"نقوش على جذع نخلة" هو الديوان الثالث عشر للشاعر العراقي يحيى السماوي بعد "عيناك دنيا" "قصائد في زمن السبي والبكاء" "قلبي على وطني" "من أغاني المشرد" "جرح باتساع الوطن" "عيناك لي وطن ومنفى" رباعيات" "هذه خيمتي .. فأين الوطن" "أطبقت أجفاني عليك" "الأفق نافذتي" "زنابق برية".. يهدي الشاعر ديوانه إلى شقيقتيه: ("أم نوفل" وهي تنتقل من مقبرة جماعية إلى أخرى أملا ً في العثور على بقايا عظام من رفات زوجها.. و"أم أحمد" وهي تحتضن رأس زوجها المثقب بالرصاص الأمريكي أمام مسجد بغدادي.. لهما وإلى كل العراقيين الذين أودت بحياتهم المشانق الصدامية وقنابل البنتاغون)... وهذا الإهداء بحد ذاته، يكفي لشرح نوعية مضامين القصائد، ومعاناة الشاعر الصارخة مع مأساة وطنه ومواطنيه خلال عهد صدام حسين ومرحلة الإحتلال الأمريكي التي أنهته، وما تزال قائمة. في كل قصائد الديوان، يتفجر يحيى السماوي وطنية صادقة وغضبا مقدسا على الظالمين وتجسيدا حيا للمظالم والمجازر البشعة التي شهدتها المدن العراقية والتي يندى لها جبين الإنسانية خجلا. وقد عبّر الشاعر يحيى السماوي عن معاناته بشعر راق ٍ وموهبة متألقة ومشاعر عفوية ورؤية عميقة صادقة لواقع وطنه الذبيح وحمامات الدم اليومية التي تغسل أرض العراق الطاهرة. ولعل اختيار مقتطفات من بعض قصائد الديوان، هو أفضل خدمة للقارئ للإطلاع على جودة القماشة الشعرية المتينة الجميلة التي يتمتع بها يحيى السماوي المقيم حاليا في استراليا. القصيدة الأولى في الديوان هي "اخرجوا من وطني" يوجهها إلى المحتلين الأمريكيين لأنه يرفض استبدال الخنزير بالذئب أو الطاعون بالسل أو الموت بالجذام: هذه الأرضُ التي نعشقُ لا تُنبتُ ورد الياسمينْ للغزاة الطامعينْ والفرات الفحلُ لا ينجبُ زيتونا ً وتينْ في ظلال المارقينْ فاخرجوا من وطني المذبوحِ شعبا ً وبساتينَ وأنهارا ً وطينْ فاتركونا بسلام ٍ آمنينْ نحن لانستبدلُ الخنزيرَ بالذئبِ ولا الطاعون َ بالسُلِّ وموتا ً بالجذامْ خوذةُ المحتلِّ لا يمكنُ أن تصبحَ عشّا ً للحَمامْ فاخرجوا من وطني.. والدمُ المسفوحُ لن يُصبحَ أزهارَ خزامْ فاخرجوا من وطني.. والبساتينُ التي غادرَها النبعُ وما مرَّ عليها منذ جيلين الغمامْ تصرخ الان اخرجوا من وطني حررونا منكم الانَ.. ومن زيف الشعارات وتجّار حروب "النفط والشفط" وأصحاب حوانيت النضالْ سارقي أرغفة الشعب ِ أدلاء جيوش الإحتلالْ وفي قصيدة "عصفا بهم" يشنّ الشاعر هجوما عنيفا على الذين ينجرّون وراء الأجنبي ويعبدون المال الذين: رقصوا على قرعِ الطبول كأنهمْ خُلِقوا لطبل ِ الأجنبيِّ قرودا ظنوا الكرامة َ منصبا ً فاسترخصوا كِبَرا ً فكانوا للغزاة ِ عبيدا مدّوا لأحذية ِ الجناة ِ رؤوسهم جسراً.. ومدّوا للأكفّ خدودا وفي قصيدة "لاتسأليه الصبر" وجعٌ مؤلم على حالة بغداد: أسفي على بغدادَ.. كيف غدتْ سوقا ً وأنجمُ مجدها سِلَعا قد كان يربطني بهودجها حبلٌ من الآمال وانقطعا ألفى الأحبة َ بعد عودته ِ رمما ً ورفقة َ أمسِهِ شِيَعا عاش المواجعَ منذ فارقهم وازداد بعد لقائهم وجَعا الجسرُ؟ تجفوه المَها.. وإذا قَرُبَتْ تشظى وجهها فَزَعا خرساء تستجدي الخطى صِلة ً والسامرين الشعرَ والسَجعا ودّعتها قسرا ً فودّعني قلبٌ أبى من بعدها مُتَعا حَذرتها مني.. وحذرني منها هيامٌ من دمي رضعا لكنها تبقى رفيفَ دمي إنّ الهوى أبقاهُ ما صَرَعا وفي "وطن النخيل" يصف حالة الناس الذليلة المزرية بهذه الصورة الواقعية الناطقة: في وطن النخيلْ الناسُ صِنفان ِ.. فإما قاتلٌ مُسْتأجَرٌ أو مؤجَرٌ قتيلْ في وطن النخيلْ يحقُّ للمحتلِّ أن ْ يُصادر الإرادة ْ ما دام أنَّ التابعَ الذليلْ ينوبُ عن كل الملايين التي تبحث ُعن خلاصها من عسَف ِ الدخيلْ يحقُّ للمدفع ِ أنْ يطرق كلَّ بابْ مادام أنّ العصرَ عصرُ غابْ مادامَ أنَّ "صاحب السعادة ْ" الناطق الرسميَّ باسم مسلخ "التحرير" والقائمَ بالأعمال ِ في طاحونة الإبادة ْ يُريدُ للقانت ِ أنْ يستبدلَ: الخنوعَ بالخشوع ِ والمزمارَ بالشهادة ْ وفي قصيدة أخرى يصف الدولار بقوله: جلالة ُ الدولارْ حاكمنا الجديدُ .. ظلُّ اللهِ فوق الأرض ِ.. مبعوث ُ إله ِ الحرب ِ والتحرير والدمارْ له يُقامُ الذكرُ.. تُنحَرُ القرابينُ.. وتُقرَعُ الطبولُ.. تُرْفَعُ الأستارْ وباسمه تكشفُ عن أسرارها الأسرارْ.. عدالة ُ الدولارْ تُطالبُ المذبوحَ أنْ يُقَدِّمَ الفِدية َ للجَزّارْ !! ويروي زيارته إلى مسقط رأسه "السماوة" بعد فراق نحو عقدين في قصيدة "يا صابرا ً جيلين إلآ بضعة": ألقيتُ بين أحبّتي مرساتي فالان تبدأ يا حياة ُ حياتي أنا في السماوة لا أشك بما أرى فلقد رأيتُ بأهلها قسَماتي لا يخطئ القلبُ الترابَ.. شممته فتعطّرَتْ بطيوبه ِ نبَضاتي هذا هو السجنُ القديمُ وخلفه جهة"الرميثة ِ" ساحُ إعدامات ِ وهناك بيتُ أبي ولكن لم يعدْ لأبي به ظلٌّ على الشرُفات ِ الله ! ما أحلى العراق وإنْ بدا مُتقرِّحَ الأنهار ِ والواحات ِ ألنخلُ نفسُ النخل ِ إلآ أنه مُسْتوحَشُ الأعذاق ِ والسَعَفات ِ يا صابراً عقدين إلآ بضعة ً عن خبز تنور ٍ وكأس فرات ِ ليلاك في حضن الغريب يشدُّها لسريره حبلٌ من "السُّرُفات ِ" تبكي وتستبكي.. ولكن لا فتىً لِيَفكَّ أسْرَ سبيئة ٍ مُدماة ِ يا صابرا ً عقدين إلآ بضعة ً "ليلى" مكبلة ٌ بقيد ِ غزاة ِ ليلاك ما خانت هواك وإنما "هُبَلُ" الجديدُ بزيِّ دولارات ِإنّ المريضة في العراق عَراقة ٌ أما الطبيبُ فمبضعُ الشَهَوات ِ وفي القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها، ولعلها رائعته، وتتألف من ثلاثين مقطعا، يتساءل الشاعر: أتسْتحقُّ هذه الحياة ُ أنْ يعيشها الإنسانْ مِسْخا ً.. ذليلا ً.. خائفا ً.. مُهانْ ؟ في حفرة ٍ ضيِّقة ٍ يأنفها الحيوانْ مختبِئا ً كانَ.. وكان الموتُ والنيرانْ يحتطبان ِ الناسَ والبستانْ ليس شجاعا ً ليقرَّ أنه جبان ْ! * ما قيمة التحرير ِ إنْ كان الذي هبَّ إلى نجدتنا حرّرنا.. واعتقلَ الوطنْ؟ ما شَرَفُ اليد التي تُبعِدُ عن أعناقنا القيدَ وعن عيوننا الوثنْ حين يكون الوطنُ الثمنْ؟ جريمة ُ المُثلة ِ بالأوطانْ ليست أقلَّ في كتاب الله ِ من جريمة المُثلة ِ بالإنسانْ * وراء كلّ مستبد ٍ: نخبة ٌ تعملُ في صناعة الألقابْ وزمرة ٌ من أدعياء الفكر ِ تسترزق من أقلامها تجيدُ فنَّ "المدح ِ والردح ِ" أو الرقص على وقع رنين التبر ِ في الولائم المدفوعة الحسابْ وجحفلٌ من أشرس الذئابْ وفيلقٌ من الذباب البشريِّ ينشرُ الطنينَ في المدينة الخرابْ يُبَشِّرُ الخانعَ بالثوابْ ويوعِدُ الثائرَ بالعقابْ * متى.. متى يُغادرُ الأغرابْ بستاننا.. فيستعيدُ النخلُ كبرياءهُ ويستعيد طهره الترابْ؟ * ويتفجّع الشاعر على ما آلت إليه بغداد في قصيدة "هل هذه بغداد" التي يقول فيها: أغمضْتُ عن شجر الهوى أحداقي فاسكبْ طلاك على الثرى يا ساقي غرسوا الظلامَ بمقلتي فتعطّلتْ شمسي ونافذتي عن الإشراق ِ فإذا بتحرير العراق ِ وليمَة ٌ حفلتْ بما في الأرض من سُرّاق ِ المطلقون حمائمي من أسرها شدوا الفضاءَ وروضها بوثاق ِ ما العجبُ لو خان الفؤادُ ضلوعه؟ إنّ الذي خان العراقَ عراقي فإذا النضالُ نخاسة ٌ مفضوحة ٌ فاحتْ عفونتها بسوق ِ نفاق ِ وإذا الطماحُ مناصبٌ مأجورة ٌ يُسعى لها زحفا ً على الأعناق ِ هل هذه بغدادُ ؟ كنت ُ عهدتها تأبى مهادنة َ الدخيل ِ العاق ِ هل هذه بغدادُ؟ تأكلُ ثديَها فإذا بها وخؤونها بوفاق ِ ! ولا يرى السماوي في "ماذا تغيّر" أنّ شيئا جوهريا قد تغيّر بعد سقوط الصنم فالمحاصصة وهدر المال العام والسرقة والإعتقالات الكيدية بقيت حاضرة في المشهد العراقي ... أما الحارس (المحرر المزعوم) فهو اللصّ الأكبر : ماذا تغيّرَ ؟ نفسُها الأسسُ أمّا الجديدُ فإنه الدّلَسُ بالأمس كان اللصُّ ينهشنا واليوم ينهش لحمنا العسسُ مُدُنٌ تُبادُ لأنها نطقتْ لتُشادَ أخرى طبعُها الخَرَسُ زعَمَ المحررُ أنْ سيمنحنا حريَّة ً تُفدى وتُقتَبَسُ حرية ٌ.. لكنْ يُرادُ بها وأدَ الهدى والعهرُ والدَنَسُ أما تعاويذ الشاعر فهي من عيار: أعوذ ُ بالله ِ من الصلاة خلف لحية ٍ تُمَجِّدُ الغزاة ْ ومن رصيف ٍ ينبذ الحُفاة ْ أعوذ بالله من الساسة ينسجون للعُراة ْ ثوبَ الشعارات التي تُبايعُ الطغاة ْ أعوذ بالله ِ من الأئمة ِ التُجَارْ الشاكرينَ نعمة َ الدولارْ في الليل يبكون عليّا ً ويُبايعون قاتليه في النهارْ والديوان الذي تمتاز قصائده كلها ببهاء الشكل والمضمون وشفافية البوح وعمق الجرح الوطني والقومي والإنساني، لا يخلو من زوايا خاصة بالقلب العاشق والصائم على باب الهوى، كما في قصيدة "صوتك مزماري" التي ينشد فيها: صوتك مزماري.. دجَّنَ أفعى الحزن ِ في حديقتي فاغتسلتْ بالعطر أزهاري صوتك يا قديستي حبلٌ من النور نشرتُ فوقه قميصَ أسراري وصفحة ٌ ضوئية ٌ كتبتُ في سطورها أعفَّ أشعاري عشرةُ أعوام ٍ وما زلتُ على باب هواك صائما ً متى إذنْ موعدُ إفطاري؟ عشرة أعوام ٍ وما مرَّ على بريَّتي موسمُ أمطار ِ وها أنا أحفرُ بالأضلاع ِ أرضَ الشوق ِ علَّ صخرة ً تزفُّ ليْ بشارة َ النبع ِ لأشجاري وفي "خذي بأمري" و "إغنميني" وسواهما من القصائد ، يقرع يحيى السماوي ناقوس العاطفة بيد رقيقة وعيون دامعة ومشاعر نبيلة وعشق راق، وغربة عن الوطن والأحبة، لعله يعود ذات يوم إلى العراق حين يصبح معافى، ليقضي فيه بقية عمره، ويتحفنا بمزيد من إبداعاته الغنية المضاءة بوهج موهبته المتدفقة كالينابيع.