موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مطارحات نقدية أولية حول القصيدة العباسية
نشر في طنجة الأدبية يوم 05 - 02 - 2011


1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟
1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.