يجد الباحث وهو يقلب صفحات الكتب التربوية القديمة, أن أصحابها قد انتبهوا إلى كل شرائط التعليم والتعلم سواء تعلق الأمر بالمعلم أو المتعلم أو المادة المعلمة. وقد زاد في قدرة هذا الاهتمام دفع الملوك والخلفاء بأبنائهم. وتحاول هذه الورقة الإجابة عن الأسئلة التالية: ماهي تصورات ابن سينا حول التربية؟ وكيف رسم دوري المدرس والمتعلم؟ وهل هناك من إمكانيات لتحيين هذه الأفكار وجعلها صالحة للعصر الحاضر؟ من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة ننطلق من كتاب السياسة لابن سينا [1] الذي عني بنشره وتعليق حواشيه: لويس معلوف اليسوعي, والدي وضع في توطئة الكتاب ندرة هده النسخة وإغفال المترجمين القدماء لمكانتها كابن أصيبعة. كما حدد في المقدمة نفسها حدود الالتقاء بين ابن سينا والفارابي في التصنيف في السياسة، من خلال أبواب رسائلهما فكلا الكاتبين يريان أن السياسة على وجه الإطلاق هي تلافي الخلل وإصلاح ما فسد. يقسم ابن سينا كتابه إلى خمسة أقسام:1 في سياسة الرجل نفسه 2في سياسة الرجل دخله وخرجه 3 في سياسة الرجل أهله 4 في سياسة الرجل ولده 5 في سياسة الرجل خدمه. صدر ابن سينا على عادة المؤلفين في حضارة الإسلام كتابه بخطبة وافية بين فيها أولا: الحكمة الإلهية من التفاوت بين الناس في الصفات والرتب حيث قال:"وكل ذلك من دلائل الحكمة, وشواهد لطف التدبير' وإمارات الرحمة والرأفة."[2] ثانيا: وجوب السياسة والحاجة إليها عند جميع الناس ثالثا: السبب في تقسيم الرسالة إلى تلك الأبواب الخمسة التي تبرز سقيتها للقارئ . إذ إن قراءة مقطعية لها تظهر اهتمام ابن سينا بمعيار الزمن في هذا التقسيم. فكل رجل يكون في البداية وحيدا, ثم ما يلبث أن يتزوج , ثم يلد أولادا, ثم يحتاج مع كثرة مشاغله الى الخدم تميزت رسالة ابن سينا لاقتصاد الغوي والتكثيف الدلالي. إذ لم يهتم فيها بالتصريح بمراجعه أو بالأحرى النصوص المعتمدة,: قرآنية كانت حديثية أم فلسفية إذ كان همه الإيجاز والاختصار. يهمنا من هذا الكتاب وارتباطا بموضوع هده الورقة باب سياسة الرجل ولده. وهو الباب الرابع من الرسالة. والذي يبرز لنا ما يلي: 1: مضامين المرحلة: يطلب ابن سينا التركيز على تأديب الصبي بعد الفطام و رياضة أخلاقه وجوب التواب والعقاب من خلال وترغيب الصبي إذا نجح وترهيبه إذا أخفق.و لابن سينا إشارة لطيفة في أهمية الشدة مع المتعلمين إد يقول:"فإن احتاج(يقصد مؤدب الصبي) إلى الاستعانة باليد فليحجم عنه, وليكن أول الضرب قليلا موجعا, فإن الضربة الأولى إذا كانت موجعة ساء ظن الصبي بما بعدها، واشتد منها خوفه، وإذا كانت الأولى خفيفة غير مؤلمة حسن ظنه بالباقي فلم يحفل به."[3] 2: محددات النمو: يضع ابن سينا مجموعة من محددات النمو الفيزيولوجية بالأساس والمعتمدة على الملاحظة البصرية يقول:"فإذا اشتدت مفاصل الصبي واستوى لسانه وتهيأ للتلقين."[4] 3: التدرج في بناء التعلمات. يدعو ابن سينا الى التدرج في تعليم الصبيان من خلال: البدء بالرجز ثم القصيد لما في رواية الرجز من سهولة. كما يركز على التعلم باعتماد المقاربة بالقيم. من خلال وجوب تعليم الصبي ما يدل على فضل العلم وبر الوالدين واصطناع المعروف. 4: دينامية الجماعة ودور جماعة القسم. يتعامل المدرس في ممارسته الفصلية، مع قسم مكون من مجموعة من التلاميذ نستطيع أن نطلق عليها جماعة القسم وهي"الجماعة النظامية التي ترتبط بالمؤسسة الرسمية.التي تحدد نظامها، واختصاصاتها، وأهدافها. وتتميز بكونها جماعة عمل نوعية مركبة من المدرس/التلميذ، تتحدد العلاقات داخلها بحسب تركيبة أعضائها، وبحسب المهمة المنوطة بهم."[5] إن هذه العلاقات التي تتحدد داخله هي التي أشار إليها ابن سينا موضحا الدور البارز لأقران المتعلم يقول:" وينبغي أن يكون مع الصبي في مكتبه، صبية من أولاد الجلة، حسنة آدابهم مرضية عاداتهم، فإن الصبي للصبي ألقن وهو عنه آخذ، وبه آنس. وانفراد الصبي بالمؤدب أجلب الأشياء لضجرهما. فإن راوح المؤدب بين الصبي والصبي، كان ذلك أنفى للسآمة وأبقى للنشاط، وأحرس على التعلم والتخرج..."[6] أوردنا هذا النص رغم طوله، لاسترفاد الآراء التي حاول ابن سينا إنضاجها حول دينامية الجماعة، من خلال إيمانه ب: - ضرورة حضور أقران مع المتعلم في زمن التعلم. - وجوب اتصاف أقران المتعلم بحسن الأدب والعادة - حضور الأقران، يوجب المراجعة والمعارضة ، والمباراة وهي عوامل تحفيزية للصبي على التعلم
5التوجيه ومراعاة الفروق الفردية. لا شك أن للتوجيه أهمية كبرى داخل سيرورة التربية والتعليم، فغالبا ما يؤتي التوجيه الصحيح ثماره، بينما يكون للخروج عن سكة التوجيه الصحية والسليمة، عواقب على الموجه خاصة والتعليم عامة، لما في ذلك من تضييع للوقت و إحباط للنفس. ويقدم لنا ابن سينا رأيه حول التوجيه في رده مسألة الاختيار إلى العالم الغيبي الخاص بالمعرفة اللاهية. يقول:"ولهذه الاختيارات وهذه المناسبات والمشاكلات أسباب غامضة وعلل خفية تدق عن إفهام البشر، وتتلطف عن القياس والنظر، لا يعلمها إلا الله جل ذكره"[7] غير انه يقدم لنا اقتراحا بخصوص التوجيه، وهو - مراعاة الميولات الخاصة بالمتعلم - سبر قريحة الصبي واختبار ذكائه، قبل توجيهه - يقول"فلذلك ينبغي لمدبر الصبي، إذا رام اختيار الصناعة، أن يزن أولا طبع الصبي، ويسبر قريحته، ويختبر ذكاءه، ويختار له الصناعات بحسب ذلك"[8] على سبيل الختم: محاولة للتحيين في هذه الفقرة الأخيرة، وعلى غرار سائر البحوث سنحاول الوقوف عند اهم الخلاصات التي انتهينا إليها.والتي يمكن إجمالها فيما يلي: - وجود رصيد كبير من العلوم التربوية الاسلامية في كتب القدماء - وجوب مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، واختيار مضامين كل مرحلة - الاهتمام بمسألة التوجيه من خلال اختبار ميولات المتعلم تدعونا جميعا هذه الورقة بعد التشريح المقطعي لنصوص ابن سينا الخاصة بسياسة الرجل ولده إلى:
• إعادة النظر في المقررات الدراسية بالتركيز على مبدأ التدرج و إظفاء طابع فيمي عليها • إعادة الاهتمام أكثر بمسألة التوجيه، وعدم تركها في مهب ريح رغبات المتعلمين. وذلك بإقرار روائز ختامية ترمي إلى اختبار ميولات المتعلم وقابليته لمسايرة الخط الذي اختاره • اعتبار الشدة مع المتعلم، خارج نطاق العنف، والذي يعتبر مرفوضا داخل المؤسسات التعليمية. والتفكير في منهاج خارج المقررات يسعى إلى بث روح المشاركة والعطاء بين جماعة القسم. نأمل أن نكون بهذه المحاولة، قد وضعنا لبنة في صرح التربية والتعليم، الذي يجبان يتجند له الكل، والإحساس بمكانته باعتباره من ثاني الأولويات بعد الوحدة الترابية. في سبيل بناء مغرب اليوم والغد.