هذه الأيام أعلنت جمعية أمازيغية بالريف عزمها تقديم مشروع انفصال "الجمهورية الريفية" المزعومة بتنسيق مع بعض الانفصاليين الصحراويين المنتمين للبوليساريو، ولا يهمنا هنا مناقشة حيثيات هذه المشاريع الانفصالية التي ترعاها كل من الجزائر وإسبانيا ودوائر خارجية معادية لوحدة المغرب، ولا شروط تحقيقها أو عدم تحقيقها على أرض الواقع... بقدر ما يهمنا مناقشة مشروع الانفصال الثقافي الذي ترعاه بعض الدوائر المعادية لوحدة الأمة الإسلامية، وذلك من خلال إحياء النزعات الإثنية والطائفية والمذهبية أو من خلال العمل على خلق أقليات دينية في الدول ذات الأغلبية المسلمة؛ كل ذلك تحت شعار الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات الفردية. ولعل الناشط الأمازيغي أحمد عصيد ذا النزعة العلمانية، يمثل بأفكاره المتطرفة نموذجا صارخا لما نحن بصدد مناقشته. فالمتتبع لكتابات عصيد يمكنه رصد ملامح المشروع الذي يبشر به، وهو ما سميناه: "مشروع فك الارتباط الثقافي بين الأمازيغ والقرآن"، ويقوم على عدة مرتكزات: أولا: معاداة اللغة العربية باعتبارها لغة دخيلة على الأمازيغ، احتلت مكان اللغة الأمازيغية، وطردتها من المجال التداولي. ثانيا: معاداة القرآن الكريم باعتباره نزل بلغة العرب، وهو الضامن لاستمرارية هذه اللغة التي شكلت البنية الثقافية للمنطقة المغاربية، وسنعود لتفصيل هذه الدعوى ونقضها. ثالثا: تشجيع كل ما من شأنه أن يشوش على منظومة القيم الإسلامية، ومن هنا تُفهم كتابات عصيد المدافعة عن التبشير المسيحي بالمغرب، وعن استهلاك المغاربة للخمور دون رقابة دينية، وعن المهرجانات الماجنة أو الإفطار علنا في رمضان، بمرجعية الحريات الفردية... إلخ. رابعا: الدعوة لفصل الدين عن الدولة، لأن عصيدا لا يخفى عليه أن الأمازيغ إنما أمروا عليهم أميرا عربيا منذ إدريس الأول لنسبه الشريف، وارتباطه بالدوحة الشريفة، فهي إمارة دينية تفقد شرعيتها بمجرد فصلها عن الدين؛ فالعلمانيون عموما يعادون " البيعة" الشرعية وَ "إمارة المؤمنين" وإن اتخذوا التقية أحيانا تجاهها، لحساسية الموضوع، إذ هي معقد الجمع بين السلطتين الدينية والزمنية. خامسا: التبشير بالحداثة ومنظومة القيم الكونية القائمة على ثقافة حقوق الانسان والديموقراطية بمرجعيتها العلمانية. لكن عصيدا يغض الطرف عن كل المضايقات التي يعاني منها المسلمون كجالية بأوروبا والغرب عموما، وإن كانت مناقضة لتلك القيم الكونية: كمنع الحجاب، وحظر النقاب، وسن قوانين لمنع المآذن، وحظر الصيام في رمضان في بعض المعامل في إيطاليا، بل غالبا ما يصطف إلى جانب هذه الهجمات الصليبية على مقومات الثقافة الإسلامية هناك، بدعوى أنها آليات لمواجهة المد السلفي الذي يستغل الفضاء الديموقراطي في الغرب للتمدد والانتشار. القطع مع القرآن كمكون أساسي للثقافة العربية الإسلامية: لن يجد القارئ أية صعوبات في الاستدلال على هذه المرتكزات الخمسة لمشروع الانفصال الثقافي من كتابات السيد أحمد عصيد، والتي تابعناها منذ أزيد من عقد من الزمان ! لكن، ربما يتساءل البعض إن كنا تحاملنا على عصيد بإدراج المرتكز الثاني المتعلق بمعاداة القرآن الكريم، لأنها تهمة خطيرة نربأ بأنفسنا إلصاقها بأحد دون دليل، في مجتمعات تتعرض لرياح التطرف الديني، وردود الفعل المتشنجة، لكن ما ذنبنا إن كان الكاتب يجازف بمقولات لا يعي خطورتها، وهو يعتقد أنه يقوم بمهمة كسر أخطر طابو، والمتعلق بقداسة القرآن في نفوس المسلمين عموما، والأمازيغ على وجه الخصوص. يقول صاحبنا في هذا الصدد: " اعتبر فقهاء الإسلام أن إعجاز القرآن يكمن في لغته وتراكيبه التي لا يمكن الإتيان بمثلها، والحال أن التعابير القرآنية كانت تقليدا راسخا في تعابير الكهان والشعراء وأهل الأدب قبل الإسلام بكثير..." إلى أن يقول: " هذا الفهم السطحي للدين... يخفي وراءه إيديولوجيا سياسية تهدف إلى جعل القرآن بوابة لنشر العربية وعلومها وآدابها لدى الأقوام من غير العرب..." ( الجريدة الأولى: عدد 584 – 13 ابريل 2010). ويقول أيضا في رده على الدكتور أحمد الريسوني: "القرآن عند من يتواجد خارج دائرة الإيمان بالدين الإسلامي قد لا يعتبر شيئا ذا أهمية، كما أن لغته قد تبدو متواضعة مقارنة مع لغة الشعر العربي قبل الإسلام بالنسبة للنظرة المحايدة" ! (هسبريس: الجريدة الإلكترونية المغربية: 17 ماي 2010). ومن أجل ترسيخ القطيعة مع القرآن يشجع عصيد على ترجمة القرآن إلى الدارجة كخطوة أولى لابتذاله ، يقول: "لعل المشكل الأكبر الذي يطرح في موضوع ترجمة القرآن إلى الدارجة المغربية أو إلى الأمازيغية هو مشكل العقيدة التي رسخت لدى المسلمين أسطورة سمو لغة القرآن وإعجازها، وكذا أسطورة عدم تحريف النص باعتباره نصا تحرسه السماء بعنايتها. هاتان الأسطورتان جعلتا العقل الإسلامي لا يقبل أن يقرأ القرآن بلغة أخرى أو تؤدى به الصلاة أو تقام به الشعائر الدينية... هناك نسق ثقافي يستند إلى أبوة عربية تمارس الوصاية على باقي الثقافات باعتبارها ذات لغة " مقدسة". فمعلوم أن استعمال النص الدارج أو الأمازيغي للقرآن، سيعني حتما انتهاء الحاجة إلى العربية الكلاسيكية في الأمور الدينية وتعويضها بلغات أخرى، وهذا يشكل خطرا على الذين يعتبرون أن وضعيتهم في بلد المغرب، الذي غالبية سكانه أمازيغ، إنما تستند إلى استعمال الدين وما يرتبط به من يقينيات سياسية... ومن جهة أخرى فإن اعتماد ترجمة شعبية للقرآن من شأنها أن تكشف لأغلبية الناس أن العديد من المضامين القرآنية: إما أنها لا تطابق حقائق الأشياء كما يعرفونها، أو أنها مضامين غاية في البساطة" ( نفس المصدر). فالتهم التي يوجهها أحمد عصيد للقرآن ثلاثة، دون أن يسوق دليلا علميا واحدا على أي منها، والقرآن نفسه يخاطب مثله بقوله: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين". التهمة الأولى: أسطورة الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وتعالي أسلوبه عن المعتاد من أساليب العرب؛ بينما لغته كما يرى أحمد عصيد تبدو متواضعة مقارنة مع لغة الشعر العربي قبل الإسلام بالنسبة للنظرة المحايدة !! هكذا دون دليل، ولو أن يسوق لنا نماذج من هذا الشعر الجاهلي الذي يعلو أسلوبه على أسلوب القرآن، إذا لكفانا مؤنة الرد عليه ولأخرصنا جميعا، ثم كيف خفي ذلك على صناديد قريش وفصحاء العرب، وهم يسمعون تحديه لهم صباح مساء أن يأتوا بمثله، كقوله: ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)، وقوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين(. وقد نزل على مكث، مدة لا تقل عن ثلاث وعشرين سنة، هي كافية للبحث والتنقيب، وكذلك لصناعة كلام يشبهه، ولو فعلوا لارتدت العرب عن الإسلام عن بكرة أبيها، ولنقل إلينا ذلك، كما نقل إلينا ردّة مانعي الزكاة الذين قاتلهم الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه، وأتباع مسيلمة الكذّاب الذي ادعى النبوّة، وأراد أن يضاهي القرآن في بلاغته فجاء بما يضحك !!. واليهود والنصارى العرب كانوا ومازالوا متوافرين، قد قرعهم القرآن ووبخهم لتحريفهم التوراة والإنجيل، وكتمانهم العلم، وزعمهم أن عيسى بن مريم إله أو ابن إله، ومنهم فصحاء وبلغاء، لماذا لم يخرجوا هذا الذي يزعم عصيد سموّه من شعر ما قبل الإسلام على بلاغة القرآن وبيانه، فينقضون بذلك دعواه؟! ولماذا لم تستمر هذه البلاغة بعد الإسلام؟! ألا ما أسهل الدعاوى بالباطل، وما أسرع اختفاءها عند ظهور الحجة والبرهان. (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون(. يقول العلامة رشيد رضا في تفسيره " المنار": "معرفة مكانة القرآن من البلاغة لا يحكمها من الجهة الفنية والذوقية إلا من أوتي حظا عظيما من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور،واستعان على دلك بمثل كتابي عبد القاهر الجرجاني، والصناعتين لأبي هلال العسكري، والخصائص لابن جني، وأساس البلاغة للزمخشري، ومغني اللبيب لابن هشام..." (1/202). فهل اطلع السيد عصيد على هذه المؤلفات أو بعضها حتى أحكم لغة العرب وبلاغتهم ثم قارنها بأسلوب القرآن فأصدر حكمه؟! التهمة الثانية والدعوى بغير دليل التي يوجهها محرر الأمازيغ من سلطان القرآن ولغته على النفوس، هي التحريف الذي طال القرآن بزعمه، بينما المسلمون يتسترون على ذلك بأسطورة حراسة السماء لنصه من التبديل والتغيير الذي طال الكتب المقدسة من قبل!. والذي يفيده العلم المحايد أن كتابا محفوظا في الصدور، منسوخا بملايين النسخ منذ مئات السنين، لا توجد نسخة واحدة منها مخالفة للآخرين في الشرق أو الغرب، لهو دليل قاطع على عدم التحريف. ثم إن التحريف طال السنة النبوية بالزيادة والنقصان، ودخلها الضعيف والموضوع مع ظهور الفرق والخلافات السياسية، وهي المصدر الثاني للتشريع عند المسلمين، المبينة لمجمل القرآن، المقيدة لمطلقه والمخصصة لعامة، بل هي منشئة لأحكام لا توجد في القرآن، لولاها ما عرفنا كيفية أداء أركان الإسلام:الصلاة والزكاة والصيام والحج، فهذه بعض أوجه أهميتها، فلماذا لم يتستّر المسلمون على التحريف الذي طال السنة بحجة حراسة السماء لها؟ لماذا أنشأوا علما خاصا بنخلها ومعرفة المقبول منها من المردود؟ وهو علم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل، حتى امتازوا على سائر الأمم بالأسانيد التي تسمح بفحص الرواة، بينما الوقائع التاريخية التي يعتمدها عصيد لا زمام لها ولا خطام!. لماذا لم يوجد علم خاص بمعرفة صحيح الآيات القرآنية من ضعيفها؟ أيكون اعتناء علماء المسلمين بالسنة أولى من اعتنائهم بالقرآن؟! ألا إن العصبية تعمي. ثم إن أحمد عصيد بتهجمه على القرآن وادعاء وجود التحريف فيه، يناقض منطقه في الدفاع عن اليهود والنصارى من اتهام القرآن لهم بتحريف كتبهم!. يقول بهذا الصدد: " يعتبر المسلمون دينهم أفضل الأديان وأصحها على الإطلاق، ويعتبرون ديانات غيرهم خرافية ومنحرفة ولاعقلانية، وأتباعها منحرفين عن هدي أنبيائهم الذي أصبح يتجسد في الإسلام، الدين الذي ظل وحده وفيا لمبدأ التوحيد الصحيح منذ عهد إبراهيم، وهم يتشبثون بهذه المواقف العدائية من منطلق قرآني، حيث يعتبرون أن ذلك ما جاء به القرآن ولا يمكن تكذيبه. هل يمكن لقوم هذا اعتقادهم أن يكونوا في سلام مع العالم؟. كيف يمكن للمسلمين أن يحاوروا غيرهم وهم المهتدون وغيرهم في ضلالة؟!..." (الجريدة الأولى: عدد 506، 12 يناير 2010). أين اختفى هذا المنطق وصاحبه يكيل التهم للقرآن الكريم؟ أين اختفى هذا المنطق وصاحبه يزعم أن بلاغة القرآن أنزل رتبة من بلاغة الشعر الجاهلي، ويتهمه بالتحريف؟ فهل يمكن لرجل وشيعته هذا اعتقادهم أن يكونوا في سلام مع المسلمين؟! التهمة الثالثة التي يكيلها الكاتب للقرآن أن اعتماد ترجمة شعبية للقرآن من شأنها أن تكشف لأغلبية الناس أن العديد من المضامين القرآنية: إما أنها لا تطابق حقائق الأشياء، كما يعرفونها، أو أنها مضامين غاية في البساطة ( الجريدة الإلكترونية هسبريس: 17 ماي 2010) نعم إن مضامين القرآن ميسّرة للفهم، قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر) وقال سبحانه: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم(. فلو لم يكن في متناول الناس جميعا لما كان يهدي للتي هي أقوم، ولما قامت به الحجة إلا على الفصحاء من العرب، وهذا لم يقل به أحد؛ فبلاغة القرآن ليست حاجزا دون فهم القرآن كما يظن عصيد، فهو السهل الممتنع! ولكن استنباط الأحكام منه يحتاج إلى أدوات، منها الغوص في علوم اللغة، وهنا يأتي دور العلماء به، قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقال عز وجل: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم(. أما عصيد بإبعادنا عن لغة القرآن نحن الأمازيغ لايدرك أنه يتركنا بدون مجتهدين، وبالتالي نصبح عالة على فهوم مشرقية لاتستجيب لخصوصياتنا. أما أن مضامين هدا القرآن تصبح بمجرد ترجمتها غير مطابقة لحقائق الأشياء، كما يعرفها الناس، فدعوى تحتاج إلى تفصيل: فإذا كانت هذه الأشياء من القطعيات، كالكشوفات العلمية اليقينية، فلا يمكن أن يناقضها القرآن، ولكن ربما تكون الترجمة الخاطئة لمضامينه هي السبب في حصول الإلتباس، ولهذا فكل العلماء يرحبون بترجمة القرآن على أن تكون من جهة موثوق بعلمها. أما إذا كانت هذه الأشياء من الظنيات، كأن تكون معتقدات خرافية أو نظريات فرضية لم تتبث صحتها، فإنما جاء القرآن لتصحيحها، وإظهار الصواب من الخطأ فيها أو عدم التعرض لها. هذا وإن الحجج التي يسوقها عصيد في دعاواه الباطلة ضعيفة ومتهافتة، أتينا عليها من القواعد ولله الحمد. أما خدمته لأجندة مسيحية وأخرى صهيونية فلا يمكن أن يستفيد منها إلا حفاوة في الاستقبال لدى هذه الدوائر، أما القضية الأمازيغية فلا يزيدها إلا ضررا، لا يضاهيه إلا زيارة ذلك الوفد المشؤوم باسم جمعية "الصداقة الأمازيغية اليهودية" للكيان الصهيوني أواخر السنة الماضية، والذي سوّد وجوه الأمازيغ الأحرار الذين لا يبغون عن دينهم حولا.