حملت الأخبار هذا الصباح نبأ وفاة أحد أعلام الأدب والفكر في العالم الإسلامي، وبموت هذه الشخصية يفقد النضال العلمي في مجال مقاومة الصهيونية أحد الأبطال الأفذاذ الذي عرف كيف يكون الجمع بين الانقطاع للعلم والرهبنة المعرفية ان صح التعبير وبين الوجود المستمر في الميدان، لقد كان الرجل وهو يصارع المرض يقف بشجاعة المومن وصدق العالم أمام التيار العاتي للتطبيع ومهادنة الاستبداد في امتداداته الداخلية والخارجية، ان الخسارة التي نمي بها النضال الفكري من خلال وفاة هذا الرجل لا يركها إلا من خبر كتابات الرجل ومواقفه وكان له حظ مصاحبته في الموسوعة أو في غيرها من الكتب والدراسات التي دبجتها براعته. ولاشك ان طلبته ومن تتلمذوا عليه مباشرة ربما سيحسون بفداحة المصاب أكثر من غيرهم، لقد كان الرجل حاضرا خلال الموسوعة وأخواتها من الدراسات والمقالات وخير مستشار وموجه لمن يريد معرفة حقيقة الصهيونية والفكر الصهيوني وما تسعى إليه هذه الفئة من الناس التي تسعى للفساد والإفساد وإثارة الفتن والحروب بين الأمم والشعوب. لقد كان الرجل في هذا الباب جيشا قائما بنفسه حيث كانت هذه الثغرة ثغرة فضح العدو وأساليبه علميا هي التي اختارها الراحل وقد استطاع ان يكون فيها قويا وصادقا ومخلصا واعتقد انه لم يترك للعدو فرصة لالتقاط الأنفاس، لقد كان له بالمرصاد يفضح أساليبه ويوضح مراميه لقد استغرقت الموسوعة من الفكرة إلى حين تهيئتها للطبع ما يزيد على ثلاثة عقود. ومن هنا ندرك أهمية هذه الموسوعة التي أراد لها الرجل أن تكون سلاحا في يد العلماء والطلبة والمفكرين والسياسيين والدارسين للصهيونية وأعلامها وما هي الخلفيات التي تحرك الصهاينة. وكان الرجل بما أوتي من فكر وعلم ومنهاج اختار كذلك ان يدافع عن قيم الإسلام الحضارية والعلمية، وان يتصدى لغلاة العلمانية وهو رجل نشأ علمانيا وحتى يساريا ولكنه أدرك ان القيم التي يدعوا إليها الإسلام وتضمن للإنسان كل ما يريده في حياته الخاصة وفي مجتمعه وان التطرف في جميع صيغه هو أسلوب مذموم وغير مناسب ولعل من المناسب الإشارة إلى أنه وضع كتابا بعنوان "نهاية التاريخ" قبل الياباني الأمريكي "فاكو ياما" مع الاختلاف في المنهج والمنحى والهدف طبعا. وقد افرغ الكاتب خلاصة تجربته الفكرية والعلمية والتحولات الفكرية التي عرفتها حياته في كتابه الرائع »رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر سيرة غير ذاتية غير موضوعية« ونختار من هذه السيرة الفقرة التالية وهي توضح متى عاد الكاتب إلى الجذور والى الذات: يقول في فقرة ختام كتاب الفردوس الأرضي. "وفي المرة الثانية، ذهبت بمفردي وعند عودتي كانت زوجتي وطفلانا وأخواتها ينتظرونني في المطار، وليلتها عدنا للمنزل وشربنا الشاي ولم أنم. وكانت هذه إحدى المرات النادرة في حياتي التي سمعت فيها صوت المؤذن عند الفجر". وقد سألني صديقي الناشر الأستاذ عبد الوهاب الكيالي رحمه الله عن معنى هذه الكلمة الختامية، فلم أجد ساعتها جواباًَ لسؤاله، ولكنني مع هذا أصررت على بقائها. وأعرف الآن أنني كنت أودع الشك، "فالتاريخ والفردوس في القلب" غير التاريخ المادي وغير الفردوس الأرضي، فهما متجاوزان لعالم المادة. وتصور الكلمة الختامية عالم التراحم وعالم الموت المفعم بالمعنى (في مقابل عالم التعاقد واللامعنى). وتنتهي الكلمة بسماعي صوت المؤذن عند الفجر أسمع صوته ولكتني لا أقيم الصلاة، فلم يكن قد حان وقتها بعد بالنسبة لي، ولم أكن قد انتقلت بعد من ضيق المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان. كنت أقف على العتبات أتأمل وأتفكر بلا توقف ولا هوادة، وكان علي أن أنتظر بضع سنوات أخرى قبل أن أقيم الصلاة. رحم الله عبد الوهاب المسيري ولا نامت أعين الصهاينة.