يبدأ الرهان أول مرة بمحاولة بسيطة لتجريب الحظ، لكن حين يتحول من مجرد وسيلة للربح إلى هدف في حد ذاته يصبح كابوسا اسمه «الإدمان»، فيدخل المراهن في منطقة أشبه بنفق مظلم ومسدود، يخسر فيها كل شيء، وظيفته ثروته وزوجته. وأحيانا قد تنتهي الخسارة بالسجن أو الانتحار. أحلامكم ليس لها حدود.. «شوبّيك لوبّيك.. 2.5 مليون بين إيديك» أول ما يصادفك بمجرد ما تجتاز عتبة المتجر الموجود بساحة فيردان بالدارالبيضاء. في الإعلان أيضاً صورة لعفريت يشبه عفاريت الرسوم المتحركة، يبتسم بخنوع، مبديا استعداده لتلبية رغبتك في الفوز، شرط أن تجرب حظك مع لعبة «فووز». جنب الإعلان مباشرة إعلان آخر بالفرنسية يسيل اللعاب أكثر «أحلامكم ليس لها حدود.. زهاء مليار و800 مليون سنتيم في السحب المقبل للوطو». في يسار المدخل صورة لفنجان قهوة مليء حتى حافته بأوراق المائتي درهم، عوض «الكافي كريم» وعلى الفنجان كلمة Chrono. تحته مباشرة كُتب «مع multiplicateur لكرونو ربحة إكسبريس حتى ل500 مليون». أينما تولي وجهك بالمتجر ثمة إعلان، وفي كل إعلان إثارة، تحفيز ودعوة إلى الحلم بالثروة والملايين. الشرط الوحيد والرئيس أن تجرب حظك. جنبات المتجر مليئة بالزبائن من مختلف الأعمار (من المراهقين حتى الشيوخ) منشغلين، حدَّ الانخطاف، أحياناً، بتجريب حظوظهم مع ألعاب الرهان. بعضهم نظراته مشدودة إلى الأعلى حيث توجد شاشة إلكترونية تبث في كل خمس دقائق سحب ال«كرونو»، وبين الحين والآخر تعلن بالفرنسية أن «لاعباً من تزنيت فاز أمس ب 50.000 درهم» !. لا أحد يعرف من يكون «سعيد الحظ» هذا ولا هويته ولا سنه ولا أي شيء عنه. لكن من يقرأ الإعلان يتمنى لو يحل محله. صاحب المتجر منهمك في تلبية طلبات الزبائن المراهنين وبقربه مساعدان، أحدهما مكلف بآلة لا تتوقف عن إصدار صوت يشبه صوت الفاكس. في إحدى الزوايا امرأة في أواسط العمر منهمكة هي الأخرى في اللعب. بين الوقت والآخر تشتري ورقة وتجرب حظها. بقربها مراهقتان تقرآن لائحة الجوائز المالية التي أعلنت عنها «المغربية للألعاب والرياضة» في فبراير 2009. تبدوان مترددتيْن. تتشاوران بهمس، وفي الأخير تُخرج إحداهما عشرين درهما وتشتري ورقة «فووز». بالمقابل يكمّش شاب ورقة «كرونو» بعدما تأكد من نتيجة السحب ويرمي بها مغادراً المكان. أوراق عديدة مرمية على الأرض، تدوسها الأقدام بعدما خان الحظ أصحابها. اللهفة المرضية على الربح نفس السيناريو يتكرر تقريباً بوكالة «كليمونصو» ب«البرانس»، لكن هذه المرة مع خيول الحظ. نفس الترقب، نفس اللهفة الخفية على الربح، ونفس النظرات المسمرة أيضاً على الشاشة الإلكترونية. عند مدخل الوكالة امرأة تبيع نسخ برامج سباق الخيول. النسخة بدرهم واحد، تقول المرأة. «هذه التجارة أصبح يزاولها العديدون. يقومون بنسخ برامج سباقات الخيول من الجرائد الفرنسية أو من الأنترنت ثم يبيعونها في الشارع وفي المقاهي» يقول ميلود الموظف ب«الشركة الملكية لتشجيع الفرس» . في الداخل صمت ممزوج بالترقب. لم تبق سوى دقائق وينطلق سباق «الكوارطي». السباق دوما يجري بفرنسا، لكن عدواه تصيب المراهنين بكل وكالات ومقاهي رهان الخيول بالمغرب. حالة الاستنفار تبدو بشكل جلي في نظرات الأعين المنشدّة باستمرار إلى الشاشة الإلكترونية وسط القاعة، في الحركات العصبية لكثير من المراهنين، وفي الجو المثقل برائحة السجائر. بعضهم يقرفص على الأرض، فيما آخرون يتحلقون حول الشبابيك المسيجة لشراء تذاكر السباق قبل انطلاقه بحثاً عن حظ قد تجلبه حوافر الخيل أو تدهسه. أحد المراهنين كان منفعلاً ويصرخ في وجه صديق له رفض أن يقرضه عشرة دراهم كي يراهن على أرقام «مْسوكرين»، بينما قرر اثنان أن يتقاسما ثمن تذكرة واحدة. يتقدم شيخ في السبعينات، تقريبا، من عمره نحو أحد الشبابيك، يمد خمسة عشر درهما إلى الموظف بيد مرتعشة ويملي عليه ثلاثة أرقام ثم يضيف متوسلاً «زيدْ من عندكْ شي رقم الله يرحم الوالدينْ. والله إيلا عْييتْ». في نبرة الشيخ انكسار واستسلام. يتناول تذكرة الرهان، يقربها من عينيه كي يستطيع قراءتها، ثم يجرجر ببطء قدميه نحو زاوية القاعة ويقرفص بصمت. «هذا الشخص منذ بدأت العمل في هذا الميدان وأنا أراه. أكثر من ثلاثين سنة وما يزال يراهن» يقول الموظف، مضيفاً «المْسكين البْلية سكناتو»، قبل أن يستدرك « لكنه ليس الوحيد من أصابته هذه «البلية»، فأغلب هؤلاء الذين تراهم أمامك أصبحوا مدمنين على الرهان. يأتون يوميا إلى هنا، وبعضهم لا يفكر حتى في الذهاب إلى منزله وقت الغداء ويفضل البقاء حتى إغلاق الوكالة». تعددت الوجوه والإدمان واحد يفسر علي الشعباني، الباحث في علم الاجتماع، وقوع العديدين في مصيدة الرهان بكون «ألعاب الرهان تلعب بعقول الناس فتفتح أمامهم باب الأمل في الربح، في وقت يكون الواقع قاسياً»، موضحا بأن «الواقع الاجتماعي لا يتيح نفس الفرص لكل الناس. كما أن العمل ليس متوفرا للجميع، لكن الرهان مفتوح أمام الكل. ويكفي أن تقتني ورقة بمبلغ بسيط وتنتظر حظك». لكن خطورة الرهان بالنسبة إلى الشعباني تكمن أساساً في أنه «يشبه التدخين الذي يبدأ بتذوق السيجارة الأولى ليتحول إلى إدمان» أو إلى رهان مرضي، كما يسميه علماء النفس، أي أنه يتحول من مجرد وسيلة للربح إلى غاية في حد ذاته، فلا يصبح الهدف هو الربح وإنما الرهان ذاته أو لذته، وبالتالي يصبح من العسير على المراهن التوقف عن اللعب. يقول أحد المعلمين الذي صار مدمنا: «عندما لا أتمكن من الحضور كي أراهن أشعر بتنمل في دماغي وأحس بتوتر في أعصابي ولا أستطيع التركيز في عملي». مدمن آخر اعترف لميلود قائلا: «تنْحس راسي بْحال إيلا مقطوعْ. تتْكُون نفسي مغْمومة عليّ، وغير تنجمع شي فليسات تنجي نجري باشْ نقمّْر. والله ما تنحس بالراحة حتى تنقمر. وخا نخسر ماشي مشكل. المهم غير نلعب. فاش تنلعب تنحس بالراحة». بالنسبة إلى خالد (اسم مستعار) فقد استفحل وضعه كثيرا، بعدما أصبح ضحية هلوسات بصرية. يعترف هذا الموظف لعادل، أحد المستخدمين بشركة «سباق الكلاب السلوقية بالمغرب» قائلا : «تْصور فاش تيقرب الوقت اللي تيحل فيه الفيلودروم تنبْدا نشوفْ الكلاب تتْجري فوق المكتبْ دْيالي». رغم هذه المعاناة النفسية لا يفكر هؤلاء في الإقلاع عن إدمانهم، بعدما صاروا عاجزين عن المقاومة. «أحيانا يقسم لي بعضهم أنه سيقلع عن الرهان على الخيول، لكنْ بعد يوم أو يومين تجده أمامك متحمسا للرهان وكأنه لم يقسم أبدا أنه سيقلع عن إدمانه»، يقول ميلود. ضيع محطة بنزين ورثها عن والده بسبب إدمانه على «السلوقية» هذا الإفراط في الرهان حد الإدمان تكون له دوما تداعيات اجتماعية وعائلية تصل حد المأساة أحيانا، لكن ذلك يقابَل باللامبالاة من قبل الجهات المسؤولة في غياب دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية تهتم بالموضوع عكس ما يحدث في دول أخرى. في فرنسا مثلا شكل المعهد الوطني للصحة والبحث، وهو مؤسسة حكومية ذات طبيعة علمية وتقنية، فريقا من الأخصائيين في جميع الميادين (الاقتصاد، السوسيولوجيا، الصحة، علم النفس، الطب النفسي...) لدراسة التداعيات التي تترتب عن الإدمان على الرهان لتبني سياسة وقائية ضد الإدمان عليه. في المغرب لا شيء من هذا القبيل يحدث رغم المداخيل المهمة التي يضخها قطاع الرهان في خزينة الدولة. ما يمكن سماعه في المغرب هو فقط حكايات عن الانتحار والإفلاس والاختلاس والطلاق أبطالها مدمنون على الرهان. بالدارالبيضاء أقدم طبيب جراح للأسنان على الانتحار في شقته بعدما أطلق النار على زوجته من مسدسه. السبب كان هو الإدمان على الرهان. وقبل سنوات حكم على موظف يعمل مراقبا للصندوق في المحكمة بالدارالبيضاء بالسجن خمس سنوات بعدما اختلس من الخزينة عدة ملايين. و كان السبب أيضا هو الإدمان على الرهان. شخص آخر في الخمسينات من عمره ورث عن أبيه محطة للبنزين، فأضاعها لأنه كان مدمنا على الرهان على الكلاب السلوقية. يحكي عادل أن ذاك الشخص «كان أحيانا يخسر في الليلة الواحدة ثلاثة ملايين. لكن لم يمض عليه وقت طويل حتى أفلس، ولم يبق لديه سوى مبلغ 15 مليون سنتيم كان قد وضعه في حساب ابنه الصغير بالبنك، فبدده هو الآخر. في الأخير لم تجد زوجته من حل سوى طلب الطلاق». نفس المآل عرفه تاجر له محل لبيع الملابس، كان يبحث عن الحظ في حوافر الخيل فأوقعته الحوافر في الإفلاس وحولته إلى مجرد «كوارتيه» يعرض خدماته على الزبائن و يمد المراهنين المبتدئين بالمعلومات أو يقضي لهم حاجاتهم كي يظفر في الأخير بمبالغ يراهن بها. سليم (اسم مستعار) لم يكن هو الآخر أحسن حظا من سابقه، إذ خسر في لعبة البوكر كل ثروته فاضطر في النهاية إلى المراهنة بسيارته الكات كات... لائحة طويلة من الضحايا يسقطون باستمرار صرعى الضربة القاضية للإدمان، منهم «محامون وأطباء وموظفون ومتقاعدون وماسحو أحذية وأيضا متسولون. بل حتى الصحافيون أنفسُهم لم يسلموا. أحدهم جاء مرة لإجراء روبورطاج عن الرهان على الخيول فسقط هو الآخر ضحية الرهان» يقول ميلود. لكن تبعات الإدمان لا تتوقف عند حدود الشخص ذاته، بل تصيب المحيطين به وخاصة زوجته وأولاده. يشير عمر أوسي، المحامي بهيئة الدارالبيضاء، إلى أن هناك حالات عديدة للتطليق تعرض على المحاكم سببها الرهان، لكن يتم تصنيفها في خانة «الضرر»، إذ أن «المشرع المغربي نص في المادتين 98 و99 من مدونة الأسرة على أن للزوجة الحق في طلب التطليق للضرر» يقول عمر أوسي، موضحا أنه «يعتبر ضررا مبررا لطلب التطليق كل تصرف للزوج يلحق بالزوجة إساءة مادية أو معنوية تجعلها غير قادرة على الاستمرار في العلاقة الزوجية» حسب ما جاء في الفصل 99 من مدونة الأسرة. ويشير إلى أن «طلب التطليق من أجل الضرر الذي تستحيل معه العشرة يعد أكثر صور طلب التطليق عرضا على المحاكم المغربية، لأنه طلب يستوعب عمليا صورا كثيرة للإضرار بالزوجة»، موضحا أن «القمار يدخل هو الآخر في عداد الضرر الموجب للتطليق لما ينتج عنه من تبذير أموال الأسرة والعجز الكلي عن القيام بواجبات الحياة الزوجية المادية وغيرها من الالتزامات المالية للزوج». قد تكون الزوجة محظوظة أن وجدت في القضاء ملجأ للمطالبة برفع الضرر عنها من زوجها المدمن، لكن أين سيلجأ الزوج المدمن وكل المدمنين الذين دُمّرت حياتهم كلها؟ ومن سيرفع عنهم ضرر الإدمان على الرهان الذي تستفيد منه خزينة الدولة و يضخ في صناديق شركات الرهان مليارات الدراهم سنويا؟.