لقد شكك البعض في وجود المسيح، وشك آخرون في وجود سقراط ، وشكت جماعة من مؤرخي الأدب في وجود عنترة وامرئ القيس... لكن كل هذه الحالات لم تبلغ ما بلغته حالة شكسبير من اختلاف وسجال في شأن حقيقته وأصله! أما نحن فلا يسكننا هذا الوسواس الخناس، إذ نعتقد أنه لا يقدم ولا يؤخر أن يكون شكسبير هو الأديب مالرو أو الملكة إليزابيث أو الجن الأزرق، فالأهم عندنا ليس اسم الكاتب بل محتوى المكتوب. ولذا فالقصد هو تحليل المتن الشكسبيري وفهم مكوناته وأسلوبه الفني لا افتعال الشهرة بتغيير اسم قائله؛ فحتى الذين غيروا اسم قائل المتن (من شكسبير إلى مالرو أو فرنسيس بيكون مثلا) لم يقدموا أي إضافة عند المقاربة النقدية للنتاج الشكسبيري. ومعلوم أن الأولوية في النقد المعاصر – خاصة في التعامل مع أجناس الأدب – هي للمتن والقارئ المتلقي له لا للكاتب. أجل لسنا من دعاة بنيوية «تمويت المؤلف»، لكننا في ذات الوقت لا نرتاح للمقام في مقبرة الكتاب لنختار أي قبر من القبور ننسب إلى دفينه فضل كتابة هذا المتن أو ذاك! لكنني إذ أستثقل أن أقرأ من يقول إن شكسبير مجرد اسم وهمي، أو تسمية تخفى وراءها الأديب مالرو، أو اليهودية إيميلي أو حتى الملكة إليزابيث، فإنني لا أستثقل عندما أقرأ أن شكسبير مجرد اسم وهمي لخمسين أديبا!! إذ يشفع لهؤلاء، في نظري، أن ينسبوا مسرحياته إلى كُتَّاب كثر، ولا يسوغ لأولئك أن ينسبوها إلى شخص واحد! لماذا؟ لأن مسرحيات شكسبير فريدة حقا بالقياس إلى نواتج الإبداع الفني، فقد أجاد هذا المبدع في كل الوضعيات والشخوص التي نطق بها، وتصرف من خلالها، وكأنه كان فعلا عددا هائلا من الكتبة، كلُّ واحد منهم ينطق في الموقع الذي يجيده، لا كاتبا واحدا. إن شكسبير – ذلك الكاتب الرديء، حسب زعم تولستوي!، أو «نابغة الدهور» حسب وصف الأديب برادبروك- نراه أفضل من اختزل الحياة في بطن كتاب، واحتواها، على شساعتها وتنوع شخوصها وحوادثها على خشبة مسرح!. فعندما ننظر في مسرح موليير مثلا نجد مهارة هذا الأخير محصورة في الملهاة لا غير، وعندما يغادر موقف الملهاة إلى التراجيديا لا يرقى إلى ذات المقام ولا يبدو بنفس الاقتدار والتميز. وعندما تقرأ للمنفلوطي أو ألفريد دو موسيه أو نوفاليس... تجدهم مالكين لناصية القول في توصيف مشاعر الحب وأحاسيس العشق، غير انه في سوى هذا الموضوع مجرد كتاب عاديين، إن لم يكونوا ضامري الخيال ومحدودي الأفق. إلا أن شكسبير يبدو استثناء غريبا حتى أنك لا تكاد تجد له مثيلا يشابهه أو حتى يدانيه! فسواء في «مسرح الملهاة»، أو «المأساة» أو «المسرح التاريخي» كان شكسبير مبدعا متفردا. إنه ماهر في رصف الكلمات بأسلوب جزل جذاب، وماهر في استحضار مشاعر الشخوص وتصوير أدق انفعالاتها. إنه باختصار عبقري متعدد الأصوات، كأنه استبطن الحياة في جوفه بكل تفاصيلها وشخوصها؛ فإذا نطق بلوعة المحب المشتاق بدا لك عاشقا أضناه البون والسهاد... وإذا نطق بعبارات الملك، وسلك بشخص من شخوص مسرحه سلوك الأمراء والسلاطين، قلت لاشك أن الرجل جرب الملك يوما، واختلجت بقلبه إحساسات من ملك الأمر، وكانت له صولة وصولجان، وحاشية من التُّبَع والخدم! وإذا ما لبس الأسمال البالية فذاك ليس مجرد ثوب يلف به الفقير ويقدم شخصيته، ويسهم في تأثيث ديكور الخشبة، بل تجده يُنطق تلك الشخصية بأدق إحساسات من كواه الضنك من العوز... وقد حاول النقاد أن يفسروا سر هذه القدرة الإبداعية التي امتاز بها هذا الرجل، لكنهم نسوا أن العبقرية بما هي خرق للمألوف، تجاوز ما هو طبيعي وعادي، ومن ثم فهي تند عن التفسير والتعليل، لذا حق لنا أن نأخذ بقول الأديب الانجليزي كاننغام: إن شكسبير «موهبة لا يمكن سبرها، وسيظل السر المغلق الذي حير الباحثين»!