(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليُحاجّوكم به عند ربكم أفلا تعقلون. أوَلا يعلمون أن الله يعلم ما يُسرّون وما يُعلنون. ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم. وويلٌ لهم مما يكسبون. وقالوا لن تمسّنا النارُ إلا أياما معدودة. قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يُخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون. بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون).تحدث الآيات عن خصوصيات اليهود غير المعلنة وتكشفها، وعن اسرار لا يعلمها إلا أحبارهم وجاءت في التوراة، لكن عامة اليهود يجهلونها ولا يمكن لمحمد الأمي أن يعلمها. والله يُعْلمه ويُعلم المسلمين بها ليدرك اليهود أن محمدا (عليه السلام) لا ينطق إلا بما يوحى إليه من ربه، ويستخلصوا صدق نبوته ورسالته. وكثير مما جاء في هذه الآيات عن اليهود مدون عند اليهود في تاريخهم لكن أكثره غير معلوم من عامّتهم. وتقسِّم هذه الآيات اليهود إلى فُرقاء لكل فريق منهم وجهته وأسلوب تعامله مع نفسه ومع الغير. ومن بين هؤلاء الفرقاء فريق ذو وجهين وخطابين: إذا لقُوا المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا إننا مثلكم : مؤمنون برسالة محمد التي تؤمنون بها. وعندما يخلو بعضهم ببعض يعيب بعضهم على الآخر ما يفعلون مع المؤمنين من الاعتراف بأن النبي صادق فيما يقول، وأن التوراة بشرتْ بنبوته وتحدثت عن أوصافه وهي تنطبق على محمد. ويقول هذا الفريق لبعض اليهود لماذا تخدعون المسلمين بهذا الحديث وتقيمون عليكم الحجة التي ستُسألون عنها يوم القيامة. أوَلا تعلمون أن الله لا يخفى عليه ما تسرون وما تعلنون؟ وسيعاقبكم على اعترافكم بصدق محمد. ***** وتتحدث آية {ومنهم أمّيون} عن فريق آخر من اليهود هم جهلة أميون لا يعرفون من التوراة إلا ما يتفق مع أمانيهم، جاعلين من أمانيهم حقائقهم الموهومة. وما يعلمونه عن التوراة ليس هو الحقيقة، بل هو أكاذيب لفقها لهم أحبارهم، لا تبلغ حد اليقين، ولا تتجاوز الظن الذي يحتمل الصدق والكذب، وليس من التوراة في شيء. وعن هؤلاء الأحبار تتحدث آية {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} أي يُزوّرون الكتاب ويقولون إن ما يقولونه عن التوراة هو من عند الله والحال أنه من صنع أيديهم. وهو مجرد تلفيق. ويندد الله بهم ويقول عنهم إنهم سيُحاسبون من أجل ما كتبوا من زور، وما استفادوا من أعراض الدنيا مقابل ذلك وهو ثمن بخس وتافه. ***** وآية {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}، تفضح أسرار اليهود مع أحبارهم الذين قالوا لهم بأن الله لن يعاقب اليهود بإدخالهم النار، لأن مقامهم عند الله عظيم. وقد يعذب القليل منهم أياما معدودات ثم يعفو عنهم ويعفيهم من العذاب. وأمر الله الرسول أن يردّ على هذا الفريق قُلْ (يا محمد لهم) {هل لكم مع الله عهد} التزم فيه لكم أن لا يدخل يهودي النار؟ وأنه تعالى لن يُخلف العهد الذي أعطاه لكم ؟ أم أنكم تقولون على الله ما لا تعلمون وتفترون عليه الكذب؟ لا! كل ما تقولونه عن الله كذب وبهتان. والحق الذي لا مِراء فيه أن جميع الكافرين وبعض مرتكبي الخطايا والمعاصي هم في النار خالدين فيها، لا فرق بين يهودي وغيره، إلا من رحم الله وعفا عنه بمشيئته. كما أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سينالون جزاءهم الأوفى بخلودهم في الجنة مكرّمين منعَّمين. ***** {وإذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا}: فسر عبد الله ابن عباس هذه الآية بتحديد سبب نزولها فقال: إنها نزلت في فريق من منافقي اليهود قالوا لبعض المؤمنين نحن نؤمن بأن محمدا نبيء، ولكنه لم يُرسل إلينا بل إليكم. ووصل هذا القول إلى بعض اليهود فعاتبوا من قالوه وقالوا لهم لم تُقرّون لأتباع محمد بأنه نبي وهو ليس كذلك؟ وزادوا أن اعترافكم بنبوءته إنما تقيمون به الحجة على أنفسكم غدا يوم القيامة عندما يشهد المؤمنون عليكم بأنكم كنتم تعرفون صدق محمد ومع ذلك كفرتم بما جاء به عن الله وسيحاسبكم ربكم على ذلك. ***** {بما فتح الله عليكم}: أي بكتاب التوراة الذي أكرمكم الله به. ***** {أميّون}: الأمي من يجهل القراءة والكتابة، وهما لا يورثان من الأم. والأمي هو من يبقى كما وضعته أمه جاهلا. والقراءة والكتابة تتطلبان من الإنسان مجهودا خاصا عليه أن يبذله بصبر ومعاناة ليصبح متعلما. والأمي كذلك يُطلق على الجاهل. ***** {لا يعلمون الكتاب}: لا يعلمون ما فيه ولا ترقى بهم مداركهم المحدودة القاصرة إلى فهمه وتحصيل مضامينه. وقد جاء في القرآن وصف بليغ لهذا الصنف من اليهود سماهم الله حَمَلة التوراة وشبههم بالحمار الذي يحمل على ظهره أسفارا من الكتب لكنه لا يملك أن يفهم شيئا منها : {مثل الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحْمِلوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} (سورة الجمعة/الآية 4). {أماني} جمع أمْنية: ما يخطر بالبال، وما يتمناه الإنسان ويطمع في تحقيقه. وغالبا ما يكون بعيد المنال أو مستحيل الوقوع. وما يقوله فريق من اليهود من أن الله لن يعاقب اليهود هو نوع من هذه الأماني التي لا تتحقق ولا سند لها. ويستعمل القرآن هذا التعبير (الأماني)، ويُطلَق على ما يحلم به الخيال ولا يتحقق، أو ما تتضمنه الأقوال الزائفة الكاذبة من بهتان وزور. جاء في سورة البقرة/الآية 111 : {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم}، أي ما يتخيلونه ويتوهمونه ويقولونه زورا وكذبا. وجاء في سورة النساء/الآية 321: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} وفي سورة الحديد/الآية41: {ولكنكم فتنتُم أنفسَكم وتربصْتُمْ وارتبِتُم وغرّتكُم الأماني حتى جاء أمر الله}. ***** {فويلٌ}: يستعمل هذا اللفظ بحق كل من أصابته مصيبة أو هلك أو خسر، فيقال ويلٌ له أي له العذاب أو الهلاك، أو يا لخسارته أو هلاكه أو عذابه. وبعض المفسرين قال أن الويل هو واد في جهنم ولا أرى ذلك لأن كلمة الويل كانت معروفة عند العرب قبل نزول آيات ويلٌ. وكان يفهمونها على أنها تعني العذاب والخسارة والهلاك. ***** {يكتبون الكتاب بأيديهم}: أي أنهم يصنعون بأيديهم ما ليس في الكتاب. والكتاب الحق ما جاء به موسى عن الله لا ما صنعه الأحبار بأيديهم. ويقول التاريخ إن التوراة التي نزلت على موسى أمر موسى بوضعها في تابوت العهد لتبقى محفوظة إلى أن تلاشت مدينة بيت المقدس في زمن بُختُنصر سنة 885 قبل ميلاد المسيح، فأخذ كبار الأحبار يكتبونها بأيديهم. وقد أكدت المصادر اليهودية هذا حسبما جاء في سفر التثنية. وبذلك فالتوراة الحقيقية لم تعد موجودة منذ تلاشي بيت المقدس. ***** {لن تمسّنا النارُ إلا أياما معدودة}: هذا ادِّعاء ليس له دليل، وتحجير لمشيئة الله، فهو سبحانه يعذب من يشاء طيلة المدة التي يشاؤها. وقيل في أيام معدودة إن اليهود حددوها بأربعين يوما هي ايام عبادتهم للعجل. كما قال بعض اليهود إنها معدودة بحساب يوم أو أيام عن كل ألف سنة. وهذه من الخرافات التي دخلت في تربيتهم الدينية. أتّخذْتم عند الله عهدا فلن يُخلف الله عهده. أية ضمانة لديكم تؤكد دعواكم ؟ هل أعطاكم الله عهدا والتزم لكم به؟ والعهد هو الوعد المؤكد الذي لا يُفسخ ولا يُلغى. {فلن يُخلف اللهُ عهدَه}. ف هذه الفاء تتضمن شرطا وجزاءً مُقدّريْن، كما تفيد السَّببيّة والمعنى على ذلك هو : إن كان لكم من الله عهد مؤكد وصحّ ما تدّعون فلابد أن الله لهذا السبب سيفي بعهده لكم ولن يُدخل يهوديا النار كما تزعمون : فالله لا يُخلف أي لا يلغي ولا يتراجع عما قطعه على نفسه من العهود. لكن أم تقولون على الله ما لا تعلمون : هذا هو الشق الأخير من الاستفهام. والشق الآخر تسبقه في اللغة العربية كلمة أمْ. وقد جاءت في عدد من الآيات في هذا السياق. وبكلمة أم يصبح الاستفهام تقريريا، أي أنكم بكل تأكيد تقولون على الله ما لا تعلمون. ***** {بلى من كسب سيّئة}: بلى تفيد النفي والإبطال: لا! إنكم ستمسكم النار أياما معدودة بل أياما طويلة لا يحصيها ولا يعلمها إلا خالق العباد. سيّئةَ بصيغة النكرة: المراد سيئة عظيمة لا تُغفر، وهي الكفر بالله. ***** {خطيئاته}: جمع خطيئة. وتُسهّل الهمزة في بعض القراءات (خطيّة) وجمعها خطايا. والخطيئات هي مجموع السيآت والجرائم التي يقترفها الإنسان عن قصد. ويقتعد الكفرُ بالله والشركُ به قمتها. وهي لا تُغفَر : {إن الله لا يغفر أن يُشْرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (سورة النساء/الآية 84). خالدون في الجنة، خالدون في النار: الخلود يعني الدوام، والاستمرار الذي لا حد له ولا ينتهي. والمبعوثون يوم القيامة لا يموتون بل يحيون حياة الخلود: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} (سورة الدخان/الاية 65). وحتى لا يعتقد أحد أن الخلود يعني البقاء في حالة واحدة طيلة وقت معين أكد الله في آيات من القرآن لا نهائية الخلود بإضافة كلمة أبدا لدفع كل التباس : {خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}. (سورة التغابن/الآية 9) {فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} (سورة الجن/الآية 32). وجاء في سورة البيّنة/الآية 8: {خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضُوا عنه}.