يفضل الساسة المغاربة استخدام عبارة “المشروع المجتمعي الديموقراطي الحداثي” ، وهي عبارة قد تصلح للاستهلاك الإعلامي والمزايدة السياسية الرخيصة المنفصلة عن أي خلق رفيع أم قيم إنسانية مؤثرة ،لكنها حتما لا تصلح للتنزيل الواقعي ، لا لأن هذا الواقع يبدي رفضه لهذه الأطروحة ولكن نظرا لكون ملامح المشروع المجتمعي الديموقراطي الحداثي الذي يتحدث عنه هؤلاء بحماسة قل نظيرها تحمل في طياتها صرخة نابعة من الأعماق تشجب كل هذا المكر والخداع .وإذا كان هؤلاء كالببغاوات التي لا تتوقف عن ترديد عبارة متجاوزة تم إفراغها من محتواها فإنهم يشكلون بذلك موضوعا للفرجة لا غير في السيرك السياسي المغربي الذي يعج بشتى أصناف النوادر والطرائف . أما إقحام “المقدس الملكي” ونسب هذا المشروع إلى عاهل البلاد وكأنه مشروع منزل من السماء لا يأتيه الباطل فذلك حديث آخر من شأنه أن يعرج بنا نحو الانحطاط الغير مسبوق الذي وصل إليه الأداء السياسي لبرلمان لا يمثل وحكومة لا تحكم ؛ فهذا يمثل مشروع الملك وهذا يشكل خطرا عليه ، والعكس بالعكس! إنها ترهات ساسة مغرب الألفية الثالثة الذين يتسابقون نحو كسب قشور الديموقراطية والحداثة ، وبغض النظر عن هذه الترهات فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح يسائلنا ؛ عن أي مشروع مجتمعي ديموقراطي حداثي يتحدث هؤلاء ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من تحليل الأكاذيب المؤسسة لهذا الخطاب وهي أكاذيب يلامسها المرء في واقعه اليومي ويجد فيها نوع من التسخيف الفاضح لعقل المرء من خلال الترويج لها ؛ أما هذه الأكاذيب فإنها : 1) أكذوبة المشروع المجتمعي : المتأمل للواقع المجتمعي المغربي لا بد أن يثيره المشروع المجتمعي المزعوم ، ولا بد أن يجد فيه علامات الفشل والإخفاق . فمن جهة سيجد نفسه أمام مشروع لا تربطه بالقاعدة الشعبية سوى صلة الربط التعسفي ، ومن جهة أخرى سيصل إلى مظاهر القصور التي تؤكد عدم مشروعية هذا المشروع . حينما نتحدث عن أهم عنصر من عناصر المشروع المجتمعي سنجده في حالة بعيدة كل البعد عن كل ما من شأنه أن يجمعه بالقيمين عليه ، بل وبهذا المشروع نفسه ! فما موقع المواطن في هذ المشروع ؟ لن نجر سوى أذيال الخيبة ونحن نحاول عبثا أن نجد مكانا محددا يعتبر فيه المواطن بمثابة المحرك الذي يحرك هذا المشروع المجتمعي . إن غياب المواطن ، أم بالأحرى تغييبه وتغييب رؤيته ، يقابله تغييب المواطن للمشروع المجتمعي القول النخبوي الفعل . وما نسب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية إلا خير دليل على أن المواطن يعتبر المشروع المجتمعي الديموقراطي الحداثي أكذوبة ظاهرها حق وباطنها باطل . قد يقول قائل ؛ وما علاقة هذا بذاك ؟ الانتخابات والعزوف السياسي شيء وموضوعنا المتعلق بالمشروع المجتمعي شيء آخر ! يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأنه هكذا ، لكن حينما نتأمل الأمر بعض الشيء تظهر العلاقة بين الانتخابات والمشروع المجتمعي ؛ أما الانتخابات فهي ليست مجرد آلية لتغيير النخب الحاكمة ، بل هي قبل ذلك بؤرة أي مشروع مجتمعي منتظر . وأما المشروع المجتمعي فحضوره أو غيابه هو الذي يدفع الناس فرادى وجماعات إلى الاهتمام بالشأن العام من عدمه . وأعتقد أن النظام المغربي لو كان يتوفر على مشروع مجتمعي حقيقي ما كان الوضع على ما هو عليه . و أعتقد كذلك بأنه لا يجوز لنا بعد الآن أن نضع تمييزا بين المشروع المجتمعي وبين الجانب السياسي ،ولا يهم إن كان مشروع حكومة ، أم مشروع برلمان ، أم مشروع ملك . لأنه لا أحد من بين هؤلاء له الحق في رسم معالم المشروع المجتمعي لوحده فالمشاريع المجتمعية أيها السادة هي ثمرة عمل تشاركي يعتمد أولا و أخيرا على القاعدة الشعبية . والمشاريع المجتمعية لا بد أن تنطلق من الهوية والتراث ، وأن تعمل على مزج الأصيل بالمعاصر ، لا عن استنساخ التجارب وتطبيق ديموقراطية صورية وحداثة تأخد بقشور التحديث . لكن دعونا نتطرق إلى الآثار المدمرة الناتجة عن غياب مشروع مجتمعي حقيقي ؛ إن المجتمع الذي ترتفع فيه نسب العزوف المجتمعي معرض لخطر التآكل الذاتي . وإلا كيف نفسر عزوف المواطن عن السياسة ، عن الثقافة ، عن الإعلام ، عن التعليم ، وعن الحياة المسؤولة برمتها ... لقد كان هذا الوضع الشاذ والخطير نتيجة حتمية لسياسة الإقصاء والترهيب ، ونتيجة لغياب مشروع مجتمعي يأخد بعين الاعتبار مصلحة الوطن والمواطن لا مصلحة السلطة والدولة . والنتيجة بادية الآن ؛ لأننا أمام غياب للحس الوطني وحضور للقيم الفردانية النفعية وتقديس للقيم المادية والمصلحية وتدنيس للقيم الروحية والفكرية .هذا هو الوضع مع كامل الأسف -وباعتراف الجهات المسؤولة نفسها مؤخرا- ولست أرى سببا مقنعا يدفعنا للاستمرار في النفاق والكذب على أنفسنا لأنه علينا أن نختار بين الانبعاث ونفض غبار التقادم عنا أم الاستمرار في الرقص فوق برميل بارود ! إن المسؤولية لا تقتصر على القيمين على المجال السياسي فحسب ، الذين كان فشلهم ذريعا وأثبتوا بما لا يدع مجالا للشك بأنه لا يصلحون لتدبير الشأن العام . لأنهم يديرون الأحزاب بالطريقة التي تسير بها المقاولات ، ويكدسون أصوات الناخبين في حملاتهم الانتخابية كما يتم تكديس السلع في المستودعات ، فيوزعون المناصب والمسؤوليات بالبساطة التي وزعوا بها الخطابات والشعارات . كل هذا عهدناه وصار مألوفا وخرج من باب العجائبية إلى باب الواقعية السحرية المغربية ! المواطن يتحمل المسؤولية الكبرى وعليه التحلي بالحس الوطني ليقوم بدوره وعليه أن يشعل شمعة في هذا الظلام القاتم تمكنه من ابتكار مشروعه المجتمعي ، الحقيقي لا الوهمي ، بدل انتظار نزوله من السماء! وذلك غير وارد إطلاقا ، فزمن المعجزات قد ولى ولا مكان في عصرنا للضعفاء أمثالنا ، إنه زمن الأقوياء وقوة الإرادة وحدها من تستطيع ضمنا إلى صفوف هؤلاء . 2) أكذوبة الديموقراطية : إن مصلحية المشروع المجتمعي تزيل عنه الصفة الديموقراطية ، لأن الديموقراطية هي حكم الشعب لنفسه بنفسه . فكيف يكون المشروع المجتمعي ديموقراطيا وهو يعمل على نهج سياسة للاستبعاد الاجتماعي ؟ يطرح علينا هذا السؤال آفة العزوف المجتمعي التي تدق ناقوس الخطر في مجتمع تتقاذفه أمواج الدمقرطة الصورية والتحديث الزائف ، فيلقى به في ظلمات الفردانية الضيقة وا لتقوقع على الذات . لسنا مجانبين للصواب إذا تحدثنا عن كون هذه الشريحة مستبعدة اجتماعيا ؛ لأن صعوبة الاستفادة من الخدمات العمومية وتدهور قطاعات التربية والشغل والسكن والصحة ...أدى إلى إصابة الأغلبية الساحقة بخيبة أمل كان العزوف المظهر البارز من مظاهرها .وغالبا ما يتم التركيز على مسألة العزوف الانتخابي ويتم تجاوز العزوف المجتمعي الذي يشمل كافة القطاعات الحيوية ، على ما قد تبدو عليه من اختلاف . لكنها تصب في مجرى واحد هو ضرورة إعادة النظر في مجريات الأمور وسبل تصريفها . لا شك في أن هذا الواقع يبيد الديموقراطية ، لأنها تتطلب مشاركة المواطن في صنع القرار ، وبابتعاده عن صناعة القرار تكون شرعية المؤسسات القائمة في مهب الريح !لقد أشهر المجتمع المغربي شهادة استقالته الجماعية ، ولسان حاله يقول ؛ كفى عبثا أيها السادة !لكن لا حياة لمن تنادي ، فمن يلتقط هذه الإشارات ؟ و من يستوعب الرسائل المضمرة والمعلنة ؟فبينما يعتقد المواطن بأنه ينتقم من الدولة ويدق مسمارا في نعشها ، ينتقم من نفسه ، ومن وطنه ، و هذا هو الخطير في الأمر ، إذ أن آثار العزوف المدمرة تمتد لتشمل وطنا بأكمله ؛ بشرقه وغربه ، وبشماله وجنوبه . فالمهم بالنسبة للدولة هو تلميع صورتها الخارجية والمصادقة على الاتفاقيات الدولية وإرساء دعائم الديموقراطية الصورية ، أما حديث الفاعلية المؤسساتية ومدى التقاط هذه الأخيرة للرسائل المضمرة والمعلنة فيبدو بأنها غير معنية به ، حتى إن لم تتجاوز نسبة المشاركة 37 في المائة في استحقاقات 2007 ! لقد كانت هذه الانتخابات انتكاسة حقيقية ومحطة تاريخية لا يمكن تجاوزها لأن الرقم يتحدث عن نفسه ، والباقي تفاصيل مريرة لا تخفى على عاقل من عقلاء البلاد ! ليست الديموقراطية مجرد مؤسسات قائمة أو انتظام في إجراء الاستحقاقات الانتخابية أو اشتغال على الترسانة القانونية ... كل هذا ضروري ومطلوب ، غير أنه مرتبط بالكم ، فماذا عن حديث الكيف ؛ هل تشتغل مؤسساتنا بالطريقة المثلى ؟ هل تجرى الاستحقاقات بالنزاهة المطلوبة ؟ وهل تطبق القوانين على الجميع ؟ وهل يتم إنزالها فعلا بطريقة ديموقراطية ؟ أم أن الأمر لا يتعدى تقليد الغراب للحمامة ! يكفينا التطرق إلى دور المؤسسة الملكية كمهيمن على الساحة السياسية ، وهذا واقع ينسف كل الشعارات المسوقة عن مغرب الديموقراطية والحداثة . فليس من الديموقراطية أن يكون البرلمان برلمان صاحب الجلالة ، وليس من الحداثة ان تكون الحكومة حكومة جلالته . فما الذي تنتظرونه من هذا المواطن الذي يعرف بأن الفاعل الأول والأخير هي المؤسسة الملكية ؟لا أضع الملك بالضرورة كعدو للإرادة الشعبية ، إلا أن الإرادة الملكية تبتلعنا ابتلاعا . إننا نريد برلمان الوطن ودولة المؤسسات لا دولة الأشخاص . 3) أكذوبة الحداثة : بداية لا بد أن نشير إلى كون الحداثة رؤية قد تختلف باختلاف المجتمعات ،فلا توجد حداثة واحدة ، وإن كان دعاة التحديث الزائف يثيرون ضجة في هذا الشأن ، وذريعتهم في ذلك كون الحداثة الغربية هي الوصفة السحرية التي تستطيع إخراج مجتمعاتنا من الانحطاط . فلكل مجتمع حداثته الخاصة ولا يوجد مجتمع من المجتمعات لم ينخرط في التحديث باعتباره ظاهرة أساسية يعرفها الإنسان في حياته .إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن يتم القطع مع الماضي ، كما يخيل للبعض ، فالحداثة امتداد ، وإن شئنا القول فإنها عملية إرساء دعائم الدولة الحديثة والمجتمع الحديث انطلاقا من الموروث باعتباره رافدا أساسيا لا يمكن تجاوزه . ويخيل لبعض دعاة التحديث العلماني بأن الحداثة هي الشذوذ عن كل ما يمت للموروث بصلة ،وهذا طرح لا يستقيم مع المنطق ، فالحداثة تنطبق عليها قاعدة التحول لا قاعدة الثبات ، لأن ما هو حديث في هذه اللحظة سيصبح قديما في اللحظات المقبلة ، وما كان بالأمس فكرا حداثيا يتسم اليوم بكونه فكرا رجعيا أصوليا ، فليس ثمة إطار زمكاني يحتكر الحداثة دون غيره من الإطارات الزمكانية . فالإسلام الذي يعد دين الدولة والذي يوصف بالرجعية كان بالأمس أكبر عملية تحديث يعرفها تاريخ البشرية ولم يحارب محمد صلى الله عليه وسلم من قبل قريش إلا لأنه خلخل السائد وجاء بفكر مبتدع أرسى دعائم الابتداع . وإنه لمن الحيف أن يتم تجاوز هذا التراث الإسلامي العريق ؛ فالنظرية الإسلامية الحداثية مختلفة عن غيرها من النظريات الماركسية والليبرالية اختلافا أساسيا وليس هذا مقاما لذكرها وللتفصيل فيها إلا أنها راعت مختلف جوانب الحياة الإنسانية وتعاملت مع الإنسان على أساس أنه كل متجانس فاهتمت بجوانبه النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في توافق عجيب لم يشهد التاريخ له مثيلا . وإذا كان المغرب قد انخرط ظاهريا في مسيرة التحديث فإنه باطنيا لم يحبو حبواته الأولى في هذا المجال .فكل ما هنالك تطرف حداثي لا يمت للحداثة بتراكماتها التاريخية بصلة ، والحداثة لا يمكن اختزالها في اتجاه معين يعمل على فرض حداثة هجينة دورها الهدم وليس البناء . إن العودة إلى ما يقدمه لنا الإعلام العمومي من مسلسلات تافهة غرضها ربطنا بالآخر واستلابنا حضاريا ، والتمعن في الاتجاه السينمائي السائد ؛ أوما يعرف بتيار الجرأة ، والتأمل في الكم الهائل من المهرجانات التي تحشر ضمن مجال الفن وما هي بفن ... يعطينا تصورا واضحا لا لبس فيه يفيد بأن التحديث الذي يتحدثون عنه يتم بطريقة شاذة وكاذبة . ونفس الامر ينطبق على التوجه الليبرالي المنفتح وهو توجه غني بالإخفاقات ؛ فالحداثة السياسية لم تتحقق ، والحداثة الثقافية أقبرت ، والحداثة التقنية أجهضت ...وحدها الحداثة الإقصائية من استطاعت أن تترك بصمتها وأن تعمل على إقصاء الدين والأخلاق والقيم من المشروع المجتمعي المزعوم . ويعد المشروع المجتمعي الديموقراطي الحداثي مشروعا لا يمكن للمواطن المغربي أن يتبناه بشكله الحالي لأن أسسه المجتمعية والديموقراطية والحداثية هشة ومن الطبيعي أن يكون البناء معرضا للانهيار في أي وقت وحين . فهذا المشروع المجتمعي يقوم على أساس احتكار السلطة من قبل فئة تمثل أقلية تتحكم في رقاب الأكثرية وهذا وحده سبب كاف لتسفيه هذا المشروع ، ليس لأننا نرفضه بشكل المنتظر ولكن لأننا نتجنبه في صيغته الحالية لأنه مشروع محسوب على المجتمع والديموقراطية والحداثة ظلما وعدوانا.