نتحدث دائما عن الكتابة الخالدة والخلود كميزة حسنة للكتابة، لكن دعنا نتساءل أولا: لمن الخلود؟؟ لا شيء ولا أحد خالد طبعا وإنما نستعمل الكلمة مجازا للتعبير عن أن شيئا دام سنينا أو قرونا لكنه في نهاية المطاف ملاق حتفه في ظروف لا تسمح بانتعاشه كأدب المُترفين في غضون الثورة أو أدب الثورة بعد انزلاقها إلى المتاجرة في العباد وعودة الأسياد. هذا مجرد تقديم لتبيان وهم الخلود ووضعه في حدوده المقبولة. لكن مع ذلك تبقى الغلبة لنوع سائد وهو بالضرورة المسمى "خالد" لهيمنته على فترات تاريخية طويلة. دعنا ثانيا نتساءل عن السائد وطبيعته. إنه بكل بساطة ما أقره وشجعه وثمَّنه وحفظه ونسخه الحكام من كل صوب. هو بالضبط ما يعكس ثقافة وإرادة المهيمن على الشعوب. ثم دعنا من جهة ثالثة ننظر إلى طبيعة هذا المهيمن على مر العصور. إنه ليس سوى سفاحا قتالا سفاكا مجرما أثيما. حروب في كل قرن وسجون ومعتقلات وتفقير واستغلال. جيوش، عسكر، شرطة، قواة تدخل سريع، شرطة سرية، مخابرات، قواة مساعدة، جمارك، قواة دولية، قواة جهوية، قواة أمن خاص. باختصار، آلة قوية منيعة وعتيدة ضاربة جذورها في عمق التاريخ، متوثبة بحماس نحو المستقبل باستعمال أحدث ما تنتجه التكنولوجيا. لا الماضي يسمح لنا أن ننعت الحكام بالشفقة ونتذكر فترة بدون حروب ومجازر ولا الحاضر إلى حد كتابة هذه السطور يسمح لنا بالتفاؤل ولو على الأمد الطويل. كأني نسيت الموضوع وما نسيته. إنما أردت أن أبين أنه إن كان ولا بد أن نتحدث عن خلود فهو خلود الحروب والبطش والظلم والجور. وما يوازي هذا من ثقافة سائدة هو بالضبط الكتابة الخالدة ونقيضها الكتابة المنقرضة التي طاردتها سيوف الحاكم أو دباباته وجيوشه وشرطته المعلنة منها والسرية. نصوص كفراشات دود القز ما تلبث أن تطير حتى تجد نفسها لاهثة نحو موتها. ما هي الكتابة المنقرضة إذن؟؟ إنها أجمل ما خطته يد الإنسان نحو الانعتاق. نصوص تولد كي تموت. تمر متسترة أو مختفية أو متلبسة. تصاحب ثورة ما أو تستغل وهْنا في قبضة الحاكم أو تعثُرُ على مسارب لم ترها عيون الشرطة. نصوص كتبت لتنفجر في وجه الظلم ثم تسقط شظايا ولا من يلملمها. نصوص لو كتب لها البقاء ما بقي على وجه الأرض جبار متكبر ولا جهل مستفحل ولا إقطاع متنام يوما بعد يوم. إنه صنيع القدر ربما، أو حتمية تاريخية أو قدرة إلهية أو خبث شيطاني أو سمه ما شئت أن تنقرض الكتابة ذات الوزن والكفاءة لتسود كتابة القبيلة والوطن والعرق والحاكم والدين والمذهب. باختصار كتابة القطيع الخانع المستسلم لإرادة فوقية سواء كانت إرادة الحاكم المغلوب (مثال القضية الفلسطينة وكتابها المنضبطون للقيادة) أو الحاكم الغالب (مثال الكتابة الأمريكية الممجدة للحداثة العاشقة لذاتها المتجبرة) أو الحاكم الساحر الذي يوظف الدين والشعوذة للإستيلاء على عقول الناس. هكذا يُصنع النجوم نحو ما يسمى ب"الخلود" وتموت كل النصوص الرافضة للهوان وذل الإنسان، الممجدة للانعتاق من قبضة الحاكم والعِرق والدين والقبيلة والوطن... إلخ. لكن التاريخ يشهد على مرور كتاب كبار أسهموا في الثقافة الإنسانية وأصبحت أسماؤهم كنار على علم ولا يمكن بأي حال من الأحوال نكران قامتهم الفكرية وما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب وقمع وعقوبات وإحراق كتبهم ومنعها. ألا يجوز والحالة هذه أن نسمي هؤلاء بأصحاب الكتابة الخالدة؟ لا! ثم لا! وقطعا لا! الكتابة الخالدة متواطئة ومتآمرة وهذا ما سمح لها بالخلود ، وإن كانت من إنتاجهم فإنما ذلك في فترة من فترات حياتهم (البداية غالبا). إن هؤلاء الأعلام هم بالضبط أصحاب الكتابة المنقرضة! فليس ما بقي من كتابة ابن رشد (كتب التشريع وفصل المقال... إلخ) هو ما جعل منه عظيم عصره طبعا وإنما كتبه التي أكلتها النار وأحالتها رمادا. ومعلوم أن الكتابة تصبح غير مقروءة في الرماد!!! وليست المقدمة هي ما جعل من ابن خلدون علامة عصره وإنما الأجزاء الستة أو السبعة الضائعة. وقس على هذين المثالين من العرب مكيافيللي الذي لم يبق من كتاباته غير كتيب صغير طاله الحذف والتغيير يسمى "الأمير" وبعض المطارحات التي نشرت خمس سنوات بعد وفاته ليعيثوا بها فسادا وهو في قبره ، وفولتير الذي لم تحتفظ له الكنيسة إلا بما هادنها به أو أقل وبما عثروا عليه في جيب صديقه بعد وفاته. ولكي أعمم دون أن أخاف من التعميم لأني لم أعثر لحد الساعة على عظيم لم تنقرض كتاباته، أقول أن الكاتب الفذ والعلامة والمفكر الذي حفظ إسمه ضدا على كل أشكال الاضطهاد والقمع الخالدة (إن أجزنا القول بالخلود) هو من انقرض أكثر من ثلثي كتاباته!! فلا كتاب الرأسمال لكارل ماركس وصلنا كاملا (على حداثة عهده) ولا أشعار بودلير فلتت من مقصلة أوربا المتبجحة بأنوارها. إذ لا أجد في أغلب ما كتبه غير غثاء شِعر ربما كتبه في صغره. إننا ها هنا نتحدث عن الكتب المدنسة أي تلك التي صدرت عن أناس لا علاقة لهم بالسماء ولا الماء ولا النار ولا الغبار. وإن عرجنا على المقدسة منها، أي تلك التي نزلت من السماء عبر النجوم أو من وحي النار أوالغبار فإنها لم تسلم من التغيير والتحريف والتزوير. أي أن المقدس فيها هو ما انقرض والباقي هو ما يسعف أهل الحل والحال والذين إليهم المرد والسؤال. أقصد من يحميهم من الجيش على الأقل مليون نفر ومن الشرطة ما لا أستطيع حتى تخمينه ومن الرؤوس النووية ما لا علم لي به. واضح إذن أن الكتابة المنقرضة هي صاحبة الفضل في رفع هامة من يشهد لهم التاريخ بالمواجهة والتفكير ضد السائد (الخالد). نحن إذن أمام عباقرة لانعرفهم. من هو بودلير بالضبط؟؟ وماذا قال ابن رشد باستثناء الثلث الخالد (صفة قدح طبعا)؟؟ كيف فكر ديكارت ؟ الواقع أننا نرسم ملامح لهؤلاء بحسب ما سمح به الظرف والوقت والحاكم. هذه هي الكارثة الأزلية. لم يذهب محمد عابد الجابري في ألف كتاب ومقال عن ابن رشد بعيدا سوى ليقول لنا أن هناك "مسكوت عنه عند ابن رشد" كأنما هذا خاص بابن رشد وليس بكل المفكرين الذين ذاقوا الأمرين مع الحكام. إن الجابري بعد جهد جهيد يحصل حاصلا. وما سبب تلعثمه وتلكئه سوى ثقل الحاكم من القطب إلى القطب (لا أقصد المغرب وحده لأن آليات السلطة متداخلة بين الدول خاصة فيما يخص المجال الفكري : يتكالبون كالذئاب الجائعة). هل استطاع الجابري أن يقوم بحفريات ليخبرنا بما هو مكتوب على رماد كُتب ابن رشد المحروقة ؟ طبعا لا! بل أشك في أن الجابري قادر على فهم واستيعاب دروس المنطق الرشدية حتى ولو وجدها مكتوبة ! عفوا! لم يكن الجابري سوى مثالا يسهل علينا تبليغ المراد. لنطرح السؤال مجددا : ما جدوى الحفريات بحثا عن الكتابة المنقرضة باعتبارها هي اللحم المغطي للهيكل العضمي لكبار المفكرين الذين لا نعرف عنهم سوى الخالد (السائد)؟؟ إن الحفريات في علم الجيولوجيا تساعدنا على تصور الكائنات المنقرضة. فمن خلال بعض بقايا الهيكل العظمي وبالمقارنة مع الكائنات الحالية استطاع العلماء تخيل الديناصورات. وإن كنت لا أدري مدى الصواب والخطأ فيما صنعوا فإنني أجزم أنهم غير متأكدين مما إذا كان الديناصور الحقيقي على تلك الشاكلة أم لا. وهب جدلا أننا نريد أن نقوم بحفريات لنتصور الديناصور "ابن خلدون" على حقيقته، فما العمل ؟؟ علينا فعلا أن ننسى فوكو (1) آخر ديناصورات أوربا (2) !! يستحيل استحالة تكذيب رسول أن تكون حفرياتنا مؤدية لنتيجة. ليس فقط لأن ذوي الحكم والجيش أجهزوا على كل شيء بإتقان ولأنهم حولوا المفاهيم وغيروها وبدلوها وشوهوها بل لأن ذات الحكم لا زال قائما. حينما كان فوكو يعتقد أنه قادر على القيام بحفريات في المعرفة (الطب، علم النفس، الجنس) فلأن فرنسا كانت تئن تحت وطأة الهجوم النازي فسمحت ل"مفكريها"( لاحظوا الانتماء) بالكلام . لكن بعد أن خرج من منزله رجل يدعى دوغول بطلب من أثرياء باريس وأتى على الأخضر من وجهات النظر ولم يبق غير صوت المدافع، تبين واضحا أن القيام بهذه الحفريات يتطلب أولا انعدام الظروف التي انقرضت فيها الكتابة (لننسى فوكو الآن). لكن ما دامت هذه الظروف قائمة فإن المكلف بالحفريات لن يكون غير حفار قبور اختاره النظام الحاكم - دون أن أقصد الإساءة لأحد. وهذا بالفعل - إذا تذكرنا الفينومينولوجيين- ما ميز الغرب من نرجسية وشعور بالتفوق وما وضع مفكريه في وضع "إلاهي" مغرور غير عابئين بما يقوم به أصحاب الثروات من جزر لما تتطلب الظروف الجزر، ومن مد لما يتخلصون من العدو الخارجي! عفوا مرة أخرى. إنما مثلت بفوكو وكل الفينومينولوجيين لتسهيل تبليغ فكرة مفادها أن الحفريات لا تمكننا بحال أن نقيم تصورا وبناءا جديدا لكتابة منقرضة ما دام الباحث نفسه مستلبا بوضع مشابه لذاك الذي سبب في الانقراض، وأننا نعرف إسم صاحب الكتابة المنقرضة فقط - هذا إذا عرفناه ولم يلتبس علينا الأمر كما يحدث في كثير من الأحيان- ولا نعرفها هي لأنها بالضرورة مطاردة ومحاصرة ثم مقتولة وباستعارة من لغة الأنبياء : شهيدة. يبقى في الأخير سؤال يفرض نفسه: كيف يتم التطور والتقدم في مجال الفكر والفلسفة والعلوم؟ لنبدأ أولا بفضل الحاكم في هذا حين يريد استغلال المعرفة لصالحه فنذكر السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا الكولونيالية والأنترنيت في الشؤون الحربية وغير ذلك. ما سقط علم في يد حاكم إلا وأفسده. ثم لا بد من القول أننا في كثير من الأحيان نعيد كتابة ما انقرض. نحسب أفكارنا جديدة فإذا بها واحدة من بنات أفكار زرادشت أو كونفوشيوس أي أننا مهيئون دائما للابتكار والإبداع رغم القطيعة ورغم أنف الحاكم. لكن على العموم تمر الكتابة المنقرضة متضمنة Incluse في الكتابات اللاحقة. تتخذ شكلا ولونا آخرين وربما متانة إضافية حتى تفوح رائحتها أو يستشعر بخطرها حاكم من الحكام فيقصم رقبتها. كأن لها بذورا لا تموت يلتقطها أصحاب المعرفة فتنمو في عقولهم ليزعجوا بها حاكما جديدا. فمن هيجل ولد ماركس مثلا . ولتسهيل تبليغ مفهوم "التضمين" نمثل بتطور علوم المنطق ليحتويها علم الرياضيات ويستمر هذا العلم متضمنا inclus عند ديكارت مثلا ثم علم الفلك عند كوبيرنيك. حينها اكتشف الحاكم الأوروبي أن في الأمر مصيبة وخطرا عليه فحاول وضع حد لهذا التقدم خاصة حين كذبوا الكتب السماوية وقالوا أن الشمس مركز الكون. فكان ما كان من اضطهاد العلماء ( كوبيرنيك وغيره) ومحاكمة غاليليو... إلخ. هناك من سيخامره شك في أمر النصوص المنقرضة ويهون من فظاعته. ولنتصور هول ما حدث في الماضي سننظر إلى الحاضر أمام أعيننا: مصادرات، اغتيالات، تحريف، استقطاب، اعتقال، محاكمة... لكثير من الكتاب فقط لأنهم صدقوا فيما قالوا بينما يحلق عاليا من تغنى بالوطن الحبيب والدين الحنيف والقومية والزعيم الملهم! أمام أعيننا قبِل طه حسين بتنظيف كتابته "في الأدب الجاهلي". نرى قصيدة لمظفر النواب كتبت في الثمانينات وحين نبحث عنها الآن في الأنترنيت نجد نصفها سقط وبعضها لست أدري من أضافه بل ويتكرر ذلك بشكل مضطرد حتى تصبح القصيدة الأصل نشازا أو غائبة والمنقحة والمزيدة هي السائدة (الخالدة) بل تسمع الشاعر نفسه وقد وهن منه العظم يقرأ قصيدته ببرود واضح ويقول " كذا" عوض الكلمة الحقيقية (أولاد القحبة). عفوا مرة أخرى! إنما ذكرت طه حسين ومظفر النواب كمثال وكان بأمكاني أن آتي بغيرهما وما أكثرهم. ها هو الشيخ إمام مات أمام أعيننا وبقي أحمد فؤاد نجم الذي بعد أن كان فقيرا أصبح سفيرا لنسمع من أغاني الشيخ: "صباح الخير اللي فتح في جناين مصر" ولن نسمع قط: "عن موضوع الفول واللحم...!" أي تلك الأغاني التي جعلت منه معشوقا ومحاصرا. إن هذه التصفية العنيفة أو التدريجية للنصوص تجعل العظيم منها ينقرض وكاتب القبيلة أو الوطن أو القوم أو الدين يتسلم الأوسمة والجوائز. إذا كان هذا يقع أمام أعيننا لنصوص نعرفها فماذا حدث لنصوص كتبت في القرن الثامن عشر مثلا؟؟ أليس حريا بنا أن نقول أن الثراث الخالد لا يصلح إلا للزينة؟ زينة القصور الملكية والرئاسية! عود على بدء: إنها صورة بليغة أن تشبه الكتابة بطائر العنقاء (الفينيق) الذي ينبعث من رماده. رغم أن الحاكم في كل العصور لها بالمرصاد (باستثناء فترات الثورة) فإنها تنهض من شتاتها الموزع في عقول تحفظها. وإذا كانت الكتابة المنقرضة هي ما يميز الكاتب الفذ وما يجعله عظيم عصره، فإن الكتابة الخالدة هي برهان تواطئ الكاتب مع النظام القائم. لكن في النهاية يشتبه علينا مفكر ضحى بوقته وجهده وحياته وقاوم من أجل أفكار جديدة مع أي طبال لنظام ما دام هذا الطبال بطلا مصنوعا والمفكر بطلا لا نعرف عنه إلا ما يعرف الجيولوجيون عن الديناصور، أو بصورة أبلغ كما لا تعرف العرب عن العنقاء إلا إسما لطائر. أقول كلامي هذا وأنا على علم أنه لن يعمر طويلا. إنها رغبة مني في التواصل والتعارف تلح علي لا غير(3). رغبة في إطلاق صرخة من الكلام المكبوت تريحني وتشفيني ولها أن تموت إذا كانت ظروف حياتها غير متوفرة. طوبى للخالدين هناءهم.