خلال السنوات الماضية، يصعب تعداد الحالات التي سقط فيها أشخاص مغمى عليهم بعد أن فقدوا كل شيء، وآخرون كانوا على وشك فقدان حياتهم لأنهم أصيبوا بأزمات قلبية حادة، لكن خلف الأزمات الصحية المفاجئة هناك كوابيس كثيرة لأسر تحولت حياتها إلى جحيم بفعل إدمان الآباء على القمار في هذا «الصندوق الأسود». أول ما يحرص عليه مسؤولو كازينو موفنبيك في ملاباطا بطنجة هو أن تكون سيارة الإسعاف قريبة، وأيضا أن يكون هناك مسعفون من أجل العناية بالأشخاص الذين تنتابهم أزمات قلبية مفاجئة. إن إدارة الكازينو تفعل كل ما تستطيع من أجل ألا يموت أحد المقامرين في حضنها، لذلك كلما سقط أحد من فرط صدمة الخسارة، يتم إسعافه في لمح البصر، وتأتي سيارة الإسعاف بسرعة غير معهودة وتحمله إلى المستشفى. قصص بالأسْود فقط هناك قصص خاصة لا يحكيها إلا أفراد معدودون في أسر محدودة، وهؤلاء يطلبون، بل يلحون أن تبقى أسماؤهم وهوياتهم مستترة، لأن الفضيحة «بجلاجل»، وهناك قصص عامة يعرفها كثير من سكان طنجة، وهي قصص على قدر كبير من القسوة. يحكي الناس قصة رجل شهير في المدينة، كان على مدى سنوات طويلة الوجه المحبوب في أي مكان يزوره. هذا الرجل صار في لحظة ضعف واحدا من زبائن الكازينو، ومنذ تلك اللحظة انقلبت حياته وحياة أسرته إلى جحيم. كانت بداية الرجل في ولوج الكازينو تشبه حكاية «مرافقة الأشرار». ثم تحولت إلى عادة، والعادة صارت إدمانا، وبعد ذلك وجد الرجل نفسه محط حديث وشفقة سكان المدينة، فباع منزله وأملاكه، ثم أصبحت أسرته على حافة التشرد، ثم انتهى كل شيء. بعد أن صارت الألسن في المدينة تردد أن ذلك الرجل يرتاد الكازينو، فعل ما يفعله كثيرون في المدينة وشد الرحال نحو كازينوهات هولندا، وهناك قضى على ما تبقى من ثروته الصغيرة، وعاد إلى طنجة يجتر حسرته الأخيرة، وبعد بضعة أسابيع قضاها على فراش المرض، غادر الحياة وفي قلبه حسرة كبيرة، حسرة تضييعه لحياة أعز الناس إليه، زوجته وأبنائه. هناك قصة أخرى، قصة شاب عادي كان إلى وقت قريب موظفا مرموقا في إحدى إدارات المدينة. سمع يوما عن أصدقاء له يتوجهون إلى الكازينو للعب والتسلية، قال مع نفسه إن التسلية جيدة والقمار حرام. لذلك ذهب إلى هناك من أجل التسلية فقط، وتحولت التسلية إلى عادة يومية، والعادة اليومية إلى إدمان، وهو اليوم لا يزال مدمنا، ليس على القمار، لأنه فقد كل شيء، بل أصبح مدمنا على الهيروين، وقبل ذلك أصبح مدمنا على الكوكايين، وبما أن جرعة الكوكايين الواحدة يزيد سعرها عن 700 درهم، فإنه تحول نحو الهيروين الرخيص لأنه لم يبق لديه ما يخدر به نفسه. كان الرجل يريد أن يتسلى، ثم قال مع نفسه لماذا لا يحصل على مصروف إضافي من وراء المغامرة، وجاءته المغامرة بما تأتي به أغلب المغامرات، تدمير الحياة. عتبة النجاح.. وعتبة الكازينو هناك قصة يحكيها رجل من عائلة رجل مفلس بسبب الكازينو، رجل كان على عتبة النجاح، فقرر في لحظة شيطانية أن يستبدل عتبه النجاح بعتبة الكازينو، فكان ما كان، وهذه قصته بإيجاز. كان الرجل رب أسرة ناجحا وعطوفا. رجل في غاية الطيبوبة ويعمل كل شيء من أجل إسعاد أسرته، وعلى الأخص بناته. أعمال هذا الرجل كانت تتوسع ويلقى نجاحا بعد آخر، وفي وقت من الأوقات كان من الممكن أن يوصف برجل الأعمال الناجح، لكن ذلك لم يحدث، وهو اليوم رجل فقير يطلب قوت يومه فلا يجده. غالبا ما يكون الدخول الأول إلى الكازينو برفقة أشخاص أو أصدقاء سبق لهم زيارته، وهو ما حدث لهذا الرجل، حيث زار الكازينو مع مقاول كان يقضي أغلب أوقاته بين كازينو طنجة وكازينوهات الجنوب الإسباني، وكان يغرق في مال كثير. لم يدرك الرجل الضحية أن صديقه الغني يغرق في مال المخدرات، والكوكايين على الخصوص، وأن ما يربحه في تجارة المخدرات يخسره في الكازينو، لذلك ظن أن الحظ سيكون إلى جانبه. في البداية باع هذا الرجل منزلين له خارج طنجة، ثم عمارة في طور البناء، ثم منزله الخاص، ثم تشردت أسرته في منازل الأهل، وهو اليوم على حافة الجنون. ويحكي عنه رجل ويقول «في آخر مرة رأيته، كان يشبه شبحا بلا روح، وقال لي إنه يخاف أن تخرج بناته إلى الشارع، وأنه يستحق جهنم وسيذهب إليها راضيا جزاء ما فعل في أسرته».. لكن لحسن حظ الرجل أن أسرته، وبناته على الخصوص، أعقل منه بكثير. يمكن أن يموت هو، لكن أبناءه سيستمرون في الكفاح من أجل حياة كريمة. في طنجة حكاية عامة يعرفها كثيرون، حول رجل أعمال شهير بنى مجده على الماء، وعندما افتتح الكازينو كان من أوائل رواده، وفي ليلة واحدة يمكن أن يخسر عشرات الملايين، وهو اليوم على حافة الضياع إذا لم يتدارك نفسه. تقول الحكاية إنه في ليلة ما نسي هذا الرجل أنه أنفق 30 مليونا في الكازينو، وعندما وصل إلى المنزل اتهم سائقه الخاص بأنه سرقها، ثم طرده، لقد طرده بعد سنوات طويلة من العمل والوفاء من جانب ذلك السائق الطيب. لكن بعد أيام سيتذكر رجل الأعمال أنه خسر الثلاثين مليون سنتيم في الكازينو في ليلة واحدة، وسيعود إلى تقبيل رأس سائقه ويطلب منه الصفح، لكن سيكون من الأجدى له أن يطلب الصفح من نفسه، لأنه إذا استمر على هذا النهج فإنه سيتحول إلى سمكة صغيرة جدا ستأكلها سمكة كبيرة جدا. ويقول أحد القريبين من هذا الرجل بحسرة «هذا رجل نحبه وهو من أحسن وأطيب أبناء المدينة، ونتمنى أن يستيقظ قبل أن يدوسه القطار». رجل يبكي كالنساء.. كل صباح من كل يوم جديد، يخلق هذا الكازينو تفاصيل مختلفة في حياة الكثير من الناس. أغنياء يتحولون شيئا فشيئا إلى فقراء، وفقراء يتحولون شيئا فشيئا إلى مجانين، وأسر هانئة في عيشها المتواضع تتحول إلى أسر على حافة الكارثة، أو في قلب الكارثة. ويحكي كثير من سائقي سيارات الأجرة، الذين يقفون في ساعات الصباح الأولى في منطقة ملاباطا لنقل رواد الكازينو إلى منازلهم، كيف أن أشخاصا يخرجون من الكازينو كأنهم يخرجون من قبر. ألوانهم شاحبة وصفرتهم تشبه صفرة الموتى. لقد فقدوا كل شيء في رمشة عين. ويحكي سائق طاكسي كيف أنه حمل يوما رجلا خرج من الكازينو، فسأله السائق أين يسكن، فقال له إنه لا يريد الذهاب إلى المنزل لأنه سيحس بالعار عندما يدخل على زوجته وأبنائه نائمين، وأنه يريد التوجه إلى أي مكان، إلى غابة أو شاطئ مثلا، وقبل أن يصل به إلى مكان بعيد، كان الرجل يبكي مثل امرأة فقدت عزيزا عليها. لقد فقد الرجل كل شيء. الذين يقامرون في كازينو طنجة هم من كل المدن. رجال ونساء يأتون من بعيد، من الدارالبيضاء والرباط وفاس ومراكش ومناطق بعيدة أخرى. هناك أشخاص يأتون من مدن توجد فيها كازينوهات قمار لأنهم يريدون أن يقامروا في مدينة لا يعرفهم فيها الناس. ويحكي مستخدم سابق في كازينو طنجة كيف أن عددا من سكان طنجة كانوا يقامرون في البداية في الكازينو، وبعد أن بدأ الناس يتداولون أسماءهم رحلوا للمقامرة نحو مدن أخرى، ومنهم من أصبحوا يتوجهون إلى كازينوهات أوروبية، خصوصا في هولندا. فتش عن المرأة.. يأتي إلى الكازينو مسؤولون بارزون في المدينة وأباطرة عقار كثيرون، ومن بينهم مقاول فاسي شهير، وغالبا ما يصحب معه زوجته كما يفعل المقامرون الكبار في الأفلام الذين يتفاءلون بالحظ الذي تجلبه المرأة، لكن هذا الرجل لا يتفاءل بحظ زوجته، بل هي التي تتفاءل به، لأنه يكتفي بالجلوس إلى جانبها مثل طفل وهي التي تقامر. أحيانا يغلبه النعاس فيذهب ويتركها في الكازينو قبل أن يعيدها السائق إلى المنزل في ساعات الصباح الأولى. في هذا الكازينو يوجد أيضا عدد من أبناء كبار رجال الأعمال وأباطرة العقار. في هذا المكان يبعثرون المال الذي يجنيه آباؤهم من عرق الفقراء والكادحين. من الوجوه المعروفة في الكازينو وزراء سابقون ومسؤولون نافذون ابتلاهم الله بآفة القمار. وهم في كل الأحوال يقامرون بأرزاق الشعب وليس بأموالهم. وهؤلاء وغيرهم من كبار المقامرين يلقون حفاوة استقبال كبيرة، وعادة ما تخصص لهم غرف بالمجان في غرف الفندق، كما أن سيارات خاصة وفارهة تحملهم في كل تنقلاتهم من المطار إلى الكازينو، وأحيانا تتوجه إليهم حتى مدنهم لتحملهم إلى طنجة، ثم تعود بهم من طنجة نحو مدنهم. كازينو طنجة به ثلاث طوابق رئيسية. الطابق الأول للمبتدئين، أي أنه أشبه ما يكون ب»كْلسة الحمام» قبل الدخول إلى السّخونْ. وفي هذا المكان يتلقى المبتدئون الحروف الأولى لعلوم الخسارة، ويكتشفون أن الحياة أخذ وعطاء، وفي هذا الطابق أيضا يبدأ المقامرون تجاربهم عبر المقامرة بحفنة من الدراهم، أي أنهم إذا خسروها فلن يشكل لهم ذلك أذى كبيرا. بعد ذلك يوجد الطابق الثاني، وسقف المقامرة فيه في حدود عشرة ملايين سنتيم، وفيه يتعلم المقامرون كيف يثقبون جيوبهم بأيديهم، وفيه تبدأ سيناريوهات دمار العائلات تتشكل ببطء. في الطابق الثالث يصل المقامرون درجة الاحتراف، أي أنهم يصبحون مثل «ميسي» و«تيري هنري» على الملعب. وهذا الطابق يلجه كبار المقامرين ووجوه بارزة من عالم المال والأعمال وتسيير الشأن العام محليا ووطنيا. وفيه تتحرك عشرات الفتيات القادمات من أوروبا الشرقية لتنشيط شرايين المقامرين والعمل على انتصاب جيوبهم. مسؤولو المدينة قالوا إن الكازينو سينعش سوق الشغل واليوم 99 في المائة من العاملين فيه أجانب عندما تم الترخيص لإنشاء كازينو للقمار في طنجة، على شاطئ ملاباطا شرق المدينة، فإن الكثيرين رفعوا التحذير التالي: «القمار يفقر ولا يغني، وليس هناك أمثلة جيدة في تاريخ الكازينوهات غير أمثلة الفقر وتدمير الأسر وتحويل الحياة الهانئة إلى كابوس». في البداية قال الناس إن الكازينو فتح أبوابه في طنجة من أجل أن يمتص أموال المخدرات ويساهم في تبييضها، خصوصا وأن المنطقة تعرف رواجا كبيرا في عمليات تبييض الأموال، وهي عمليات تساهم فيها الأبناك بشكل كبير، بعلمها أو بدون علمها، لذلك لا بأس أن ينضاف الكازينو إلى القائمة. قال الناس أيضا إن الكازينو يمتلكه إسرائيليون، وهو ما عبرت عنه مختلف وسائل الإعلام المغربية والأجنبية، وكان طبيعيا أن تجد عناوين تقول مثلا «إسرائيل تفتتح كازينو في طنجة»، أو «شركة قمار إسرائيلية تفتح كازينو في مدينة طنجة المغربية». كانت الحملة الإعلامية ضد الكازينو في البداية ملتهبة، ووصفه الكثيرون بأنه «قلعة متقدمة للصهيونية والانحلال وخراب البيوت»، ووصلت هذه الحملة إلى قبة البرلمان عبر أسئلة وجهها نواب إلى الحكومة، وردت الحكومة بأن كازينو القمار «يشبه واحة في صحراء»، أو هكذا أرادت أن تصف الأشياء، ونظم سكان طنجة وقفات واحتجاجات، لكن الأمر كان أكبر منهم ومن الجميع، وسرت في المدينة إشاعات تقول إن الكازينو سيدعم الكثير من القطاعات الحيوية، منها الفرق الرياضية وإصلاح الطرقات والمساهمة في التنمية العامة، وفي النهاية لم يستطع الكازينو حتى تأدية ضرائبه، رغم أن مداخيله خرافية، وتم الحجز على حسابه البنكي، وربما يتم الحجز قريبا على تجهيزاته. اليوم، وبعد حوالي 10 سنوات من ذلك التاريخ، هناك المئات من قصص البؤس التي تستحق كل واحدة منها أن تتحول إلى فيلم سينمائي يستدر الكثير من الدموع، لكن الفارق بين السينما والواقع مهولة، حيث إن قصص ضحايا القمار في كازينو طنجة أناس من لحم ودم وأسر وأبناء، وضحايا السينما مجرد ممثلين. ويبدو من المفيد العودة إلى البداية، أي حتى قبل أن يبدأ الكازينو حصد أرباحه، عندما تفاءل مسؤولو المدينة خيرا بكازينو القمار، وقالوا إنه سينعش السياحة وسيوفر مناصب شغل وسيملأ صندوق المدينة بالضرائب، لكن بضعة أيام بعد ذلك خفضت سلطات المدينة حجم الضرائب المفروضة على الكازينو من مليار و200 مليون سنتيم سنويا، إلى 600 مليون فقط، ثم ثبت بعد ذلك أن توفير مناصب الشغل مجرد وهم، لأن 99 في المائة من مناصب الشغل في الكازينو شغلها أجانب أو أناس من خارج المدينة. ومن المفارقات الغريبة، أن افتتاح كازينو طنجة في سنة 2001، جاء سنتين فقط بعد أن تولى عبد الرحمن اليوسفي قيادة حكومة التناوب، وهو ابن طنجة، وربما يتذكره الطنجاويون بهذه الالتفاتة المدهشة نحو مدينته، أي أن يزرع فيها كازينو قمار يشرد الأسر ويزرع النكبات. لكن يجب عدم تحميل اليوسفي فوق طاقته، لأنه في البداية والنهاية مجرد وزير أول، والذين قرروا فتح الكازينو أقوى منه وأعتى.