تعليق الدراسة باقليم الجديدة واقليم سيدي بنور يوم الثلاثاء بسبب سوء الأحوال الجوية    ابتدائية الجديدة تحسم ''ملف المزاد المشبوه'' وتدين متورطين في التلاعب بالمزادات وحمل الغير على الإدلاء بتصريحات كاذبة    أخنوش: إصلاح الصفقات العمومية رافعة لتمكين المقاولات الصغرى والمتوسطة وتعزيز تنافسيتها    نشرة إنذارية جوية.. تحذير من مخاطر التنقل ودعوة لتوخي الحذر على الطرقات    العثور على جثة فتاة عشرينية في ظروف مأساوية بحي المرس بطنجة    إحباط مخطط إرهابي خطير كان يستهدف لوس أنجلوس في ليلة رأس السنة    الإعلام الفرنسي يرشّح المغرب للتتويج بكأس إفريقيا 2025    أخنوش: إصلاح مناخ الأعمال يثمر إحداث 95 ألف مقاولة في 2024 و81 ألفا إلى متم شتنبر 2025    تعليق الدراسة بإقليم الفقيه بن صالح    الأحمد .. مهاجر سوري يتصدى للإرهاب ويتحوّل إلى بطل في أستراليا    "أسود الأطلس" و"النشامى" وجهاً لوجه في نهائي تاريخي لكأس العرب    كأس العرب: نهائي بطابع مغربي خالص بين الأردن والمغرب    اتهام نجل المخرج الأمريكي روب راينر بقتل والديه    وزارة النقل تهيب بالحذر على الطرق    صرف مساعدات مالية لموظفي الأمن    "الأسود" يتوافدون على "المعمورة"    الثلوج والأمطار تحرك السلطات المحلية في تنغير    الصحافي الفرنسي كريستوف غليز يطعن أمام محكمة النقض بحكم الحبس الصادر بحقه في الجزائر    حزب الاستقلال يعزي في ضحايا فيضانات آسفي ويؤكد تضامنه الكامل مع الساكنة    لجنة المعطيات تتبرأ من لوائح الصحافة    الرواية المغربية "في متاهات الأستاذ ف.ن." ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2026    أخنوش: إقرار ميثاق جديد للاستثمار هو إصلاح فارق خلال الولاية الحكومية بعد أكثر من 26 سنة من الانتظارية    تساقطات ثلجية وزخات مطرية قوية وهبات رياح قوية إلى الأربعاء بعدد من مناطق المملكة    المغرب يعبر الإمارات نحو نهائي كأس العرب قطر 2025    اكتفى بتعزية عابرة… أخنوش يمر سريعا على فاجعة آسفي في البرلمان    المؤثرات الأساسية على التخييل في السينما التاريخية    تعاون عربي في إصدار أغنية «روقان» للفنان المغربي محمد الرفاعي    فاس تحتظن الدورة ال13 لأيام التواصل السينمائي    كأس العرب.. السكيتيوي يعلن عن التشكيلة الرسمية لمواجهة الإمارات    تراجع ب5,7% في نفقات المقاصة    دورة ناجحة للجامعة الوطنية للأندية السينمائية بمكناس    انعقاد مجلس للحكومة الخميس المقبل    مركب نباتي يفتح آفاق علاج "الأكزيما العصبية"        التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    جدل واسع عقب اختيار محمد رمضان لإحياء حفل افتتاح كأس إفريقيا 2025    الدولار يستقر قرب أدنى مستوى له    "لارام" تُوسع شبكتها الجوية ب10 وجهات جديدة ابتداء من 2026    "البيجيدي" ينتقد توزيع الدعم على الفلاحين الصغار بمنطق الولاءات السياسية والانتماء الحزبي    إعلام إسرائيل يكشف تفاصيل عن حاخام قتل في هجوم سيدني وعلاقته بحرب غزة    البابا يحذر أجهزة المخابرات من إساءة استخدام برامج التجسس وتأثيرها على الحريات والديمقراطية    تقرير: ملايين المسلمين في بريطانيا عرضة لخطر سحب الجنسية    أسعار صناعات التحويل تزيد بالمغرب    ترامب يوقع أمراً تنفيذياً جديداً ينظم قواعد الذكاء الاصطناعي    سيول آسفي ترفع حصيلة الضحايا إلى 37 وفاة واستنفار متواصل للسلطات    محطة القطار "الرباط الرياض" تفتتح تأهبا لاستقبال كان المغرب    عريضة توقيعات تطالب بالإفراج عن الرابور "PAUSE" وتدق ناقوس الخطر حول حرية الإبداع بالمغرب    بنسليمان تحتضن المعرض الجهوي للكتاب من 17 إلى 22 دجنبر احتفاءً بالقراءة في زمن التحول الرقمي    رافينيا يحسم مستقبله مع برشلونة بقرار مثير: "لن أغادر الفريق قبل التتويج بدوري أبطال أوروبا"    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مطارحات نقدية أولية حول القصيدة العباسية
نشر في طنجة الأدبية يوم 05 - 02 - 2011


1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟
1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.