يوم السبت 17 دجنبر2011م كانت ليلة هجرة بامتياز ، بحثا عن أفق جمالي وفكري في فضاء المكتبة الوسائطية بمركب الحرية بفاس. جلسة أدبية خاترة حضرتها تشكيلة من الجيلين (القديم والجديد) في النقد الأدبي المغربي : د. نجيب العوفي - د بشير القمري- د. حسن بحراوي - د.إدريس الخضراوي ، مع حضور كتاب وشعراء وإعلاميين ، وجمهور من رواد المركب الثقافي. أعطى الانطلاقة مسيرالجلسة الشاعر عزيز الحاكم لتبدأ الهجرات : هجرة من الشعر إلى الرواية ، وأخرى من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط إلى نظيرتها الشمالية . هجرة من إفريقيا المتخلفة إلى أوروبا وأمريكا المتحضرتين ، وأخرى من الحياة إلى الموت. هجرة المرأة الأوروبية الباردة إلى الرجل الإفريقي الفحل / الملتهب . تبعتها رحلة في اتجاه الضفة الجنوبية إلى مدينة طنجة المغربية لتعيد لها ألقها العالمي ، وأيضا بحثا عن متعة مفتقدة في الشمال البارد جنسيا. لهذه الأسباب يمكن اعتبار رواية "جيرترود" رواية هجرة بامتياز. صالون فاس للثقافة والإبداع وبتعاون مع نادي الكتاب بالمغرب ، ودعم من مندوبية وزارة الثقافة بفاس / بولمان ، فتح ذراعية لهذه الرواية المغربية العربية / العالمية ، لأنها تعج بكل رواد ورموز الأدب والفن في العالم ، وأيضا لكاتبها حسن نجمي الشاعرالمغربي المهاجر بدوره من الشعر إلى الرواية ، الذي خط لنا بشعرية السرد واحدة من أجمل الروايات المغربية المعاصرة ، " يدعو فيها الكلمة الجميلة الدافئة ، فتأتيه عفوا صفوا " كما يقول عنه الناقد الكبير نجيب العوفي ، فيعطينا آية من آيات العشق السردي. وهي كما يقول عنها نجيب العوفي دائما : " لحن متميز في الرواية المغربية ، بسبب طرافة موضوعها وظرافة أسلوبها " ، وهي أيضا رواية أصيلة لأنها هيئت على نار هادئة بعيدا عن العجلة (خمس سنوات من الاشتغال)، أخذ صاحبها العدة على مهل لإنجاز هذا العمل الروائي ، تتبع فيها مصائر بعض شخوصها العالميين ، فكانت رواية على روايات أخرى. طلب محمد الطنجاوي المغربي (الذي لن نفشي سرا إذا قلنا أنه محمد شكري صاحب الخبز الحافي) الشخصية المحورية الثانية في الرواية ، من السارد حسن أن يكتب عنه بالنيابة سيرته مع صديقته "جيرترود" الأديبة والناقدة الأدبية والفنية الأمريكية الجنسية الألمانية الأصل. غلاف الرواية هو عبارة عن بورتريه كان قد رسمه لها بيكاسو ، أحد أصدقائها المقربين ورواد صالونها الأدبي في باريس. وهي كما تبدو عادية ، لكن فيها شيء من الموناليزا كما يقول عنها نجيب العوفي . امرأة أرستقراطية تقيم في باريس ، ولوعة باقتناء لوحات كبار الرسامين والفنانين وتكتب عنهم ، لها صالون مشهور يرتاده علية القوم ومشاهيرهم مع زوجاتهم ، إضافة إلى لائحة طويلة من كبار الدبلوماسيين والأدباء العالميين في بداية القرن العشرين. تعرف عليها محمد الطنجاوي المغربي كدليل سياحي في مدينة طنجة ، ونشأت بينهما علاقة حميمة ليكون هو أول من يفض بكارتها ، ومنذئذ ستصبح شغلا شاغلا له. وبحثا عما خفي من معلومات ستنشأ علاقة أخرى بالموازاة مع الرواية الأصلية ، ستجمع حسن السارد بأمريكية أخرى ، ليسكنه شيطان ثان بعد شيطان الشعر، وكأن السارد أراد أن " يعولم أو يأمرك" الرواية المغربية. شعرية الرواية " ليست كامنة في مجرد حكيها ، بل في طريقة وأسلوب حكيها بلغتها الجميلة الناصعة " (كما يقول العوفي دائما) ، وهي أيضا برنامج سردي مدروس عن سبق إصرار. هي رواية فاتنة وساخنة ، في معظم أحداثها وجود فعلي على أرض الواقع بعيدا عن لغة الانزياح والشعر. "جيرترود" رواية طويلة النفس مغربيا (335 صفحة من الحجم المتوسط) تتوزع تبعا وعطفا إلى أزمنة وأمكنة ناغلة بشخوصها وأمكنتها (الرباط - باريس - نيويورك – طنجة - ...) ، تبتدىء من نقطة النهاية وترتد إلى الوراء لتدور حلزونيا (الحكي من الذيل). تبتدىء الرواية من احتضار محمد الطنجاوي إلى بداية اللقاء مع "جيرترود" وصديقتها " أليس" في طنجة ، فتتقاطع الأحاسيس مع تقاطع الأمكنة والأزمنة ، ويبقى صالونها العصب الجامع لسحرها. ظهر حسن نجمي في هذه الرواية وصافا مساحا ، لا يترك شاردة ولا واردة إلا ووصفها ، كأنه واحد من ضيوف صالونها الممتلئ بكل المتناقضات : الحب / الجسد / الوحدة / الموت / الحياة. كما أنه يمكن وضع رواية "جيرترود" في المنزلة الوسطى بين السيرة والرواية ، لأنها تعزف على الوترين معا . الدكتور البشير القمري من جهته ركز على أن "جيرترود" هي تحصيل حاصل ، وتكسير الأشكال كي تقدم لنا بديلا . هي نص يشكل انزياحا في تصور دينامية الشكل وعناصر أخرى ، من خلال اللغة في تقاطعاتها المختلفة مع نصوص سابقة لمحمد برادة ، العروي والأشعري . هو نص نثري ، لكنه يحمل بين ثناياه رموزا شعرية ولغة كثيفة ، محملة بالكثير من الإيحاءات التي تقربنا من الشعر. كما أن السارد يأتي من الخلف (كما يقول) لكنه عين لاقطة لأزمنة وأمكنة متعددة. نص "جيرترود" نص نسائي بامتياز ، مبني على علاقات خدماتية من نوع خاص : (خادمات - سيدات مجتمع - غجريات -.... فيه على الأقل 100 امرأة) . كما أنه ثري داخليا أيضا ويحتضن جنسيات وديانات مختلفة ( المسلم / اليهودي / البوذي / المسيحي / اللا- دين له...) .هو نص يطرح في الأخير مسالة النص الروائي و علاقته بالشعر والهجرة. الدكتور حسن بحراوي وفي مداخلته ركز على أن الرواية تلج المماليك المهمشة ، و" جيرترود " كرواية تفصح بشكل خاص عن موسم هجرة الشعراء إلى الرواية : ( محمد الأشعري - بنسالم حميش- حسن نجمي - ...). وأظهرت أن الشعراء بارعون في كتابة الرواية ، عكس ما كتبه الروائيون من شعر. لأن الشعراء يوفقون في كتابة الرواية ، لغنى ذاكراتهم خيالهم وقواميسهم اللغوية. والرواية كما يقول عنها باختين مثل الإسفنج تمتص الأشكال الأدبية كلها (شعر- قصة - ... إلخ) مما يعطيها جمالية أكبر. "جيرترود" ليست رواية مزاج ، لكنها تقدم الدليل على أن الكدح اليومي والعمل والجهد المضني ، يمكن أن ينتج عملا روائيا جيدا وجادا. لذلك يمكن اعتبارها " رواية حداثية وتجربة جديدة وجيدة في الكتابة والأسلوب ، تنزاح عن القوالب التقليدية وتستعمل أدوات جديدة ، كما يمكن القول كذلك أنها رواية جميلة عن امرأة سيئة الحظ ، جاءت إلى باريس في فترة ما بين الحربين ، وهي الفترة التي استقطبت فيها مدينة الأضواء : همنغواي - إميل زولا- بيكاسو- هنري ماتيس - جاك جاكوبسون- بول بولز- محمد شكري..وغيرهم. وقد أشار إرنست همنغواي بدوره إلى "جيرترود " الأمركية ، في روايته " الوليمة المتنقلة " ووصفها فيها بكونها امرأة متسلطة ومسترجلة ، وهو ما عكسه بيكاسو أيضا في لوحته. وستأتي "جيرترود" التي ينطقها آخرون بالكاف الغليظة في مواقف أخرى ، كونها هي من أشارت على (بول بولز) الكاتب الأمريكي صاحب كتاب " شاي في الصحراء" الذي استقر في المغرب ، بأن يرحل إلى طنجة ، حيث " سيجد فيها ما يشتهي و ما يبحث عنه..." كما نصحته صديقته "جيرترود". الدكتور إدريس الخضراوي (من الوجوه الجديدة في النقد المغربي) أشار إلى أن الاشتغال العميق على اللغة في الرواية منحها خصوصية وفرادة ، مما جعلها تقدم شكلا جماليا مقنعا في العمل الروائي الذي عكس وعيا حادا بالغربة. الشاعر والروائي حسن نجمي والرئيس السابق لاتحاد كتاب المغرب ، عبر عن عميق سروره بهذا الاحتفاء بروايته في مدينة فاس العالمة / مدينة العلم والعلماء ، لكنه وفي تواضع منه أشار كذلك إلى أن هذا النص الروائي ليس فتحا مبينا في الرواية المغربية / العربية ، وليس أفضل من النصوص الأخرى التي سبقته. كما " أن كتابة الرواية ليس تخليا عن الشعر ولا هجرة منه ، لكنه سفر ووقوف في محطة ثم الرجوع إليه " ، واعتبر أن التجربة مجرد لحظة واعية وجمالية ، كما أنها " تجربة جديدة وليست تكرارا لتجارب أخرى ، كما أنها ليست نوعا من الهروب إلى الماضي ، بقدر ما هي انتصار لقيم جديدة وحداثية ".