تناول الأستاذ الزعيم علال الفاسي المسألة الدستورية في الباب الثاني من كتابه (النقد الذاتي)، الذي خصصه لموضوع (التفكير بالمثال)، في مبحث (الفكر السياسي)، حيث يقول في الصفحة 142 (من الطبعة الأولى الصادرة عام 1952 في القاهرة) : «إن الديمقراطية المغربية يجب أن تقوم على أساس النظام البرلماني. ومن المعلوم أنه ليس كل بلاد ذات مجالس نيابية تعد من ذوات البرلمان. ولكن كيف يمكن أن يشكل البرلمان؟. هل من المصلحة أن نؤيد منهج الثورة الفرنسية الكبرى، فنكتفي بمجلس واحد؟، أو من اللائق أن نتبع التعداد الذي وقع في النظام النابليوني؟ أو نسلك الأسلوب المتبع اليوم في أغلبية البلدان الديمقراطية، وهو تكوين مجلسين، مجلس النواب ومجلس الشيوخ أو الأعيان أو ما أشبه؟». ثم يمضي معقباً على هذه النظم البرلمانية بقوله : «إن لكل واحد من هذه الأشكال محاسنه وعيوبه، فمن واجبنا أن ندرسها كلها ونختار الأوفق لصالح بلادنا». وبذلك يفتح الكاتب المجال لإجراء دستوري معمول به في المجتمعات الديمقراطية، وهو مراجعة مواد الدستور كلما اقتضت المصلحة العليا العمل بنظام الغرفة الواحدة للبرلمان. ويذهب علال الفاسي في معرض آخر من هذا المبحث، إلى القول : «إن الرغبة في إعطاء الشعب حقه في الرقابة والاقتراح، تستدعي تنظيماً عاماً للشعب، وتنظيماً للهيئة أو للهيئات النيابية التي تمثله، مثلما تقتضي تنظيماً حكومياً قائماً على الأسس الديمقراطية الصحيحة. ونحن لا نريد فرض نوع من أشكال الدساتير على الأمة المغربية، لأن ذلك لا يمكن أن يقوم به فرد واحد، بل لابد أن يقع بعد الاستقلال من مجمع شعبي منتخب. ولكن يمكننا أن نعتبر أنفسنا منذ الآن في الاتجاه الملكي الدستوري». ولابد أن نضع في الاعتبار أن هذا الكلام كتب في الفترة الفاصلة بين سنة 1949 وسنة 1951، وهي الفترة التي نشر فيها علال فصول (النقد الذاتي) في حلقات بجريدة (رسالة المغرب) يوم كانت تصدر في شكل جريدة برئاسة تحرير الأستاذ عبد الكريم غلاب. ويقول علال في هذا السياق أيضاً، معبراً عن إحدى الأفكار الرئيسَة التي آمن بها والمبادئ الدستورية التي تبناها دائماً وعاش مناضلاً من أجلها : «.. إذا كانت الأجيال السالفة قد علمت جمهورنا وحتى مفكرينا عدم المبالاة بكثير من أمور الأمة، فإن من واجبنا أن ننبّه الشعب إلى ضرورة العدول عن هذه العادة المفسدة، ونعمل على بعث الوجدان السياسي (أي الوعي السياسي) حتى تعود الأمة إلى الاهتمام بشؤونها ومراقبة أعمال حاكميها والمطالبة بإعطاء هذا الاهتمام والمراقبة الوسائلَ الدستورية العصرية التي تمنع من العبث بحقوق البلاد وحرمان أبنائها من المشاركة في تدبير شؤونهم والإشراف عليها». والوسائل الدستورية التي يشير إليها علال هنا، هي السلطة التشريعية والرقابية المتمثلة في مجلس النواب أو البرلمان أو مجلس الشعب أو مجلس الأمة، حسب الاسم الذي يعطى لها في بلد ما. فهو يرى أن ممارسة الشعب للرقابة على أعمال الحكومة واهتمامه بالشؤون العامة للبلاد، لابد أن يتما عبر القنوات الدستورية، أو ما عبر عنه بالوسائل الدستورية. في تلك المرحلة الدقيقة من مراحل كفاح الشعب المغربي من أجل التحرير والاستقلال، دعا علال إلى الاستفادة من تجارب الأمم الدستورية. وهو يقول في هذا الصدد : «إن بقاءنا في المؤخرة يفرض علينا أن نستفيد من تجارب الآخرين، ولابد أن نعير التفاتاً مهماً إلى بلاد الديمقراطيات الشعبية وما قامت به من أعمال. يجب أن نستفيد من كل التجارب الإنسانية، إذ ليس في الدنيا نظام باطل كله ولا حق كله، وإنما هي مجموعات من النظريات أحدثتها عوامل الاجتماع والنفسيات ودفاع الناس بعضهم بعضاً، فينبغي أن نستفيد منها كلها، وأن نعمل على الخضوع لعواملنا نحن وما تقتضيه مصالحنا ومطامحنا». وبعد أن قارن بين النظام الدستوري في كل من فرنسا وإنجلترا، يخلص علال الفاسي إلى القول : «إن الحكم يجب أن يكون مبنياً على أساس الاشتراك المقبول بين الأمة ورؤسائها. ونحن نعتقد أن المسؤولية الوزارية خير حل للمشاكل التي تعرض لأنظمة الحكم، وهي ضرورية لكل الحكومات، سواء كانت ملكية كما هي بلادنا، أو جمهورية مثل فرنسا وغيرها». ثم ينتقل إلى طرح فكرة رئيسة على قدر كبير من الأهمية يصوغها في قوله : «إن جلالة الملك هو وليّ الأمر في القضاء وفي الحكم، وكما أن القاضي منفذ للقانون بالنيابة عن الملك، ولكنه هو الذي يتحمل مسؤولية الأحكام التي يمضيها، كذلك يجب أن يكون الوزراء منفذين لشؤون الدولة باسم جلالته، ولكن على شرط أن يتحملوا مسؤولية ما يمضونه من أعمال أمام جلالته بصفته ولي الأمر، وأمام المجالس النيابية يوم يتم تحقيق ما نصبو إليه من نظام دستوري متين، بعد الاستقلال طبعاً». ويفسر علال هذه المسألة المهمة التي تدخل في صميم المسائل الدستورية، بمزيد من الإيضاح، فيقول في الصفحة 138 : «إن وجود العرش الكريم كاف لتكوين المحور الذي قام ويقوم عليه نظامنا القومي (الوطني)، لكن لابد من إعطاء العرش وصاحبه، القيمة الحقيقية التي يقتضيها العهد الجديد، وإبعاد كل العوامل التي تزيل عنه صفة الاستقرار وحفظ التوازن الصحيح بين أفراد الأمة وطبقاتها وهيئاتها. وذلك يستوجب قبل كل شيء، النظر إلى صاحب العرش جلالة الملك كشخصية فوق كل الأحزاب وسائر الاعتبارات السياسية التي يمكن أن يتناقش فيها الرأي العام، بصفته الحارس الأمين لسير السلطة وأعمالها، ويجب أن تتكون من حوله صوفية الاستقرار الحكومي والوعي الوطني والاستمرار الوجودي للدولة». إن علال الفاسي يقصد بقوله (صوفية الاستقرار الحكومي) طهارة هذا الاستقرار ونزاهته وقيامه على أسس راسخة وانبثاقه من المسؤولية الوزارية. أي أن يكون استقراراً حقيقياً لا تهزه الأزمات مهما تكن. وإذا استحضرنا أن هذا الكلام كتب في عهد الحماية، في فترة حالكة خيم فيها اليأس وبلغ فيه القمع الذي سلطته الإدارة الاستعمارية على المغاربة، الدرجة العليا في الوحشية والهمجية وانتهاك القوانين الدولية، نجد أنفسنا أمام مفكر سياسي حكيم ينظر إلى المستقبل بقلب ممتلئ بالأمل والثقة في النصر، لا تشغله مشاكل المرحلة وتحدياتها وصعوباتها وتعقيداتها والظروف القلقة التي كان يعيشها شعبه ووطنه، عن التفكير في أهم مسألة دستورية تتعلق باختصاصات الملك، وبالدور الذي يقوم به، أو بالأصح الذي سيقوم به بعد الاستقلال، لتعزيز استقرار الدولة المغربية، وانتظام مسيرة العهد الذي سيأتي، والذي يعبر عنه علال ب(العهد الجديد)، وكأنه عهد واقع وقائم. يصدر علال في تسجيله هذه الأفكار الرائدة بحق، عن إيمان بمبدإ من المبادئ التي تشكل القاعدة الدستورية الراسخة، وهو (العرش بالشعب والشعب بالعرش)، لأن الكل يقول علال متفق على أن الخير في تحقيق إرادة الأمة (الشعب) على أساس هذا المبدإ، وعلى قاعدة (الفرد للجماعة والجماعة للفرد) و(ليس في الأمة فرد لا يمكن أن تستفيد منه البلاد، كما أنه ليس فيها شخص لا يتوقف على عون الآخرين ومساعدتهم) (صفحة 142). إن هذا الإيمان بهذا المبدإ الدستوري، يقود إلى التأكيد على مسألة دستورية أخرى يعبر عنها علال بقوله : «فالمسألة إذن مسالة التضامن التام بين الملك والحكومة والأمة لحماية التراث الروحي والمادي لهذا الشعب المجيد». وكثيرة هي الأفكار الدستورية التي انشغل بها علال في تلك المرحلة، أي قبل الاستقلال بنحو ست سنوات، وعبر عنها بثقة كاملة في كتابه الرائد (النقد الذاتي).