اشتهر مصطلح التفكيك (التقويض) الذي قدمه دريدا –بعد أن استعاره من هيدغر- بوصفه منهجا لهدم وتقويض المعمار الميتافزيقي والفلسفي الأوربي، ومن ثم تبدى التفكيك بمدلوله كأداة لخلخلة النسق الثقافي الغربي، وإسقاط أقانيمه ومقولاته التقليدية. لهذا ذهب البعض –في سياق التقريب والمشابهة بين دريدا ونيتشه– إلى نعت الموقف الفلسفي الثاوي داخل منهج التفكيك بكونه موقفا عدميا يغتال، ليس فقط البناء النسقي للعقل الغربي، بل يغتال حتى الدلالة والمعنى. وهو بذلك يلتقي مع «القيم» الثقافية التي أعلنتها فلسفة ما بعد الحداثة، التي تنزع إلى اللامعنى واللانظام واللاعقل. معلوم أن دريدا يرفض نعت نفسه و«موقفه» الفلسفي بالعدمية، وبدل ذلك يحرص على تقديم التفكيك كمنهج قراءة يستهدف تفكيك الدلالة بالكشف عن الاختلاف الذي يشرخ كيانها. فالطبيعة المنهجية للتفكيك كما يتأسس داخل متن دريدا، بدءا من أطروحته حول «أصل الهندسة» لإدمونت هوسرل وإلى كتابه «الغراماتولوجيا»، يمكن تلخيصها في كونه (أي التفكيك) إجرائية منهجية تقوم على أسلوب قراءة مزدوجة تبتغي في لحظتها الأولى قراءة النص بقصد استخراج الدلالة الصريحة المقصود إبلاغها. وفي هذا المستوى الأولي يبدو التفكيك غير مفترق عن المنهجيات الكلاسيكية أو التقليدية للقراءة. غير أنه في المستوى الثاني تسعى هذه الإجرائية المنهجية إلى تفكيك القراءة الأولى، بالكشف عن المسكوت عنه في النص، وهو مستوى يقوم على قلب القراءة الأولى بالكشف عن مدلولات تناقض الدلالة المصرح بها. إن هذه الإجرائية لا تتأسس عند دريدا على مجرد ذوق منهجي يستهدف إنجاز قراءة شاملة للمقروء تقلبه من كل وجه، بل ثمة ناظم فلسفي يوجه التفكيك عنده، وهو الناظم الذي يمكن أن نختزله في مفهوم الاختلاف. فالدلالة يراها جاك دريدا –مستفيدا من الدرس اللساني كما تبلور عند دو سيسير– نتاج اختلاف لا نتاج هوية وانتظام ماهوي. وبالتالي فنظريات القراءة التي تستهدف الإمساك بمعنى أحادي، تسقط في إنجاز قراءات خرساء غير قادرة على استنطاق المقروء، والكشف عما يعتمل داخله من تضاد واختلاف؛ ذلك لأنه حيثما كانت الدلالة كان الاختلاف، فحتى اللفظ اللسني لا يكتسب مدلوله من ذاته، بل من سياقه، حيث يقترن بغيره من الألفاظ التي تغايره في المعنى. ومن ثم فالدلالة ليست نتاج اللوغوس، بما هو نزوع نحو العقلنة والوحدة والانتظام الماهوي، بل نتاج الاختلاف وكسر وحدة الهوية وتجانسها. هذا الناظم المعرفي الذي يحكم فكر دريدا هو، في تقديري، ما يفسر ازدواجية الإجرائية التفكيكية. ويمتد هذا الموقف الذي يعطي الأولوية للاختلاف على المنظور الماهوي إلى رؤيته للغة؛ فاعتباطية الدليل اللساني التي قدمها دو سوسير للتعبير عن طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول، سيستثمرها جاك دريدا لإعادة النظر في علاقة الفلسفة بالفن. فالفلسفة منذ تقعيدها مع التيار السقراطي أعلت من شأن اللوغوس (خطاب العقل)، مقدمة ذاتها بوصفها خطاب الحقيقة، الذي يستعمل الدوال اللسانية استعمالا صارما مطابقا، في مقابل الاستعمال الانزياحي الذي ينتهجه الخطاب الأدبي، الذي عادة ما يُنعت بكونه خطابا خياليا واهما. وهذا الموقف التقريظي للفلسفة الذي يتعالى على الفن، ويستهجن أساليبه في الخطاب ينتقده دريدا، مرتكزا على طبيعة الدليل اللسني التي هي حسب نظره تكذب هذا الزعم الفلسفي؛ لأنه ليس ثمة إمكانية لاستعمال مطابق للغة، بل كل استعمال للغة هو بالضرورة قائم على اعتباطية علاقة الدال بالمدلول، ومن ثم انبناء هذه العلاقة على شرخ لا سبيل إلى ردمه. ومن هنا فالحالة الأصلية للغة هي الحالة الاستعارية المجازية، وبالتالي فالفلسفة واهمة في زعمها إمكان إلغاء الحالة الأصلية للكينونة اللغوية، وإنتاج لغة صارمة مطابقة. والوضع اللغوي بوصفه وضعا استعاريا يؤكد الطبيعة الاختلافية للغة، ولآلياتها في إنتاج الدلالة.