ذات مرة، عندما كان "نايف" يجلس على شرفة بيته المطلة على الزقاق المؤدي إلى عمارتهم، لفت انتباهه دخول غريب إلى الحي، يرتدي قبعة انجليزية الشكل ومعطفًا طويلاً، وبدا بزيه مثل رجال المافيا أو مثل رجال الشرطة الانجليزية في الأفلام السينمائية، وأوحت تعابير وجهه الصارمة، بأنه ليس محليًا، وليس سائحًا ولا حتى عربيًا، فالمحليون يعرفون السياح جيدًا، يشمون رائحتهم عن بعد، أما هذا فكان يمشي مطأطئ الرأس ينظر إلى المارة بتمعن وسكينة لا تشوبها شائبة، غير قلق ولو مثقال ذرة، وفي عينيه سؤال، كأنه يريد أن يستفسر عن شيء ما، ولا يدري من يسأل بالتحديد.. راقب "نايف" حركات الغريب وخطواته باهتمام شديد، فمن المستحيل أن يدخل أي شخص إلى هذا الحي دون أن يُعرف من هو؟ إلى أين وجهته؟ وماذا يبغي؟ وإلى آخره من أسئلة الفضول وحب الاستطلاع الحاراتية. فحتى الأطفال اجتذبهم الزائر والتفوا حوله. ففي هذه الأحياء الشعبية، الكل يعرفون بعضهم بعضًا، وبمجرد دخول قدم غريبة إليهم سيثير التساؤل عند الجميع. ووسط هرج ومرج الأطفال حول الضيف، بادر الغريب بسؤال أحد المارة من الشبان، فأجابه الشاب وهو يشير بيده نحو العمارة القديمة والمتداعية، واستدل "نايف" من حركاته بأنه متجه نحو البناية التي يسكنها والمكونة من ثلاثة طوابق، وتسكنها ثماني عائلات؟ دخل الغريب من البوابة الخشبية العتيقة للعمارة واختفى داخلها، ولم يدر "نايف" من كان يقصد في عمارتهم، وخجل أن يصيح ويسال الناس من الشرفة: من هذا الغريب؟! كتم فضوله الذي بلغ عنده إلى الذروة.. انتظر لحظات حتى يتبين وجهته لكنه لم يفلح بذلك.. عاد "نايف" وجلس على كنبته المريحة المتربعة على الشرفة، تسفع بأشعة الشمس الحارة، وتصفح بعض الجرائد وأخذ يتمتع بالصباح، ومن مكانه أخذ بمراقبة الناس والتفلسف وتحليل أمورهم.. فعل كل ذلك ليطرد شيطان الفضول الذي هاجمه وأخذ يوسوس له.. وبعد فترة زمنية قصيرة، استطاع التغلب عليه، ونسي أمر الغريب تماما. ما أن مرت ساعة من الزمن، حتى خرج الغريب من العمارة عائدا من حيث أتى، غير ملتفت يمينا أو يسارا، يضع يديه في جيوبه ويمشي الهوينى، مطأطئ الرأس كما دخل.. فعاد فضول "نايف"، وكاد يقتله هذه المرة.. لم يستطع "نايف" الانتظار فتوجه إلى ابن الجيران الصغير الذي يسكن في ذات العمارة وسأله: عند من دخل هذا الغريب؟ فأجاب الصغير: كان في بيت "أبو قاسم".. هب "نايف" مسرعا إلى بيت الدرج وطرق باب "أبو القاسم"، وكان قاسم صديقه، من فتح الباب له، فادعى أته حضر ليحتسي الشاي عنده وليقتلا بعض الوقت معا.. ودون مقدمات، سأله "نايف": - من هذا الغريب الذي زاركم اليوم، وماذا يريد يا قاسم؟ - انه يهودي ويدعى "شلومو" كان والدي يعمل لديه منذ أمد بعيد، حتى أن والدي لم يتذكره عندما أخبره بذلك.. - وما هو سبب زيارته؟ - يقول أنه أصيب بمرض خطير وأبلغه الأطباء بأن أيامه معدودة! - وما دخل والدك في ذلك؟ - يدعي الغريب، بأن والدي، عندما كان يعمل لديه، لم يأخذ أجرته كافية، وبأن الغريب كان يدفع له أجرة أقل مما يستحق. - ولماذا يخبره بذلك الآن!؟ - يقول، أنه لا يريد أن يموت وفي ذمته دين لأحد.. - وهل أعطى والدك نقود؟ - أعطاه مبلغا كبيرا مع فوائده المتراكمة منذ سنوات عديدة!! - ماذا!؟ لا اصدق ما أسمع!! انه لأمر غريب جدا!! - أبي استغرب الأمر كذلك، وقال لشلومو: "الأجرة التي أخذتها منك هي ما اتفقت معك عليها منذ البداية، وأنا لا أريد زيادة".. فأوضح له الغريب بأن أجرته يجب أن تكون أكبر بكثير مما أعطاه، ولكنه كان يستغله ولا يدفع له إلا القليل وانه يريد أن يبرئ ذمته ويدفع له فرق الأجرة.. - وكم من الوقت عمل لديه؟ - خمسة أعوام.. - يعني أن المبلغ كبير جدا؟ - هو كذلك، وقرر أبي أن يصرفه على تعليم إخوتي.. فكر "نايف" في ذاته مليا وبدأ يغربل الأمور: هل هذا ممكن؟ يا الهي كم هو صادق وأمين هذا الشخص! كيف يمكن للمرء أن يحاسب نفسه بصدق متناه، هل هو الإيمان، أم الخوف من عقاب الآخرة، أم هي صحوة ضميرية صادقة؟!.. فكثير من الناس يستمرون في تكديس أموالهم حتى الرمق الأخير ولكن منطق هذا الرجل هو الصحيح، فعندما يموت الإنسان لا يأخذ معه شيئا. قطع "قاسم" حبل أفكار "نايف" وسأله: بماذا تفكر؟ - أفكر بالناس وكل الذين يملكون الأموال الهائلة، لو فعلوا مثلما فعل "شلومو".. - وماذا كنت ستفعل أنت لو كنت مكانه؟ - لو كنت انا مكان شلومو ماذا سأفعل حين يدنو الموت مني ويطرق بابي.. ماذا سأفعل؟ حقا ماذا سأفعل؟.. فكر هنيهة، وكأن الكلام مات على شفتيه. وجال في خياله ثم قال: لا ادري، فانا لا أدين بمال لأحد، ولي الكثير من المبالغ عند الناس.. لكن ربما سأكفر عن أخطائي التي ارتكبتها في حياتي.. - ماذا مثلا؟ - كنت سأطلب المغفرة من أبي، على سبيل المثال.. -المغفرة عن ماذا؟! - أخطأت في حقه.. أحبه كثيرا ولم أقل له ذلك أبدا، مات وهو لا يعلم بذلك.. حتى أنا لم أكن اعلم مدى حبي له، إلا بعد وفاته.. كنت أعتقد انه ظالم، وأنه يكرهنا أنا وأخواتي، كان يوسعنا ضربا، وفي نفس الوقت، كان يفقد صوابه إذا مرض أحدنا، أو لحقنا أي أذى، آمنت في صغري أن الضرب والعنف هو عمل لا أنساني، رأيت منه فقط قسوته ولم أر عطفه وحنانه. فهو لم يرد لنا الخطأ أبدا، عمل وكد طوال حياته ليعلمنا جميعا ولم يبخل علينا أبدا، صحيح أنه كان مقتصدًا ولا يدعنا نبذر الماء عند الاستحمام أو نبقي المصابيح مضاءة في الليل، كنا نخاف العتمة ونحب السهر والقراءة في الليل، لكنه كان يطلب منا أن نقرأ في النهار فقط، كان يريد التوفير بهذه الأمور ليصرف على مأكلنا وملبسنا ودراستنا، ولم نكن نفهم ذلك.. سأطلب المغفرة منه واعتذر عما بدر مني تجاهه.. كان يستحق المكافأة من أحدنا، ولم نفعل ذلك... آه لو سنحت لي الفرصة من جديد، لأكون معه، سأبرمج أيامي وساعاتي من أجله.. قضى والدي فترة طويلة في السجن قبل زواجه، لم أسمع منه شيئا عن تلك الفترة،لا أذكر أي حكاية من حكايته في السجن.. السجن رباه وعلمه.. كنت سأنهل الكثير من طباعه، وما نهلته منه كان بشكل غير مبرمج، بالصدفة، كوننا نعيش مع بعض.. كم أتمنى أن أجالسه اليوم وأسمع منه، أخي الكبير يعرف كل قصصه، أما أنا فلم أفسح المجال له أو لنفسي.. لو صادقت أبي، كان سيحبني وسينجذب لي، فعندي ما أقوله له، وتطابق أفكاره أفكاري... سامحني يا أبي واغفر لي... - لا تقلق، سيسامحك يا "نايف".. - الله يرحمك يابا.. يبدو أنني لم أنجح بالتفاهم مع ابني اليوم، لأنني لم أتفاهم مع أبي من قبل. صمت نايف وأخذ يفكر وكان من الصعب تفسير تعابير وجهه آنذاك.. ثم عاد يفكر في الغريب ولفتته الإنسانية لأيامه الأخيرة، وواصل حديثه مقطبا حاجبيه وموجهًا كلامه إلى "قاسم": سأعتذر للكثير من الصبايا، لأنني لم أوافيهن حقهن، أهنتهن وجرحتهن من دون قصد، طلبن مني أن أكون رجلا جريئا فكنت جبانا وحساسا.. هكذا أنا، لم افلح بالتواصل معهن، طلبن ضمنًا أن أحبهن وأن أنمي علاقتي بهن، ولكنني لم أملك الجرأة، بسبب خجلي وجبني.. خفت ردة فعلهن، وهذا ما خيب أملهن فحافظن على الصداقة والمحبة معي عن بعد.. سأطلب السماح والمغفرة من جميع الفتيات اللواتي عرفتهن.. آه، يا بنات، كم جلبت لكن من الهم والغم. - لكنك في النهاية اخترت واحدة وتزوجتها؟ - هذه بالذات سأطلب منها المغفرة، سأعتذر من زوجتي، لأنني أقنعتها بالزواج مني.. كانت زوجتي جريئة وقوية وطلبت مني أن تدوم علاقتنا وان ننجب أطفالا دون أن يكون ذلك الذي يسمونه عقد زواج، ولم أصغ إليها، خفت عليها وعلى نفسي من المجتمع، سأعتذر منها على هذا الخطأ الجسيم الذي ارتكبته في حقها.. لقد اغتلت حريتها. - وممن ستعتذر أيضا، يا أبو الأسفات؟! - سأبحث عن صديقي جمال، الذي لا اعرف أين هو في بقاع العالم وأعتذر منه على خصامي له الذي مضى عليه ثلاثون عاما، بسبب خلاف تافه، فهو صديق الطفولة والدراسة.. تصور أنني خاصمته كل هذه المدة، لأنه سرق مني مسطرة!! ابتسم "قاسم" وقال: لا تهتم يا صاحبي فديونك ليست بكثيرة وباهظة.. دعني أصنع لك إبريقا من الليمونادة ولنتحدث في موضوع آخر غير ذلك الغريب.. نهض قاسم ودخل إلى المطبخ وعاد بعد قليل وفي يديه صينية عليها إبريق الليمونادة المخلوطة بأوراق النعناع الخضراء، وكأسين فارغين وعلبة سكر وبجانبهما إبريق صغير من القهوة العربية وقال: صنعت لك يا خواجة "نايف" أحلى ليمونادة وأذكى غلاية قهوة مهيلة من يد "أم قاسم".. لم يجب "نايف" ولم يلتفت إلى صديقه، كان ينظر إلى مكان بعيد شاخص العينين كأنه يرنو إلى نقطة ما، شارد الذهن، متكأ برأسه إلى الخلف متفرسا ومتأملا في السماء ويداه متكئتان على حضنه.. فقال قاسم مرة أخرى: ماذا بك يا صديقي هل ما زلت تفكر في ذلك الغريب؟ ولم يجب "نايف" مرة أخرى.. فقال قاسم: نايف.. نايف.. نايف.. ولم يجب نايف! *** بعد أسبوع، كان "قاسم" يبحث عن "جمال" ليبلغه اعتذار "نايف"....