لعبت الموسيقى دورا إ يجابيا في تربية مشاعر و عواطف الانسان ؛ ثم قامت بتلطيف همجياته و ساهمت في بناء حضارته الجبارة عبر مراحل التاريخ البشري منذ ملايين السنين . قامت ايضا بتربية و تهذيب اخلاقه ؛ و أفادت في نمو عقله و جسده كما اشار الى ذلك الفيلسوف الاغريقي افلاطون ( الموسيقى غذاء العقل و الرياضة بناء الجسم ). في موضوعنا سوف نتطرق الى شرح العلاقة السيكولوجية التي تخص الموسيقى . فهذه العلاقات تربط بين الموسيقى و علم النفس كما توصل الى ذلك عالم الانتروبولوجيا Alain Merriam بان الموسيقى لغة انسانية غير لغة الكلمات؛ لها وظائف بيولوجية و سيكولوجية و سوسيولوجية و بيداغوجية منها الكثير. و غير ذلك من الوظائف الأخرى كالتمثيل الرمزي؛ و النشاط الاجتماعي الذي يظهر و يكمن في المظاهر الخارجية التي تتجاى في الطقوس الدينية و الحفلات الشعبية . سوف نقوم بتشريح لمعزوفة بميكانيزمات سيكولوجية بواسطة الأداء او التفسير الموسيقي. و قبل بداية الاستماع لا بد أن أطرح عملية تبين لنا طريقة (اوطوبيسية) للقطعة الموسيقية ذات دلالة نفسية مؤثرة التي يتميز بها مؤلفها F.Tarrega بعنوان الدمعةLagrima :. يعد مؤلف هذه المعزوفة من المؤسسين الأوائل للمدرسة الحديثة للقيثارة الأكاديمية؛ عاش في المرحلة الرومانسية التي ظهرت فيها قوالب و اشكال موسيقيةجديدة و التلوين الصوتيChromatisme.اطلق عليه بعض النقاد (عفريت القيثارة) لمهارة اصابعه التي تلعب على الأوتار بسرعة شيطانية و باتقان يثير اعجاب المتلقي. كتب طاريغا الدمعة في قالب prélude؛ بحركة معبرة و ذلك تحت انامل العازف الذي يعيد خلقها في حين تنبعث نغمات شبيهة بقطرات الدموع تحدث الحانا عاطفية تدخل في اعماق المتلقي. و مدة زمنها 2د و 30 ث.لكن مفعولها طويل الأمد .و من الاسباب الرئيسية التي جعلته ان يبدع هذا اللحن هو فقدان بنتيه. فتاثر تاثيرا عميقا فعبر عن بكائه و ألمه و حزنه و عن الأسى الذي غمر وجدانه بكتابة هذه المعزوفة –الدمعة-. و المطلوب من المؤدي ان يبلغ أحاسيس المؤلف الى المتلقي بصور جمالية و بمتعة حسية و بخيال يقود الى عالم الجمال. بداية العمل ينشطر الى شطرين في النظام المقامي الكبير و الصغير ثم الى ثلاثة اقسام. 1-القسم الاول .A في مقام (مي.ك) Mi. M انطلاقا من نوطة صول# مقامية في درجتها الثالثة‘ فهي نقرات تصاحبها نوطة على الوتر Si في حد ذاتها تحاكي قطرات الدموع ‘ بما تحرك انفعالاتنا مداعبة بخيالنا. حينها تقوم ذاكرة العازف بتوجيه اصابعه باستدعاء ما كان يدرسه أو يستمعه في إعادة خلق اللحن الذي يقوم بأدائه. و أما المتلقي ينسجم مع ظروف مختلفة للذاكرة و ارتباطاتها النفسية و الفيزيولوجية و سرعة تجاوب جهازه العصبي. فالخبرات التي يكتسبها المستمع بواسطة الموسيقى تلعب دور إلهام ليس في متعة ثقافية فحسب ‘ بل أيضا تمثل اساسا لتشكيل مستويات ذوقه و إحساسه بالحضارة و الفن و التاريخ. حينما يعاد اللحن الأساسي مرة ثانية يضفي عليه تلوينا يختلف عن الأداء الاول حتى يشعر المتلقي أن هناك تمايزا في النغمة بين الاداء الاول و الثاني‘ بما ينجم عن ذلك انطباع عقلي مصحوب بالخيال. من هنا تقوم الدوائر العصبية بعمل على ترديد او ترجيع اصداء الاصوات تجعلها قادرة على انتاج التغيرات في كمياء المخ . بمعنى ان المتلقي و العازف انفعلت حواسه لإبراز مهارة الإدراك و الإبهار عند الاول و مهارة الاداء عند الثاني. إن علم النفس يقدم تفاسير عدة للفنانين المؤدين من اجل مزيد من الفهم لأنفسهم و كذلك إلى بلوغ مرتبة عالية في الاداء حتى يتمكن لعلم النفس ان يتفحص العلاقة بين المؤدي و المتلقي. لكن على العموم دائما يسعى المتلقي إلى ما هو اجمل ليسعده و يشعره بالبهجة و راحة النفس و الطمأنينة. من هنا و من هذاالمفهوم يقوم المؤدي المفسر بدور psychologue. لمعالجة هذا الموقف و ذلك بعملية جد مريحة في التعبير الفني حتى يتمكن للمتلقي ان يحس و يشعر باسترخاء خياله نحو فضاء واسع من هنا تقوم وظائف الجسم بالاستجابة الى الجمال الروحي عن طريق السمع و البصر التي تقوم بعملها ميكانيزمات طبقات المخ بإفراز كيميائي ينتشر في الجهاز العصبي بعد ما قام به من جهد لفهم و استيعاب مغزى نص اللحن. فتدخل هذه العملية في وظيفة الإثارة ‘ كما وصف عالم النفس Goldstein. هذه الظاهرة بالعملية الإثارية ؛ يصف نوعها و ذلك بإحساس خفيف بالوخز يتمركز في مؤخرة العنق ثم يتلاشى بسرعة و أما الإثارية القوية تستمر وقتا طويلا ‘ تبدأ من نقطة البداية و ترتفع الى ما فوق فروة الرأس و تتقدم نحو الوجه فتهبط خلال العمود الفقري و تتجه صاعدة نحو الصدر و البطن و الفخذين و الساقين و قد تصاحبها قشعريرة يمكن رؤيتها على الوجه ‘ قد يمكن إحداث بكاء اولي او تنهد عميق. وذلك يفرز المخ مادة (إندروفين)تكون متضمنة في خبرة الاثارية عند سماعنا للحن او الجملة الموسيقية الوجدانية و الشادية. يعود بنا المفسر الى عالمه الابداعي في الاداء فيقدم ترجمة ما نسخه المؤلف ‘ و ذلك بمحاولات إبراز شعور الكومبوزيطور الذي سطره بالرموز عالى البارتيسيون. فسر فرويد الإدراك او التذوق في مجال الفنون على ان مصادر المتعة الفنية التي يحصل عليها المتلقي ‘إنما تكمن في اللاشعور . و الجدير بالذكر حين نزل (طاريغا) الى الأصوات المتناسقة في الطبقات العليا باستعمال نوطة (مي) الحادة بثلاث ثامنات مرصفة بجوابها كأساس ‘ و منقورة كزخرفة البناء الفني‘ إنه قد تحول الى جوهر العمل الموسيقي في التقنية و الأداء ببنيان مرصوص نحو الاستكمال اللحني المؤدي الى نهاية المقام باستخدام شاعرة المقام )كروماتيكيا( حتى يصل الى المقام المجاور دون ان يخدش شعور المتلقي ‘ فجأة يعود الى المقام الأصلي في نهاية المعزوفة. إذا لاحظنا ‘ و تتبعنا المعزوفة بكل شعورنا وحاسة سمعنا؛ و تركيزنا الذهني بعيد عن كل المؤثرات الخارجية ‘ سوف نقترب الى الوصول نحو الارتفاع بعملية سوسيولوجية تتوحد و تتماهى فنصل الى ما هو اسمى كسحر الشخصية charme.التي تسيطر عليه روح الأنغام و قوة حضور أداء المفسر l'interprète ؛ حينئذ تتجلى بوضوح تام و تسطع الأنوار وهاجة في عملية (idolâtre ) بالولع و الإعجاب الشديد. في النهاية نقف في التيسير الجماعي. كل هذه الظواهر و العلامات انما هي اعراض سيكولوجية يفسرها علماء النفس بخبرات و تجاوب تحليلية كما قام بها عالم النفس Haver حينما فسر بعض التناظرات الموسيقية الواضحة مع الاشياء الخارجية كما ذكرنا سابقا في النغمات المرتفعة مقابل النغمات المنخفضة. لكن تناظرات أخرى تكون اكثر رفاهة و دقة في حالة فهمنا ان السلم الكبير يكون لامعا مفتوحا رحبا بينما السلم الصغير يكون حزين كئيب غامض. هذا الإبداع الموسيقي المنبثق من اعماق (طاريغا) في تأليف الدمعة لا شك أنه سيسيطر بصورة او بوجهة اللاشعورية من حيث الجودة الميلودية و سهولة في السماع؛ و اما بالنسبة للمؤدي إنه واجه صعوبات في التقنية الميكانيزمية على اوتار القيثارة حتى يتمكن له ان يؤديه في شكل جيد و جميل يروق المتلقي ‘ فهي عملية غير لفظية تتم بانفعالات انتقالية الى حاسة السمع. كلا من ا لموسيقى و الانفعال يرتبطان معا بطريقة بيولوجية معينة مبرمجة في المخ مع الاشكال المكانية-الزمنية. 2- الجزء الثاني من قسمB سوف يستهوينا اللحن بانزلاق نوطة (صول طبيعية) بدلا من صول # في المقام الكبير (مي‘ك) نحو نوطة (دو طبيعية ) مشكلة نغمة منحدرة الى شاعرة المقام التي ينجم عنها ازدواجية الانغام باصوات متناسقة الى درجة الدومينانت بعدها الى درجة الطونيك معبرة عن التفاعل اللحني و الصراع النغمي. قفز بنا المؤلف من مقام كبير الى مقام صغير‘ لكن لم يحدث اي انهيار او اهتزاز سمعي‘ بل سلك مسلكا خاليا من كل مخاطر القواعد العلمية الموسيقية العالمية‘ ثم حافظ على احاسيس المتلقي حتى لا يشعر بالدجر و الاحباط النفسي. كلا من المؤلف و المفسر أي العازف اجتازا هذا المسلك بذكاء و معرفة و وعي لإبراز إلهامهما الفنية في المعزوفة ‘ و الإلهام كما فسره علماء النفس علميا هو الذي يحفظ الثقافة و الخبرات و القدرات في العقل الباطن للفنان. لعل يقودنا الخيال الى عالم فسيح تسبح أفكارنا لنسج فكرة فهم مغزى الدمعة اكثر دقة‘ و ما يقصده المؤلف و ما يترجمه المفسر على القيثارة. من خلال هذه المعطيات ستنير امامنا أضواء و تظهر الالوان و تتوضح الأصوات؛ فالعلاقة بين الصوت و اللون هي ارتباطات وجدانية تواصلية عن طريق سيكولوجي و مدلولات فيزيولوجية تخضع لظاهرة سيناستيزيا أي العلاقة في التزامن بين الصوت و اللون‘ فالعقل هو جهاز الاستقبال و التحكم و الربط و التنسيق و التوحيد. فالموسيقى هي حركة في الزمن تحول الصورة الساكنة في الفراغ الى رؤية موسيقية. إنها رؤية جمالية ذات إحساس كامل متحرك و معبر. تتفاعل حواسنا في تتبع الخطوط الميلودية في تكامل هارموني و إيقاعي بمصاحبة تبرز النبضات المميزة داخل النص اللحني بما أضفي عليه تلوين تعبيري المتمثل في الضوء و الظل الخافت المتشكل في طبقات معتدلة أو وسطية بينما تتوهج في الطبقات العليا. كل هذه العناصر الصادرة تنتج بواسطة العقل و الخيال حيث لا يكون سليما إلا بالعقل السليم و العلم.بمعنى اكثر وضوحا الدمعة أبدعت بعقل واع سليم؛ و تفسر بإحساس و تعبير و عقل محرك واع سليم. فالموسيقى إذن فن العقلاء بل هي قمة الفكر. اما الحس سوى انطباع عقلي مصحوب بالخيال. و الإلهام المجرد من مراجعة العقل؛ فأنه جنون و مرض وتخلف 3- في النهاية يعود الى العرض الاولA في المقام الاصلي للتأكيد على ضرورة ترسيخ مفهوم الدمعة. فالمتلقي ذو إحساس رهيف و ذوق رفيع و تربية فنية تنفعل احاسيسه و تقشعر نفسه و جسده ؛بما أدى به أحساسه الى تنشيط النصف الأيمن من المخ يقوم بابتكار الخيال التي تنتج بعض الترابطات المرتبطة في التركيبات الخيالية بين ألوان ساخنة و باردة حينها تنشأ مميزات تبرز جماليات المعزوفة بين اللون الأحمر و الأزرق و الأرجواني.