يحلّ المساء، حيث يبدأ تجواله بين الحشائش والأعشاب الكثيفة واليابسة. يستقرّ به المقام على ربوة، تطل على البحر مباشرة. يجلس فترتمي نظراته على شساعة اليمّ. تحاول احتواءه في خنوع. يبتسم وهو يسمع خشخشة الأوراق والأعواد المتساقطة على الأرض. تدوسها خطى لجماعة من الأولاد والبنات. ثم ما لبثوا أن وصلوا المكان الذي يحتويه. يحدّق فيهم الواحد تلوى الآخر. الجماعة تقترب منه بكل عناصرها. يحلّقون حوله. يجد نفسه وسطهم. يخرج كلّ آلته. يضعها بين يديه. إنها آلات موسيقية. إيقاع وناي وقيثارة. يسوي كلا منهم نوتته. تتهيّأ الجماعة، البنات يلبسن الفساتين المزركشة. ذات ألوان فاقعة، مختلفة ومتداخلة. تشبه فساتين غجر بلاد الأندلس. في لحظة، كان يجد نفسه أمام كرنفال. لم يكن يتوقع أن يصادفه في هذا المكان. تبدأ الجماعة عزفها بمواويل. ثم يبدأ العزف المصاحب للغناء. حيث يظلّ هو جاثياً، يرقب ذلك في انبهار واندهاش. ينقر صاحب القيثارة على أوتارها نغمات موسيقية رائعة.تسلبه عقله. يصاحبها حفيف أوراق تنحدر نحو الخندق. ثم ينطلق صوت أحدهم بأغنية. بدا يتمايل على أنغامها. البنات تتهيأن في عجل، تندفع إحداهن وسط الجماعة، ترقص بحركات كحورية بحرية. وترد بغناء، كأنه شدو البلابل. في رقصة تضرب بيدها ورجلها. وتدور على نغمات متناسقة، تنساب لسمعه. ينهمك الجميع في أداء الأغنية. يعزفون وينشدون ويرقصون. دون سابق إشعار، يتوسط الجماعة، يصفق ويرد على الإيقاع الموسيقيّ. ثم يبدأ في مراقصة الغجرية، هكذا يسميها، وهو يراقصها بمهارة، أبهرت كلّ العازفين. يردد بصوت مبحوح، وبنشوة زائدة لم يعتدها. غجرية..غجرية.. أنت..راقصيني.. تندفع البنات الأخريات. تشاركنه والغجرية الرقص. على الإيقاع والصيحات التي كانت تحدثها الجماعة. تستمرّ الرقصات وتتناوب على مراقصته الواحدة تلوى الأخرى. فجأة يثير منظر الغروب شجونه. وهو يتجه بنظره إلى قرص الشمس، الذي كان يتحجّب شيئا فشيئا في عمق البحر. يقف متأملاً المشهد. الشمس تتستّر بلحاف البحر، فيبتلع قرصها وتغيب. تندهش نفسه، وكأنه يشاهد ذلك لأول مرّة. لقد سبق أن رأى ذلك مرارا. لكن هذه المرّة، إحساس غريب كان يناديه في أعماقه. أهو إحساس باللّذة والمتعة..؟. التي تقارب على الانتهاء. حيث انتهى قرص الشمس وراء البحر..؟ أم شعور بالخيبة الذي حرّك دواخله ويجثم اللّحظة على أنفاسه..؟ يستفيق من لذّته ويستبين له، بأنّه لم يعد يصلح لما قام به وفعله. ليس هو الآن في سنّ الجماعة حتى يحذو حذوهم. كان عليه أن لا يراقص الغجريّة. ولا أن يغني مع الجماعة. لقد غاب عنه أن الشيب يطلي شعره بالبياض والتجاعيد توشم على وجهه السنون. يجلس قبالة البحر، يتأمل السّواد القاتم، الذي كان يلف البحر. والسكون الذي كان قد عمّه قبل قليل. مشهد كان يقرأ فيه من كتاب حياته. الجماعة قد باتت تنصرف في هدوء. حيث يغيب هو في تأمّله وتفكيره. ولم يعد يدرك ما يدور حوله، ولا يحس بما يتراءى أمامه. يغيب في تفكيره، كما غاب قرص الشمس في الأفق. وحلّ الظّلام وسكن المكان. في صباح اليوم التالي، كانت جوقة من النّاس تحلّقُ حول رجل مسن، وجدوه جثة هامدة. على تلك الرّبوة التي كان يأتي إليها كلّ مساء. بين الجماعة،كنت. وحين انصرف الجميع، استخفيت، أتأمّل مشهد الغروب، إلى أن انتهى قرص الشّمس، وراء البحر. يبتلعه، كما ابتلع الموت حياة ذاك العجوز.