يقول النفري في المخاطبات: (يا عبد لا تنطق، فمن وصل لا ينطق) الصمت إذن درجة عليا بعيدة جدا، درجة لا يصلها إلا الواصلون من أهل المعرفة والحكمة، ولا أظنني يمكن أن أكون منهم، الآن على الأقل، أما بعد الآن، فإنني لا أدري، ولا أريد أن أدري، ولا يهمني أبدا أن أدري، درجة هو هذا الصمت إذن، في سلم صعب وشاق ومتعب ومرعب، سلم يصعد إلى السماوات العالية والبعيدة، ولأنني مازلت أنطق، ومازلت أكتب، ومازلت أشاغب، ومازلت أسافر، فليس لذلك إلا معنى واحد أوحد، وهو أنني لم أصل بعد، ولا ظنني يمكن أن أصل غدا أو بعد غد أوفي أي يوم من الأيام القريبة أو البعيدة، وذلك لأن رحلتي لا تعشق إلا نفسها، وهي لا تمشي باتجاه محطة نهائية تنتهي إليها، وأيضا، لأن كلامي لا يعشق إلا روح الكلام، روحه الصادق طبعا، وأيضا، لأنني في فعل هذه الكتابة لا شيء يستهويني ويغويني إلا سحر الكتابة، ولهذا، فإنني أمنح نفسي كل حقوقها الطبيعية والمشروعة، وسأواصل الكتابة والكلام، وسأواصل الحفر والنبش، وسأواصل الإدهاش والاندهاش، وسأواصل الفعل والانفعال، وسأواصل السير والترحال، وسأواصل القبض على الممكن والمحال، وسأواصل الجمع بين عالم الحس ودنيا الخيال، وما أظنني يمكن أن أتخلى عن المشروع الاحتفالي بسهولة، وذلك لأنه (تراث إنساني) عام وليس ملكية خاصة، وعليه، فإنني لن أكف أبدا عن الكلام المباح، ولن أتوقف عن إصدار البيانات، ولن (أتوب) عن النظر العقلي، ولا عن (اقتراف) التأمل الفلسفي، ومن كانت له حساسية مرضية اتجاه هذه الكتابات، فإنني أوصيه ألا يقترب منها، وأن يحاول أن ينساها، أو يتناساها، أو أن يدفن رأسه في الرمال، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.. إن هذه الاحتفالية، وهي قيمة رمزية، تسعى إلى (تأثيث العالم أولا، وهو تأسيس علم آخر ثانيا، عالم وعلم يكونان أكثر حقيقة وأكثر جمالا وأكثر اتساقا وانسجاما وأكثر هرمونية وشفافية وأكثر حيوية وإنسانية ومدنية وعقلية)1 وذلك العالم الآخر، الموجود أو الممكن الوجود، من أين يمكن أن نأتي به؟ وذلك العلم العالمي الآخر، من أي طريق يمكن أن نذهب إليه؟ مرة أخرى أقول، مع ذلك الذي قال في مسرحية فاوست لجوته (الصناعة كبيرة والعمر قصير) نعم، وأنا في زحمة هذه الأيام والليالي، أحاول أن أبحث لنفسي عن موقع قدم، أبحث مع الباحثين في عالم يضق بأقدام العمالقة، وبأقدام الأقزام، وأيضا بأقدام كثير من الكائنات المجهرية، والتي لا يمكن أن تراها كل العيون. إن شروط الكتابة اليوم تماما كما كانت دائما هي شروط صعبة وقاسية، وهي محددة ومحدودة، تماما مثل شروط وجودنا في هذا الوجود، فنحن لا يمكن أن نرى إلا ما نحياه، ولا يمكن أن نتخيل إلا ما نعيشه، في اللحظة لآن، وفي المكان هنا، ولكن القراءة شيء آخر، والقارئ أسعد حظا من الكاتب دائما، وأسعد حظا منه أيضا، كما أنه أوسع حرية منه. إن فعل الكتابة يمكن أن يتم الآن، بوحي هذا الآن المحدد والمحدود، كما يمكن أن يتم غدا، وذلك بوعي مستقبلي مفتوح، وبهذا كانت القراءة في معناها الحقيقي حزمة إمكانيات لا متناهية العدد، ولا متناهية الأبعاد والمستويات.. إن القراءة فعل مستقبلي، وهي سلطة تمتلك القدرة على التفسير والتأويل، وهي فعل لاستعادة المكتوب، ليس كما كتبه المؤلف في ذات زمن، وفي ذات لحظة هاربة ومنفلتة وزئبقية، ولكن كما يمكن أن يتم تركيبه من جديد، وذلك في ضوء حرارة اللحظة الحية، وفي ضوء السياقات التي تتم فيها القراءة، والي هي سياقات متحركة ومتغيرة ومتحولة ومتجددة باستمرار، ولمن يسألني من أنت يا هذا، أقول الكلمة التالية: أنا إنسان غير كامل الإنسانية، وبأنني لا أتوقف أبدا في البحث عن هذه الإنسانية الضائعة، وبأنني مواطن في هذه الأوطان الغريبة والعجيبة، وبأن مواطنتي اليوم ناقصة ومعطوبة، كما أنني كاتب، ومن سوء حظي أنني كاتب في عالم يضيع اليوم روح الكتابة، ويضيع حقيقتها ومعناها، وبدل أن يكتب بالحروف والكلمات والعبارات، فإنه لا يكتب إلا بالأرقام، وتلك هي المشكلة الكبرى.. مشكلتي أنا أو مشكلة هذا العالم. لست أدري.. في هذا العالم، تأسرني الأمكنة والأزمنة، مع أنني لا أومن بالخرائط الإدارية، ولا أعترف إلا بخرائط الوجدان والروح، وكل أرض تسكن فيها روحي، وتطمئن فيها نفسي، وألقى فيها الحرية والكرامة، فهي أرضي، وهي وطني، وفيها يمكن أن يكون عنواني، وإن كل الذين يشبهونني، نفسيا وذهنيا ووجدانيا وروحيا، هم بالضرورة إخوتي وأهلي، وكل الذين يقتسمون معي نفس الطريق، هم بالضرورة رفاقي.. رفاق الطريق.. أنا شرقي النفس والروح والهوى، ولكنني غربي التفكير والعقل، أو على الأقل، هكذا أريد أن أكون، وهل كل ما نعشقه نكونه؟ أنا كاتب وكتابة، كاتب عابر في لحظة عابرة، ولكن كتابته مقيمة، وهي أطول منه عمرا وقامة، وأنا ممثل في مسرحية الوجود، الممثل فيها راحل حتما، ولكن المسرحية مستمرة ومتواصلة. وأنا عينان اثنان، تبصران وتعشقان وتعقلان وتندهشان بصدق طفولي، عينان بسعة الدنيا، وبسعة الكون، وبسعة الوجود، وبسعة التاريخ، وبسعة الجغرافيا، وبسعة الأبدية، وحلمي أن تكونا في سعة الحلم أيضا، وهل هذا ممكن؟ لست أدري.. وأنا كاتب مغربي، عربي، أمازيغي، إفريقي، متوسطي، موريسكي، وأطمح في أن أكون مواطنا كونيا، وأن يكون انتسابي الحقيقي لهذا الكوكب الذي يسمى الأرض، والذي ضاق اليوم كثيرا، حتى أصبح في حجم قرية كبيرة جدا. وهذا اليوم ماذا يمكن أن أقول عنه؟ إن (كل يوم في حياتنا نصفان، نهار بلون الشمس وليل بلون القمر، في النهار أفتح عيني على الأوهام، وفي الليل أفتحهما على الأحلام، وبين حدي الأوهام والأحلام أحيا ما يشبه الحياة وأهفو إلى حياة حقيقية تبدأ فيها الحياة) 2 والحياة أيضا لحظتان، الأولى للحضور والثاني للغياب، وكل غياب هنا، هو بالضرورة حضور هناك، وبذلك، فإنه لا وجود إلا للحضور..