل الحكومي، الترافع عن حقوقه، ولكن لا حياة لمن تنادي. كل ذلك، في رأيي، إن استمر سيكون له أثر في تعميق العزوف و الضبابية و التوجس الذي ظل قائما بفعل سلوكيات بعيدة عن مقام المسؤولية العمومية، التي يفترض فيها أن تظل متجردة عن الانتماء الحزبي الضيق، و مرتبطة أكثر بهموم الوطن في شساعته وتعدد مكوناته، اجتماعيا وسياسيا. وأنا متيقن أن جزءا واسعا من المواطنين المغاربة، سيظلون، خلال السنة القادمة، غير مستوعبين لتلك “القدرات الحربائية” المذهلة التي يستطيع البعض من خلالها، أن يكونوا هم “أصحاب القرار العمومي” خلال النهار، ثم لا يترددون في انتقاد وتسفيه كل شيء خلال تجمعاتهم بالليل. كما لن يستوعب المغاربة كيف تقبل بعض الضمائر على أصحابها أن يكونوا هم من يقرر في مصير الناس، وهم من يتخذ قرارات التضييق على الطبقات المتوسطة، وعلى الموظفين و الأجراء، وعلى العمال و المتقاعدين، وعلى المقاولين الشباب و أصحاب المهن الحرة، ثم ينضموا بعد ذلك إلى “مسيرات التنديد والاحتجاج”، خلال نهاية الأسبوع، لانتقاد “السياسات الفاشلة للحكومة”، أو ينظموا تجمعات حزبية ليقولوا “بقصوحية الوجه”، لمن لا زالوا يستمعون إلى خطاباتهم: “اللهم إن هذا لمنكر… ولا يمكن السكوت عن كل هذا الظلم الذي تحدثه الحكومة”. وكأن من يتخذ القرار ليسوا هم، وكأن الظالم ليس من بينهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله. والإشكال الكبير الذي يبدو لي أنه قد يعيق الانتقال من السنوات العجاف إلى مرحلة الغيث والأمل، بالسلاسة المطلوبة، هو أن بعض الناس مترددون ولم يحسموا بعد مواقفهم و قناعاتهم، ولا زالوا منقسمين بين منزلة “فعل الاستنكار”، ومنزلة “رسوخ العزم على تغيير العبث” ورفع البلاء من خلال فعل سياسي هادف، عبر القنوات المؤسساتية، وعبر تعزيز المشاركة الديمقراطية، والاستعداد الصادق والفعلي لتصحيح خطأ الاختيارات الانتخابية السابقة. وأنا أقول هذا الأمر أجدني مضطرا للتأكيد على أن في الانتقال من “المنزلة الأولى” إلى “المنزلة الثانية”، ممكن جدا وبسهولة بالغة، خصوصا وأن الغالبية العظمى من الشعب المغربي قد اكتشفت كذب الوعود وضعف العرض السياسي الذي قدمه أعضاء “التحالف الحزبي” المساند للفاعل الحكومي، ووقف الناس على حقيقة أنه، من الآن حتى موعد الانتخابات المقبلة، هنالك استحالة في أن يحقق الفاعل الحكومي أي أمر هام، ولا أن ينجز ما يستحقه الظرف التاريخي الذي يمر منه الوطن. إلا أن نفس المواطنين لا زالوا ينتظرون بإلحاح أن يعبر عن نفسه ذلك “البديل السياسي” الآخر، أو تحالف بدائل سياسية أخرى، تكون منسجمة ومتناسقة، ولها من النضج ومن الفاعلية، ومن التصورات السياسية و البرامج والسياسات العمومية البديلة، ومن الالتحام بقضايا المواطنين في الميدان، ومن القرب من الضعفاء والفقراء والمعوزين، ومن الارتباط الاجتماعي الوثيق معهم، عبر قيادات من الصف الأول والثاني والثالث، تتميز بالقوة و الأمانة لتحوز الثقة في الاستحقاقات المقبلة، وترسخ من الآن اليقين لدى المواطنين أنها ستبلي البلاء الحسن بعد ذلك عند تقلد المسؤولية العمومية. وهنا لا يسعني إلا أن أثير انتباه كل الفاعلين، بمختلف حساسياتهم الفكرية والسياسية، ومنهم كفاءات وطنية صادقة أعتقد أن بإمكانها أن تكون بديلا محترما يساهم في إنقاذ الوطن من تبعات عبث التدبير الركيك للشأن العام، وأدعوهم إلى جعل سنة 2019 سنة الحسم و الوضوح في الاختيارات و في الخطاب وفي ما يقدم إلى الرأي العام، وذلك باعتماد الكفاءة والاستحقاق، والتجديد في أشكال التنظيم، والابتكار في التواصل السياسي وفي الخطاب، واعتماد القرب من قضايا الناس ومن همومهم، وتقديم إجابات واضحة للرأي العام تبين، ما أعرفه شخصيا في العديدين، من تسعيهم لخدمة المصالح العليا للوطن وتفضيلها عن أي حسابات ضيقة. والذي يجب أن تعرفه كل القوى التواقة إلى التغيير، كما على أحزاب الأغلبية الحكومية كذلك أن تعيه جيدا، ويجب أن يتصرف الجميع على أساسه، هو أن ذاكرة المواطنين لم تعد قصيرة كما كانت، وأن الأهم بالنسبة للناس، فيما سيأتي من أيام، هو أن يكون القول صادقا البديل ناجعا، وأن تكون ممارسات أصحابه متناسقة مع خطاباتهم. أما غير ذلك فسيكون سكبا للماء في برميل مثقوب، ولن يجدي نفعا أن ينفق المنفقون لتلميع الصورة أو بناءها إعلامي، كما لن تنفع برمجة مشاريع عمومية تتسم بالإرتجال و بالتسرع و الاستعجال، أو إظهار اللطف للمواطنين في الدقائق الأخيرة. ومهم تذكير البعض أن النضال السياسي لم ينطلق في المغرب مع دستور 2011، إنما كان ذلك الدستور تتويجا لنضالات سبقته، يوم كان الكلام من ذهب، وكانت المواقف تعكس العزة والإباء، و كان التدافع من أجل أن تتقوى الدولة الوطنية وتتعزز مؤسساتها، لا من أجل مشاريع مشبوهة قد تغرق السفينة بمن فيها. وعلى ذلك “البعض” أن يعي أن صيرورة تاريخ المغرب لا تُحتسب بالعُمر الحكومي، وألا يضيعوا علينا مزيدا من الوقت، لأن المغاربة، مهما علت أصوات الشعبوية والقهقهات وحملات التسفيه، سيظلون مفتخرين بمن صنعوا تاريخهم القديم والحديث، معتزين بسلاطينهم وملوكهم، وبزعماءهم ورموزهم السياسية بكل المشارب والحساسيات، وبعلماءهم ومحدثيهم، وبمفكريهم ومثقفيهم ونخبهم. و عليهم أن يعوا أن للمغاربة شرعية تراب هذه الأرض ولهم شرعية الأجداد والأباء، و أن لشباب هذا الوطن وشاباته يقين كونهم مغاربة حتى النخاع. قبل عشر سنوات، حمل خطاب جلالة الملك محمد السادس، بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء كلام حزم و وضوح حيث قال حفظه الله: “نؤكد أنه لم يعد هناك مجال للغموض أو الخداع، فإما أن يكون المواطن مغربيا أو غير مغربي، وقد انتهى وقت ازدواجية المواقف والتملص من الواجب، ودقت ساعة الوضوح وتحمل الأمانة… فإما أن يكون الشخص وطنيا أو خائنا، إذ لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة”. و والله إن هذا الكلام لراهني أكثر من وقت مضى، وعلى الجميع أن يتعظ. ألا يا قوم إن تاريخنا لا يدخله إلا أبناء الوطن الذين يتمثلون بفخر واعتزاز إنجازات رجالات المغرب العظماء عبر العصور، والذين هم لثوابت الأمة المغربية مخلصون، ولأماناتهم حافظون، و لمؤسسات دولتنا موقرون. ألا فاختاروا أي تاريخ تريدونه أن يذكركم: تاريخ وطن واحد جامع و معتز و شامخ نبني مستقبله سويا مع شباب هذا الوطن ؟ أم أنكم تريدون الهوامش..؟ سنة سعيدة بكل خير للجميع.