الحوار الذي أجرته جريدة "الأيام" مع كل من الدكتور أحمد الريسوني و"الأخ رشيد" مترجم القرآن إلى الدارجة المغربية، يظهر إلى حد كبير آليات اشتغال العقل السلفي وأسباب أزمته الراهنة، وكذا الذهنية السائدة في المجتمع المغربي والتي تحكم إلى حدّ بعيد مواقف الناس من التعددية الدينية التي ما زالت أمرا شديد الحساسية. و قد سئل السيد الريسوني إن كان يجوز ترجمة القرآن فأجاب بالنفي لأنها في اعتقاده "غير ممكنة"، حيث لا توجد لغة أخرى في رأي الفقيه يمكن أن تتحمل بلاغة الوحي الإسلامي غير العربية، وعندما أراد أن يستدلّ على ذلك من القرآن وقع في مشكلة أخرى حين قال:" فالقرآن هو قرآن نزل بلسان عربي مبين، و الإعجاز يتجلى في لغته لأنه نزل بألفاظه و تعابيره"، ثم أضاف "إن أعظم و أقدس نصّ على وجه الأرض هو القرآن الكريم"، و إمعانا في الخطإ من حيث لا يشعر اعتبر سياسة انفتاح المغرب و انفراجه النسبي و إتاحته لبعض الحريات خطأ فادحا، معتبرا أنّ المغرب "إن استمر في ذلك سيجني ثمار هذا الوضع"، ثمّ حمد الله و أثنى عليه على ما قامت به السلطة من طرد للمبشرين و من ملاحقتهم، و معلوم أن الأمر لا يتعلق فحسب بالتغرير بأطفال صغار كما يقال بل بالقبض على مغاربة بالغين بتهمة تغيير الدين و "زعزعة عقيدة مسلم". و لنا على أقوال الفقيه ردود نوردها على الشكل التالي: 1) أن القول باستحالة ترجمة القرآن إلى لغة أخرى و أن ذلك إنما يتناول المعاني و ليس اللغة هو لعب بالكلمات بدون معنى، لأن الأمر يتعلق هنا بإشكالية الترجمة ذاتها، حيث أن ترجمة نصّ شعري للمتنبّي أو لأي شاعر أمازيغي إلى الفرنسية لن يكون أبدا نقلا لنفس الصيغ البلاغية التي هي مستحيلة بنفس الشكل في لغة أخرى، و إنما يتعلق الأمر بترجمة المعاني و الصور مع محاولة الإقتراب من التراكيب اللغوية قدر الإمكان من أجل الحفاظ على روح النصّ ما أمكن، و لهذا قيل كل ترجمة خيانة بمقدار معين. 2) أنّ استعماله لعبارة "بلسان عربي مبين" فيها بعض التحريف لمعنى الآية، و توظيف لها في غير محله، حيث لم يرد عند أحد من المفسرين بأنّ المقصود ب"قرآنا عربيا" أو "بلسان عربي مبين" إعجاز العربية أو أفضليتها، بل ورد ذلك على سبيل الحجّة على العرب من قوم النبي للدلالة على أنهم ليس لهم عذر ألا يؤمنوا ما دام القرآن قد جاءهم بلسانهم لا بلسان غيرهم، يقول ابن كثير في تفسير الآية:" أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل ليكون بينا واضحا ظاهرا قاطعا للعذر مقيما للحجة"(ابن كثير الجزء 4، ص298)، ويضيف في تفسير الآية: "و لو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصّلت آياته أعجمي و عربي قل هو للذين آمنوا هدى و شفاء" (سورة فصلت الآية44)، يضيف قائلا:" لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت و العناد لولا فصلت آياته أعجمي و عربي أي لقالوا هلا أنزل مفصّلا بلغة العرب و لأنكروا ذلك فقالوا أعجمي و عربي أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه"(ابن كثير ج 4 ص 93). 3) أنّ مفهوم "الإعجاز" و تفضيل العربية صناعة فقهية ظهرت فيما بعد، و ليس له سند في النصّ أو ما يبرره. حيث استعمل الإسلام العربية استعمالا وظيفيا و ليس لذاتها، و أنما حدث ذلك بعد أن بنيت منظومة الفكر الفقهي على سلطة البلاغة و البيان عوض المنطق العقلي الذي تمّ إقصاؤه فأصبح هامشيا. و لم يرد في النصوص الدينية الإسلامية ما يفيد أفضلية العربية كلسان أو أفضلية العرب كعنصر بشري. 4) أن القول إن القرآن هو "أعظم و أقدس نص على وجه الأرض" كلام عاطفي صادر عن رجل مؤمن يعظم دينه، ولا يراعي نسبية ظاهرة التدين، فلكل قوم مقدساتهم و كتبهم و نصوصهم و رموزهم التي يقدسونها، و القرآن عند من يتواجد خارج دائرة الإيمان بالدين الإسلامي قد لا يعتبر شيئا ذا أهمية. كما أنّ لغته قد تبدو متواضعة مقارنة مع لغة الشعر العربي قبل الإسلام بالنسبة للنظرة المحايدة. وإذا علمنا أن المسلمين جميعا هم أقلية صغيرة في نادي البشرية، أدركنا مقدار الخطإ الذي ينطوي عليه كلام الرجل. 5) الغريب في قول الدكتور الريسوني هو إصراره على تكريس خرافة سمو العربية على جميع اللغات التي تعجز عن أن تعكس تعابير القرآن، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع بأن العربية تعاني اليوم من صعوبات كبيرة في استيعاب علوم عصرها، و التعبير بشكل دقيق عن ثمرات المعارف الهائلة التي أصبحت تقاس سرعة توالدها بالثواني، في زمن أصبح فيه عنوان الحضارة هو العلم (بمعنى science لا غيره)، و نفهم من هذا أن علماء المسلمين ما زالوا يعيشون تحت تأثير مخدر دام مفعوله لمئات السنين من التخلف. 6) أما مباركة السيد الريسوني للجهود القمعية للسلطة فهي تظهر مقدار ارتباط النسق الإسلامي بالإستبداد، فقد أخبرتنا الصحافة بأن 7000 فقيه من فقهاء البلاط قد وقعوا تحت وصاية وزارة الأوقاف و المجلس العلمي الأعلى مذكرة يثنون فيها على جهود السلطة في طرد المبشرين و ممارسة الرقابة على إيمان المغاربة حتى لا يخرج أحد عن "الثوابت". 7) لم يكن كلام الريسوني في جريدة "الأيام" خطأ كله، ففي لحظة إلهام نادرة اعتبر الشيخ بأن الرجل البالغ العاقل حرّ في أن يغير دينه كما يشاء و" حسابه عند الله"، و هذا تقدم كبير و تجاوز لرأي الفقهاء الموجب لحكم "الردة"، حيث اعتبروا من غيّر دينه "مفارقا للجماعة" أي خائنا للأمة و الوطن، و ربما اهتدى السيد الريسوني إلى أن هذا كان في إطار الدولة الدينية للقرون الوسطى، التي كان فيها الولاء للدولة يتم عبر الرابطة الدينية، و أن هذا لم يعد مطروحا اليوم حيث تقوم الجنسية و المواطنة في الدولة العصرية على الإنتماء إلى الأرض و حدود السيادة و الخضوع لقوانين تساوي بين الجميع بغض النظر عن دينهم أو لونهم أو جنسهم أو عرقهم أو لسانهم، و هو أمر جيّد أن يعي الفقهاء التحولات التاريخية، لكن السؤال الذي نطرحه على السيد الريسوني: هو كيف تقوم السلطات المغربية بالقبض على مواطنين و محاكمتهم و حبسهم و هم بالغون عاقلون اعتنقوا المسيحية عن اختيار حرّ، كما أنهم في يُسر من حالهم لا يعانون من الفقر أو ما شابه ذلك و لم يُغرر بهم ؟ و ما موقفه من سلطة لم تنتظر حساب الله في الآخرة وانبرت للإقتصاص من الناس في الحياة الدنيا. أما موضوع ترجمة القرآن إلى الدارجة كما قام بذلك "الأخ رشيد" فيطرح إشكاليات متشابكة، بعضها ذو صلة باللغة وبالأنساق اللسنية والبعض الآخر بأمور العقيدة و الإيمان والتصديق، كما أن للموضوع بعد سياسي غالب على كل الأبعاد الأخرى، وذلك بسبب ارتباط الدين الإسلامي برهانات السلطة و شرعيتها إضافة إلى جانب آخر له صلة بمظاهر الصراع الإجتماعي و التمايزات الطبقية، حيث تستعمل العربية في أمور تتجاوز التواصل إلى الهيمنة، و هذا كله يجعل الموضوع الذي هو في حد ذاته بسيط للغاية حساسا إلى حد كبير. و لعل المشكل الأكبر الذي يطرح في موضوع ترجمة القرآن إلى الدارجة المغربية أو إلى الأمازيغية هو مشكل العقيدة التي رسخت لدى المسلمين أسطورة سمو لغة القرآن و "إعجازها"، و كذا أسطورة عدم تحريف النص باعتباره نصا أصليا تحرسه السماء بعنايتها. هاتان الأسطورتان جعلتا العقل الإسلامي لا يقبل أن يُقرأ القرآن بلغة أخرى أو تؤدى به الصلاة أو تقام الشعائر الدينية، و لهذا يقول المسلمون إن الترجمة إنما هي ل"معاني" القرآن و ليس للغته التي لا توجد لغة أخرى تضاهيها في "إعجازها". و حقيقة هذا المشكل هو أن ترجمة القرآن إلى اللغات الشعبية تجعله أقرب إلى الوجدان العام للناس، و إلى حساسيتهم اليومية و أنماط عيشهم الخاصة، و هو ما يتعارض تماما مع فكرة مصدره السماوي المتعالي، فما يأتي من الله ينبغي أن يكون خارقا و لا يشبهه شيء، و متعاليا على كل ما هو أرضي، بينما تحوله الترجمة في لغة يومية إلى نص عادي ، و هذا ما يرفضه الفقهاء الذين يستمدون بدورهم حظوتهم في المجتمع و وصايتهم على حياة الناس من معرفتهم للغة "الإعجاز" الخارقة التي لا يعرفها البسطاء من الناس، فيتداخل هنا اللغوي بالعقائدي بالإجتماعي و السياسي، حيث أن السلطة نفسها لا تقبل بأن ينزل النص المقدس من عرشه الأثير إلى حياة الناس البسطاء، لأن ذلك قد يكشف عن هشاشة شرعية السلطة التي تزعم بدورها أنها تتكئ على هيبة السماء. إن للأمر إذا علاقة بالنسق ككل، النسق السياسي الإجتماعي الأخلاقي، و حتى النسق الثقافي الذي يستند إلى أبوة عربية تمارس الوصاية على باقي الثقافات باعتبارها ذات لغة "مقدسة". فمعلوم أن استعمال النص الدارج أو الأمازيغي للقرآن، سيعني حتما انتهاء الحاجة إلى العربية الكلاسيكية في الأمور الدينية و تعويضها بلغات أخرى، و هذا يشكل خطرا على الذين يعتبرون أن وضعيتهم في بلد كالمغرب، الذي غالبية سكانه أمازيغ، إنما تستند إلى استعمال الدين و ما يرتبط به من يقينيات سياسية كأفضلية العربية و سموها و كضرورة التعريب و كقيام الوحدة الوطنية على "ثوابت" لا تناقش، إلى غير ذلك من الأفكار التي تحرسها السلطة و من يدور في فلكها من قوى التقليد. و من جهة أخرى يعتقد حراس التقليد بأن اعتماد ترجمة شعبية للقرآن من شأنها أن تضعف من الرصيد الرمزي للدين في نفوس المؤمنين، و أن تخفض من قيمته المتعالية، لأن أغلبية الناس ستكتشف بأن العديد من المضامين القرآنية إما أنها لا تطابق حقائق الأشياء كما يعرفونها، أو أنها مضامين غاية في البساطة، و كمثال على ذلك يمكننا أن نتخيل كيف ستكون ترجمة الآيات : "و امرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد"، أو غيرها من السور المسجوعة إلى الدارجة لغة اليومي. يبدو مما أسلفناه إذن أن هذا الموضوع ذو خصوصية إسلامية واضحة، فليس هناك كتاب ديني واحد في العالم يقول المؤمنون به إنه لا يجوز اعتماد ترجمته إلى لغات الشعب سوى القرآن، و هو ما يشير أيضا بوضوح إلى مقدار تأخر المسلمين عن الأزمنة الحديثة و المعاصرة، حيث ما زالوا يعيشون عمليا تحت وطأة الفكر التراثي القديم الذي لم يعد يحمل أية مؤهلات للبقاء و الإستمرار لولا شيوع النزعة السلفية الماضوية المدعومة بالبترودولار. و يفسر ما ذكرناه أيضا الإرهاب البوليسي الذي تسلط على مترجم القرآن إلى الأمازيغية بالمغرب، حيث تمت مضايقته بشكل سافر على مدى أسبوعين عندما صودرت أوراقه سنة 1999 بمجرد أن أوردت إحدى الصحف أخبارا عن الترجمة التي كان يعدها آنذاك، و هو الموضوع الذي تم تداركه بعد وفاة الملك الحسن الثاني، حيث أصبحت الترجمة الأمازيغية متداولة و مقبولة من الكثير من الإسلاميين و حتى من وزير الأوقاف نفسه، لكن باعتبارها ترجمة ل"المعاني" فقط، و الحقيقة أنها ترجمة و كفى، أي نقل مضامين من لغة إلى أخرى لكي تفهم من قبل من لا يعرفون لغة النص الأصلي.