وثائق سرية تكشف تورط البوليساريو في حرب سوريا بتنسيق إيراني جزائري    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" بالناظور    من فرانكفورت إلى عكاشة .. نهاية مفاجئة لمحمد بودريقة    أخنوش يمثل جلالة الملك في جنازة البابا فرانسوا    دول الساحل تعلن دعمها الكامل للمغرب وتثمن مبادرة "الرباط – الأطلسي" الاستراتيجية    مجلس جهة طنجة يشارك في المعرض الدولي للفلاحة لتسليط الضوء على تحديات الماء والتنمية    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يقوم بزيارة عمل إلى إثيوبيا    جريمة مكتملة الأركان قرب واد مرتيل أبطالها منتخبون    مؤتمر "بيجيدي".. غياب شخصيات وازنة وسط حضور "طيف بنكيران"    جريمة قتل جديدة في ابن أحمد    طنجة تحتضن النسخة الحادية عشرة من الدوري الدولي "مولاي الحسن" بمشاركة أندية مغربية وإسبانية    الشيبي يسهم في تأهل بيراميدز    أخنوش يصل إلى روما لتمثيل جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    هيئة: وقفات بعدد من المدن المغربية تضامنا مع غزة وتنديدا بالإبادة الجماعية    مرسوم حكومي جديد يُحوّل "منطقة التصدير الحرة طنجة تيك" إلى "منطقة التسريع الصناعي" ويوسّع نطاقها الجغرافي    وليد الركراكي: نهجنا التواصل وعرض مشاريعنا على اللاعبين مزدوجي الجنسية... نحترم قراراتهم    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يقوم بزيارة عمل إلى إثيوبيا    أخنوش يصل إلى روما لتمثيل جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    بسبب التحكيم.. توتر جديد بين ريال مدريد ورابطة الليغا قبل نهائي كأس الملك    نشرة إنذارية: زخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة الجمعة بعدد من مناطق المملكة    قطار التعاون ينطلق بسرعة فائقة بين الرباط وباريس: ماكرون يحتفي بثمرة الشراكة مع المغرب    الأخضر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    تقرير يكشف عن نقص في دعم متضرري زلزال الحوز: 16% لم يحصلوا على المساعدة    عناصر بجبهة البوليساريو يسلمون أنفسهم طواعية للجيش المغربي    بودريقة يمثل أمام قاضي التحقيق .. وهذه لائحة التهم    إسكوبار الصحراء.. الناصري يلتمس من المحكمة مواجهته بالفنانة لطيفة رأفت    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    افتتاح مركز لتدريب القوات الخاصة بجماعة القصر الصغير بتعاون مغربي أمريكي    إحصاء الخدمة العسكرية ينطلق وأبناء الجالية مدعوون للتسجيل    مذكرة السبت والأحد 26/27 أبريل    ضابط شرطة يطلق رصاصا تحذيريا لإيقاف مروج مخدرات حرض كلابا شرسة ضد عناصر الأمن بجرادة    مهرجان "كوميديا بلانكا" يعود في نسخته الثانية بالدار البيضاء    "أمنستي" تدين تصاعد القمع بالجزائر    أرباح اتصالات المغرب تتراجع 5.9% خلال الربع الأول من 2025    أبرزها "كلاسيكو" بين الجيش والوداد.. العصبة تكشف عن برنامج الجولة 28    طنجة.. ندوة تنزيل تصاميم التهيئة تدعو لتقوية دور الجماعات وتقدم 15 توصية لتجاوز التعثرات    على حمار أعْرَج يزُفّون ثقافتنا في هودج !    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يناقش "الحق في المدينة" وتحولات العمران    الإعلان عن صفقة ب 11.3 مليار لتأهيل مطار الناظور- العروي    السايح مدرب منتخب "الفوتسال" للسيدات: "هدفنا هو التتويج بلقب "الكان" وأكدنا بأننا جاهزين لجميع السيناريوهات"    كاتبة الدولة الدريوش تؤكد من أبيدجان إلتزام المملكة المغربية الراسخ بدعم التعاون الإفريقي في مجال الصيد البحري    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    الملك يقيم مأدبة عشاء على شرف المدعوين والمشاركين في الدورة ال 17 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب    المديرة العامة لصندوق النقد الدولي: المغرب نموذج للثقة الدولية والاستقرار الاقتصادي    "الإيسيسكو" تقدم الدبلوماسية الحضارية كمفهوم جديد في معرض الكتاب    أكاديمية المملكة المغربية تسلّم شارات أربعة أعضاء جدد دوليّين    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    الحل في الفاكهة الصفراء.. دراسة توصي بالموز لمواجهة ارتفاع الضغط    المغرب يعزز منظومته الصحية للحفاظ على معدلات تغطية تلقيحية عالية    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مطارحات نقدية أولية حول القصيدة العباسية
نشر في طنجة الأدبية يوم 05 - 02 - 2011


1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟
1. أحكام متلدة وطرح طريف:
تكاد تتفق جل الدراسات التي قاربت الحياة الأدبية في العصر العباسي حول نفس المهيع الذي سلكته، ألا وهو التقوقع حول هذا العصر ومحاولة عزله زمانيا (132 – 656ه) وتبيان ما كان فيها من توسع في العمران وخروج من حياة البدو إلى بهرجة الحضارة، وما صاحب هذا كله من قلاقل وتشذرات في الحكم ومناوءات حول السلطة مخصصين كل مرحلة على حدة بأدباء وشعراء وسموها بل يذهبون أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن كل مرحلة من مراحل الحكم العباسي لها خصائصها الفنية ومياسمها الجمالية المحددة، وأن الحياة – في كل أبعادها – قد عرفت في هذه المرحلة تطورا جذريا سواء من حيث المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية (التأثير الهيليني، المثقافة، بداية الجمع والتدوين في اللغة والعلوم، انتشار الفرق الكلامية والمذاهب العقلية...) مدعين أن كل هذه العوامل قمينة بأن تحول مسار التجربة الشعرية وتعدل فيه وكأن الأدب رهين بالتحولات السياسية، كلما ازدهرت هذه الأخيرة ازدهر، وكلما اندحرت تردى واندحر، وهي فكرة لا يلوكها العقل ولا يقرها النقل؛ وذلك من جهتين: الأولى يمثلها التساؤل الإشكالي الآتي الذي يطرح نفسه بقوة: كيف بيوم واحد يفصل بين دولة / سياسية ودولة أخرى أن يحدث تغييرا في الحياة الأدبية والفكرية ؟؟؟ ونحن نعلم أن التغيير مشروع يحتاج إلى عقود كي يتبلور ويتحقق، والثانية تستند على بعض المنجزات الفكرية في حقلي البلاغة والنقد الأدبيين وما تنماز به من بذاخة وسموق في عصر نعت بالانحطاط، بله ننظر في مرحلة التأسيس التي شكلتها النصوص الشعرية اللجية الجمال والإسار والتي كتبت في مرحلة لم تعرف الإستقرار والدعة قط، وكانت قائمة على الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ مغبة غبشة مهامه الصحراء ومفاوزها المقفرة، ومغبة الموت المحذق ذات اليمين وذات الشمال بفعل كثرة الإغارات والحروب من جهة، وما يسد به غائلة الطوى والمسغبة من جهة أخرى.
وقد شكلت هذه الأفكار سندا اعتمده دعاة التأصيل للحداثة في تأكيد الفكرة القائلة بأن شعراء المرحلة العباسية مثلوا خروجا عن المألوف والنموذج الشعري التأسيسي، وأسسوا بذلك لنموذج شعري قوامه؛ التصنع في اللفظ، وطلاوة التعبير، وخلق بدائل موضوعية / تيمائية جديدة عوض المقدمة الطللية. لكن هذا الرأي سرعان ما يخر متهاويا عندما نعود لتلك النصوص التي بقيت على حالها لم يمسسها تغير لا من حيث الشكل ولا المضمون، اللهم تلك الإضافات اليسيرة التي فرضتها روح العصر؛ والمتمثلة في الإغراق في استعمال المساحيق البديعية والتنميقات البلاغية، وفي محاولة طرح بدائل جديدة؛ خاصة ما لمسناه في محاولة أبي نواس وبشار من طرح بديل جديد عن المقدمة النسيبية، ومرد ذلك أن كليهما كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية صعبة، دفعتهما إلى طرح تلك البدائل، حتى يتسنى لهما إثبات الذات ونيل الحظوة المفقودة، لكن سرعان ما فشلوا في ذلك وعادوا إلى النموذج الأسمى الذي يشكل الطلل ديدنه الشعري.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن القصيدة العربية واحدة على مر العصور لم يطلها أي تغيير ولا تبديل، يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: « وهكذا ظل الإطار العام القديم، هو نفس الإطار لدى أبي نواس، أما التغيير فقد حدث في التفصيلات التي ملأ بها هذا الإطار» .
ويقول أيضا: « على الرغم من كل ما طرأ على المجتمع العباسي من تغير وتطور، ظلت المجالات الموضوعية التي عرفت للشعر من قبل قائمة ومستمرة، فالمدح والرثاء والهجاء والغزل والوصف والمجون والزهد، كلها ظلت مجالات للإبداع الشعري في ذلك العصر » .
أما الأستاذ محمد نجيب البهيتي فيقول: « ومن هنا بقي الاستفتاح التقليدي في ميزان التقديم أثقل وأرجح واتصل بقاؤه، ومن هنا لم يجد أبو نواس نفسه قادرا على أن يسير سيرته في هجر هذا الباب في جمع قصائده » .
فدونكها الأبيات الآتية – خاصة في مدائحه - :
ألاحي أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام وجواتما
أربع البلا إن الخشوع لباد عليك، وإني لم أخنك ودادي
فإذا تأملنا البيتين نلفي أبا نواس واقفا بباب الطلل يطلب وصاله ومسامحته، بعدما تأكد بأنه طلسم وجودي يسم حياة الشاعر، فالوقوف عنده بمثابة مثير للذات الشاعرة التي تحاول أن يعطيها الشعر قياده من جهة. ومحاولة لشد انتباه المتلقي واستمالة عواطفه من جهة أخرى؛ يقول ابن رشيق: « (-) افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل » .
2. في وحدة القصيدة:
من المسلم به أن القصيدة الشعرية دفقة شعورية حاصلة في زمان ومكان محددين وغير قابلة للتكرار، لكن تذهب بعض الدراسات إلى فكرة مؤداها؛ تشذر أوصال القصيدة (المرأة، الخمرة، الناقة، المدح...) دون وعي بأن الشاعر حينما يعرج على الطلل يبكيه والرسم الدارس يشجيه والخمرة المعتقة تغريه والناقة التي تبهره والفرس الذي يسحره، إنما يوالف بين هذه الدرر في سلك رفيعة لا يعرفها إلا انقاد الذواقة للشعر، كما أنه يحاول (الشاعر) تهييء نفسه للقول الشعري، وتهييء متلقيه لتقبله، وحسبك من ذلك كعب بن زهير الذي أتى طالبا عفو رسول الله المأمول، فوجد نفسه يصف سعدى، وهنا تحضر أبرز مظاهر اللاوعي الذي يصاحب عملية نظم القريض، ومن تم يشرع لنا القول؛ إن تلك البنيات هي عناصر مختزلة في الضمير الجمعي الشعري العربي، أو لنقل بمثابة حالة من التوثب الوجداني والاستعداد الفطري للقول الشعري.
3. مواضيع الشعر واحدة لا تتغير:
اختلفت وتباينت تحديدات أغراض ومواضيع الشعر بين العرب القدماء، فمنهم من حصرها في سبعة أغراض (أبو العباس ثعلب) ومنهم من حصرها في ستة أغراض (قدامى بن جعفر وأبو هلال العسكري). بينما حصرها ابن رشيق القيرواني في عشرة أغراض، ومر هذا الاختلاف إلى كثرة التصنيفات واختلاف المقاييس والضوابط، وتباين المنطلقات مما أدى إلى تباين النتائج، لكن من خلال استقراء المتون الشعرية واستقطار ذاكرتها، يتبدى جليا أن مواضيع الشعر لا تخرج عن النسيب والوصف المرتبط بحالة الطرب، والهجاء اللصيق بالغضب والمديح المرتبط بالرغبة والاستجداء والاستعطاف المصاحب للرهبة.
وتجدر الإشارة أن جوهر الشعر كله؛ المدح وأن كل المواضيع الأخرى تنطلق منه أو تنبثق عنه وذلك لدلائل هي:
‌أ. عندما يفتخرالشاعر بنفسه وعشيرته؛ فإنه يمدح نفسه وعشيرته بذكر الأمجاد والمناقب.
‌ب. عندما يتشبب بامرأة متغزلا؛ فإنه يمدح جانب الفحولة منه ويبئر عليه.
‌ج. عندما يهجو شخصا ما؛ فإنه في هجائه له يفخر ضمنيا بذاته ويعلي من مرتبة نفسه.
‌د. عندما يمدح خليفة أو أميرا؛ فإنه يبطن ذلك مدح ذاته، ويمدحها من خلال الممدوح.
‌ه. عندما يرثي أحدا ما، فذاك مدح لخلاله النبيلة.
وإذا ما عدنا إلى مرحلة التأسيس نلفي أن القصيدة العربية الواحدة تحبل بعدة أغراض – وهذا لا يعني تشذرها – وأن كل غرض يخصص له حيز شعري معين، حالما ينتهي يبدأ غرضا آخر، دون أن نعي هذا الانتقال الغرضي ودونما إساءة أو تشويه للقصيدة، وهذا ما يسميه النقاد ببراعة أو حسن التخلص. في حين أن أفردت القصيدة في المرحلة العباسية لغرض واحد، وهذا مكمن ادعاء التحول وبداية الحداثة الشعرية في نظر بعض الدارسين؛ الذين غاب عنهم أن هذا الإفراد الغرضي ليس سوى تمطيط للقصيدة التأسيسية القديمة، والاكتفاء بموضوع واحد ووحيد والتفصيل فيه شعرا. وهنا يطالعنا السؤال الآتي: من هو أشعر وأحق بصفة الفحولة؟ هل شاعر مرحلة التأسيس الذي كان يعوج على مواضيع كثيرة في قصيدة واحدة في انسلاك جمالي تام وإسار شعري بارع؟ أم الشاعر العباسي الذي اكتفى بالنظم في موضوع وحيد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.