في عددها ال3140 ليومي السبت الأحد 15 16/5/2010، نقلت جريدة «الصباح» تصريحات لرئيس المرصد الأمازيغي للحقوق حول ترجمة القرآن إلى ما يسميه (اللغات الشعبية)، والتي يرى فيها صاحبها أن أهم أسباب رفض المسلمين لترجمة القرآن إلى (اللغات الشعبية) راجعة إلى: - ارتباط الدين الإسلامي برهانات السلطة وشرعيتها. - أن استعمال اللغة العربية ليس للتواصل فحسب بل أيضا للهيمنة، يقصد هيمنة العرب على غيرهم. - سيطرة (أسطورة الحفظ الإلهي للنص القرآني) و(أسطورة سمو لغة القرآن وإعجازها) على العقل الإسلامي. - الخوف من أن يكتشف الناس البسطاء الحقيقة، وهي أن العديد من المضامين القرآنية إما أنها لا تطابق حقائق الأشياء كما يعرفونها أو أنها مضامين غاية في البساطة. - ترجمة القرآن هذه ستجعل منه نصا عاديا أرضيا، مما يسقط فكرة المصدرية السماوية المتعالية والتي يستمد منها الفقهاء حظوتهم ووصايتهم على الناس. ويزعم أحمد عصيد أن ترجمة القرآن وليس ترجمة معاني القرآن من شأنها أن تقربه إلى الوجدان أكثر، وهو يستغرب كيف أن المسلمين وحدهم من يرفضون هذه الترجمة وأن كل الكتب الدينية الأخرى لا يجد المؤمنون بها حرجا في ترجمتها إلى أي لغة أو لهجة محلية. وهذا في نظر عصيد ما جعل المسلمين متأخرين عن الأزمنة الحديثة والمعاصرة. إن هذه التصريحات/الادعاءات لا يسندها بحث علمي، وإنما هي مجرد ترديد وصدى لما قاله وصرح به منذ زمن المتعصبون من المستشرقين ومنظري الاستعمار القديم والحديث. ولو أن السيد عصيد قصد ترجمة معاني القرآن لما كان معه أي خلاف، لكنه يؤكد أنه يريد ترجمة القرآن وليس شيئا آخر. ولا بد هنا من إبداء مجموعة ملاحظات: 1 أجمع علماء المسلمين قديما وحديثا على جواز ترجمة معاني القرآن إلى اللغات المختلفة قصد تعريف الناس بالقرآن وتقريب معانيه إليهم. وإذا كان السيد عصيد كما يزعم يقصد أن يقرب القرآن من الوجدان، فإن ترجمة المعاني بشروطها التي وضعها العلماء كفيلة بأن تحقق ذلك المقصد، إلا إذا كان لصاحبنا مقصد آخر لم يعلن عنه. ولست أدري عن أي ترجمة يتحدث إذا لم تكن نقلا للمعاني من لغة إلى أخرى. 2 إذا كان السيد عصيد يريد أن يسمي هذه الترجمة التي يتحدث عنها ولا وجود لها إلا في خياله قرآنا فهذا جهل ما بعده جهل، ذلك أن عرف العلماء في أي ملة أو حقل معرفي أن يميزوا بين الأشياء من خلال تعاريف محددة ومضبوطة. ومعلوم أيضا أن صناعة التعاريف مهمة وتنطوي على جانب كبير من الأهمية والخطورة، كما يتحدث أهل العلم والفكر اليوم عن شيء اسمه تحديد الجهاز المفاهيمي وضبطه قبل الخوض في أي موضوع. لذا وجب التنبيه إلى أن علماء المسلمين أجمعوا على تعريف القرآن الكريم من خلال إيراد المواصفات والخصائص والمميزات التي تجعل منه قرآنا وليس شيئا آخر غيره. وقد تحدث المناطقة عن الفصول وضرورتها في التعاريف والتي يسميها الفقهاء احترازات. فإذا ما أسقطنا أحد هذه الفصول والاحترازات سقط التعريف كله، ولذلك قالوا: «إن التعاريف تصان عن الامتهان». فكون القرآن وحيا وعربيا ومعجزا من صميم تحديد ماهيته وحقيقته، وإذا ما أسقطت هذه المميزات فقد انتقلنا إلى ماهية وحقيقة أخرى. 3 لقد غاب عن السيد عصيد أن الترجمة مهما كانت دقيقة خصوصا في مجال الخطاب الطبيعي فلن ترقى أبدا إلى المحافظة على جميع خصائص النص الأصلي، وذلك لاختلاف اللغات في قواعدها وضوابطها وأساليبها في التعبير والتبليغ، ألا ترى أن ترجمة نصوص شكسبير أو فولتير أو غيرهما من مبدعي الغرب إلى العربية يفقد هذه النصوص الكثير من خصائصها وقيمها الفنية وجاذبيتها؟ وكذلك بالنسبة إلى شعر امرئ القيس أو زهير أو المتنبي إذا ترجمته إلى لغات أخرى. ويحضرني هنا مثل غربي يقول: la traduction c'est la trahison . فإن السيد عصيد يريد أن يفقد القرآن جوانبه الفنية والتي تعد أسس الإعجاز الفني في القرآن، وهو قد عبر عن ذلك بوضوح تام لما اعتبر سمو لغة القرآن وإعجازها مجرد أسطورة. وبالتالي، فلا مجال آنذاك للحديث عن قدسية النص القرآني ويقينيته لأن «عدم تحريف النص باعتباره نصا أصليا تحرسه السماء بعنايتها» هو مجرد أسطورة أيضا في نظره. 4 إن الذي يقرأ تصريحات السيد عصيد يظن أننا في المغرب نعيش تحت سلطة دولة دينية تيوقراطية حينما يقول إن «السلطة نفسها لا تقبل أن ينزل النص المقدس من عرشه الأثير إلى حياة الناس البسطاء، لأن ذلك قد يكشف هشاشة شرعية السلطة التي تزعم بدورها أنها تتكئ على هيبة السماء». كما يخيل إليك، وأنت تقرأ تصريحاته، أن اللغة العربية في المغرب هي اللغة المهيمنة على الساحة كلها، في حين أنها تشكو الضعف والإهمال والتفريط والدونية أمام اللغات الأجنبية، سواء في المؤسسات التعليمية أو غيرها. 5 الأمازيغ الذين يتحدث السيد عصيد باسمهم (وبدون تفويض منهم) هم الذين استقبلوا هذا القرآن عند دخوله هذه البلاد وهم الذين حفظوه ولا يزالون وتعلموا لغته وأحبوها وتفوقوا فيها دون أن يفرض ذلك عليهم من أحد كما يزعم من يتحدثون الآن باسمهم زورا وبهتانا. وقد كان هذا شأن جميع الشعوب التي استقبلت القرآن ولغته. وليعلم السيد عصيد أن أكثر الذين خدموا هذه اللغة الشريفة عبر التاريخ لم يكونوا عربا. 6 لما اختار الله أن تكون اللغة العربية هي لغة آخر حلقة من حلقات الوحي الإلهي، لم يكن ذلك يعني أن تخرس الألسنة الأخرى أو تباد كما يزعم ذلك السيد عصيد ومن معه، فالتنوع اللغوي اللسني من آيات الله «ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم». فلا زالت الشعوب الإسلامية غير العربية تتحدث بلغاتها وألسنتها (تركيا، إيران، شرق آسيا، روسيا، شرق أوربا،...) ولم تشعر هذه الشعوب في يوم ما بأن في القرآن ولغته ما يهدد هويتها ويتناقض مع مقوماتها. 7 أما أن يقول السيد عصيد إن ترجمة القرآن ستكشف للناس أن العديد من مضامينه لا تطابق حقائق الأشياء كما يعرفونها أو أنها مضامينه غاية في البساطة، فهذا عين ما قاله المتنصر المغربي رشيد، فهل يوجد تنسيق بين دعاة التنصير ومن ينصبون أنفسهم مدافعين عن الأمازيغية (والأمازيغ منهم براء)؟ 8 أما أن يقول السيد عصيد مستغربا: «لا يوجد كتاب ديني في العالم يقول المؤمنون به إنه لا يجوز اعتماد ترجمته إلى لغات الشعب باستثناء القرآن...»، فهذا يعني أن السيد عصيد لا يدرك ولا يعرف الفروق أبدا بين القرآن وباقي الكتب الدينية الأخرى، هذه الفروق التي يعرفها التلاميذ عندنا في الإعدادي والثانوي. وعليه أن يعرف جيدا أن استمرار اللغة العربية وبقاءها يضمن الصلة المباشرة بالوحي الإلهي كما نزل على محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأن الأمة الإسلامية وليس الأمة العربية وحدها هي الوحيدة التي تملك الوثيقة الإلهية الصحيحة لفظا ومعنى، وهذا ما أكده أكثر من باحث، سواء من المسلمين أو غيرهم.