مدينة سطات نائمة هذا المساء، تبدو كغانية مستلقاة على قفاها، يكسوها ضباب كثيف، حتى بدت كجسد يتصبب عرقا بعدما أتعبه المسير. وترتعد من برد قارص. شارعها الرئيسي عار تماما من المارة على غير المألوف فيه، بين الفينة والأخرى تعبره بعض الشاحنات المحملة بالحوامض القادمة من أكادير والمتجهة نحو أوروبا، أنوار الساحة المقابلة لقصر البلدية خفتت في رمادية الضباب حتى صارت كفوانيس زمان وقد شح زيتها. مدينة توحي بالوحشة رغم ما زين الشارع من طلاء وما استنبت على جنباته من نخل باسق يدلي سوالف جريده من غير اكتراث. أزقة تعج بالكلاب الضالة والقطط الموبوءة. في بضع الجنبات، تحت سقائف الدكاكين توزع العسس وأدرموا نارا للاستئناس توحي بيقظتهم وهم نيام حتى «الواشمة» (الفاركونيط) تعطل محركها هذا المساء. نباح الكلاب يمزق وقار الصمت الرهيب الجاثم على صدر المدينة. ومن إحدى أقبية «دالاص» يتناهى رجع خفيف لأغنية «الشاليني يابابا» لعلها منبعثة من مجلس أنس مقام على شرف ضحية عائد لتوه من «الطاليان» أو من شريط ترك يدور من غير انقطاع داخل مسجلة نسي صاحبها إيقافها قبل أن ينام. مدينة تنام على رغبات دفينة، وتنحني كما ينحني نبات السمار حتى تمر حملة الوادي، تم تستوي قامتها بالتدريج أمام مجرى الريح القادمة من أبوابها الخمسة المشرعة. مدينة تستكين رويدا رويدا وتئن في صمت. تولد من ضربة رامٍ أصابها بنبلة في الخاصرة فشلها عن الحركة. مدينة موشومة بالتحول العمراني غير أن إنسانها محافظ على بقايا الانحطاط فيه حتى النخاع، منذ أن أوكل أمره لأهل الوقت وهو ملفوف يصارع تعاقب الفصول عليه، صهد القيظ، وبرد الزمهرير الوحشي، ملفوف في جلباب ينضح ودحا على مدار السنة. قابع في مكامن الخنوع والمذلة ويضع خططا للسير في زحمة التدشين القادمة لعله يفوز بصورة مع شخص ما عالى المكانة قادم من العاصمة ليتباها بها أمام الآخرين. عجبا، كيف تحولت مدينة التآخي والانصهار (أهل فاس وأهل سوس وأهل الشاوية) إلى أفعى تتلوى في يد حلايقي، تلدغ من غير سم، ولكن تظل مخيفة، ومهابة الجانب. فضاءات المدينة وساحاتها مفتوحة لرقص الرياح وقت العشي ولنسج الخرافة في أواخر هذا القرن. لم يبق في جنبات أزقتها غير شجر الإبزار يحدق ببلادة في تيه المارة وكراسي المقاهي المتناسلة فوق الأرصفة لحبك النميمة. مسافة تاريخها أخذت تتقلص حتى صارت كحبل غسيل معلق في سقف خيمة، ومع ذلك لازال العديد من أبنائها (خيمة) مشدودين إليها منجدبين نحوها بحبل السرة، معتبرين أن كل ما حدث ويحدث هو مجرد اكتشاف للداء الكامن في احشائّها، مؤملين أنها ستنهض من عمق الجرح أكثر عافية، حيث سيذهب التاجر الى متجره والفلاح إلى حقله، والعجل إلى ضرع أمه عندما تعود في المساء، والفراشات إلى الزهر، والعامل إلى المصنع، والماء إلى مجرى الوادي. وسيدور بَّ باخة دورته المعتادة متفحصا ملامحها البنفسجية كل صباح. وسيطارد أحمد الشيكي أطفالها المشاكسين بالحجارة قبل أن يلتحق ب باميمون في إحدى المغاور المهجورة بمقالع الحجارة. وسيصرخ أحمد المنكاد في القوم بلكنته المعتادة أن يخرجوا لمناصرة النهضة. وسيعود عمر العيار ممتطيا صهوة الأزلية وممتشقا سيف عنترة بن شداد العبسي ومخططا لمعاركه الوهمية الغازية. وفي القبائل المجاورة تتساقط أشعة الشمس، تتساقط بلا رحمة فوق رؤوس العباد، وفوق سفوح السهوب، وعلى مشارف الأفق البعيد تتراقص أمواج السراب. رياح الجفاف الأسود تهب بشراسة من كل الجهات مخلفة وراءها جبالا من الحزن الموجع وظلاما دامسا في عز النهار. طوفان جارف من القحط يزحف على الحقول التي ألفت الخصب والاخضرار، لعنة السماء تهطل على الأرض فتنخر بذور ما يستنبت في مكامنها. يبس الزرع وجف الضرع وفقدت فصول السنة هويتها وضعيت الأيام أسماءها، لا فرق بين الاثنين أو الثلاثاء أو السبت أو الأحد. و ضيع الزمان إيقاعه وارتمى في أحضان البشاعة. وتمضي الأيام غير عابئة بما يجري، تدوس بحوافرها على وجوه الناس كجياد نافرة، ثم تمضي... وفي أسواق البوادي ترى الناس هيامى «سكارى وما هم بسكارى» شفاه مزمومة، نظرات تنطق بهول الفاجعة، أعين ترتفع نحو السماء العالية، تراقب شتات السحب العابرة في مرارة، وتهمس النفوس في الدواخل «الرحمة يارب». تخاطب بعضهم سائلا، فترتعش الشفاه، وتتلعثم بكلام لا يعبر عن المراد. لقد صار قلع الضرس لديهم أهون من الحديث، فتدرك على الفور أن زمن الخرس قد حل. لماذا تغير الوقت؟ ولماذا تغير بعض الآدمي ووضع على الوجه صفائح من سخام؟ ومع ذلك سيظل مسقط الرأس عبارة عن اختزال الطبيعة في حقل وقد أينع في فصل ربيع، وسجي الأرض بما تفتق من ألوان، فتأتيه الفراشات كلها، والنحل كله وقد خرج من جباحه، وبه تعشش صغار الطير وتجدد نسلها، وفوقه على الدوام غمام يسقيه، وحوله نهر يسيجه، وعلى السفح المجاور كوخ من طين بداخله شيخ يحرس الحقل ليظل حشائش للشياه، بستانا للفسحة، انتعاشا للروح، صك غفران يشفي البصيرة من العمى، انبثاق حنين، رجع ذكريات دفينة، هبة نسيم عليل يذيب بلطف ما تراكم من صدء السنين، جدول يتدحرج من عال ويصيخ السمع لخرير مائه، وعلى جنباته تنهض العسالج من رقدتها غذاء للرعاة مشتهاة ككسرة خبز ساخن. عبق ذكرى، رحيق زهرة، فك قيد ناقة، مضاء منجل ساعة الحصاد... إطلاق سراح الروح لتعود الى أجسادها والبسمة إلى الشفاه. آه منك ياوطني.. آه منك أيها الجرح الذي استعصى برؤه على جميع أطباء الكون، أه منك يا زورقا من قش تاه في عرض البحر ففقد الأمل في العودة الى مرساه. آه منك وأنت العالم وحدك في زمن الرياء، بتاريخ الأحبة: الذين غادروا، والذين شردوا والذين بين بين، آه منك.. وتبقى وحدك عليك المعول في أن تلفظ الزعانف الزائدة وترمي بها بعيدا كما يلفظ البحر من أحشائه جثث الهلكى وشظايا حطام القراصنة. آه منك أنت الذي علمتنا في أصيافك الخوالي كيف نجعل من ترابك لحافا ناعما ومن سمائك غطاء فرو لطفولة مغتصبة ومن جنان القلب خيولا لسباق لم يحد عن قصده، فنتصبب عرقا.. كان الزمن يسير على رجليه حقا، شفافا كدمعة منسابة على خد عروس ليلة حفل زفاف. نعم، لم نكن ندري أن كل التاريخ اليقين سيتلطخ في لحظة عابرة، كل حلمنا الجميل سيغتال في نزوة ماكرة، وأن كل ما عشنا، كل ما تعلمنا، كل ما قرأنا، كل ما خططنا وأنجزها، كل ما ضحينا، كل ذلك سيتحول مع القراصة الى قبض ريح، والى جريمة عظمى نستحق عليها الإعدام شنقا وبلا محاكمة. لهم، ولهم وحدهم لذة غلة مازرعنا واستنبتنا في حقل الاستشهاء. لهم وحدهم عائد رهان الوصول، ولنا لهاث الطريق. نعم، لقد خدعنا بملمس الأفاعي الناعم، ولم نكن ندري أن في أنيابهم من السم الزؤام وفي قلوبهم من الحقد والضغينة ما يغتال الأمة ويشل حركة وطن. البعض منهم صار معطرا ومنمقا كقطعة حلوى في زجاج واجهة. آه أيها المغاربة، ربما لا مفر من إعادة رسم معالم طريقنا، والى ذلك الحين، سنرابط في حقل صبرنا وأحزاننا ، كفصل خريف أبدي في انتظار اليوم المشهود.. اليوم الذي سيخلط نقطة البدء بالنهاية.