من المتعارف عليه في مدينتنا و المتفق عليه مسبقا، أن يبلور كل حي ثقافته المحلية في إطار الصالح العام لذاك الشيء الغريب، الذي يدعونه الوطن. فبالرغم من التفاوت الطبقي الهائل و الحاصل عفوا في مخطط طبيعة هذه البلدة بين الفقير و الغني، أي الفوق فوق و التحت تحت، فإن القاعدة الديمقراطية، قد ظلت مشاعة فقر مشتركة. و هكذا كان لكل حي في تكوينه المحلي، أثرياءه، فلاسفته، أدباءه، خطباءه، مجانينه، حشّاشيه، فقراءه الصعاليك، حراسه الطيبين و أخيرا سُكاراه. و لم تكن الأساطير و لا الحكايات العجيبة، بمعزل عن وحدة تفكيرنا المشترك. ففي حينا، كما تولد الشمس على أفق البحر كل يوم، كما تولد الدراهم و تتكاثر في صناديق التوفير الوطني، و في تضاعيف الشركات التجارية الشريفة جدا، ولدت عندنا في حينا خرافة، بل حكاية لا تشبه الحكايات في شيء. كان "علي بو معيزة" يومها، سكرانا، ثملا و مثقلا بقناني "الرّوج" المفرغة في رأسه. و في حين أدى به انحداره الثمل و هوى به مجرورا إلى مقربة من دكانة "للاّ زهرة الخضارة"، صاحت به هذه الأخيرة قائلة: - الله يرحم والديك " آ علي بو مْعيزَة" مَتْ .. قَرّْبْشي لْعَنْدي مْني تْكون سْكْران.. ! كانت طيبة هذه الزهرة الخضارة. بل بالمناسبة، لقد كانت مناضلة من الطراز الأول. و حين أتلفظ بكلمة النضال، فإني لا أقصد بتاتا لا القاعديين و لا المتدينين بالماركسية، و لا أولائك المتشدقين بالنضال الاجتماعي بشكل عام. فنضالهم النظري الخمري، لا يشبه نضال للاّ الزهرة الخَضّارة الحقيقي.فهي كانت امرأة هجالة. أي قد أصبحت بلا زوج من بعد وفاة هذا الأخير الذي راح، و خلف لها عشرة أنفس لإنقاذها من السقوط و الفناء في مجتمع الفاقة و الحرمان. ترك لها أولاده السبعة، أبويه المُسِنّيْن، و خالة مصابة بداء الهبل. و لقد دخلت هذه الخضارة إلى معركة الوجود بإرادة فوق بشرية. و استطاعت أن تسود هذه القبيلة التي رُئَِِّسَت عليها بشخصية أنثوية مقاومة. بل نادرة في بلد مثل هذا، الذي يقدس أدباؤه بنات عشتار، فينوس و أفروديت، عوضا من الخنساء و رابعة العَدَوِيّة و زرقاء اليمامة. لقد كانت في أعلى معاني الطيبوبة هذه الخضارة. ففي فصل الشتاء مثلا، كانت تحضن كل أطفال حينا المشردين، تطعمهم، تدفئهم و تسهر عليهم. و في فصل الصيف، فصل التسوح و الانفتاح، كانت تفرغهم في الأسواق، الحافلات، دور السينما و المتاجر الفخمة، لممارسة السرقات الشرعية، من أجل معاشهم و حقهم في الوجود. لقد كانت هذه الخضارة من الناحية الأنثوية، كباقي نساء هذه المدينة. كانت تتقلب مثلهن، حسب الأفراح و الأعياد الوطنية. و مع ذلك كانت تحتفظ بإحساس فريد لهذا الرجل السكير الذي ولد صدفة في حينا مع خرافة المعزة الذهبية. انتبه علي بو معيزة لتوبيخ الزهرة الخضارة و توقف ليتفحصها بعينيه الدائختين: - و صافي .. حتى نْتينا الزهرة البوّالة .. ! و أجابته من قمة شهامتها و أنوثتها السائدة: - وا كُنْ تحشم الرّاجل .. ! و من نافذته الضيقة المطلة على شاشة الحكاية، انطلقت فجأة قهقهة الفقيه المخفي، هذا الذي كنا نسمع به و لا نراه. قهقه ثم اختفى متواريا في بيت مسجده الصغير، متخفيا في ثنايا جلبابه الصوفي الداكن. و من بعد تواريه ببضعة ثوان خرج ذاك الطفل العاق من ثقب جدار أسود،و راح يجذب علي السْكايْري من كم جلبابه، في حين صاحت به للاّ زهور الخضارة: - العايل خلي الراجل عليك و مشي تلعب فْ التّيساع .. ! و بدوره استدار "علي بو معيزة" في هذا الطفل الوقح، مسكه من آذانه الطويلة ثم قذفه بحذائه الثقيل: - و سير للدّين دْبابَك ! و من جديد عاد علي بو معيزة، للضحك و التِّسْباب و الغناء: - يا ورد من جَرّحَك .. مَن جَرّحَك ! جَرّح شَفَيْفَك و خَلّى ..آ .. لَطيف ! عَلى شَفَيْفَك دَمَك ... دنيا .. شَفيْفَك دَمَك .. تفو ! كانت لعلي جاذبيته الخاصة، يضحك، يبكي، يغني، يسب، ثم ينسحب حالما إلى عالمه الخاص به. عالم "الروج" و "الكيف" و الإفلاس المطلق. و حين يأخذ التعب منه مأخذه، يميل نحو بقالة الخضارة، يقتعد الصندوق الخشبي المحاذي للمدخل و يسرح هائما في عوالمه الخرافية. و يغتنم الفرصة في هذه الحالة المواتية أحد عقلاء الملة المُتَجَوّقة: - إيه أعمي علي .. و احكي لنا عن معزتك الذهبية ؟ و يخرج علي بو معيزة رأسه من بين يديه، حين يكون التفاعل بين الروج و التأمل قد حصل في أسفل مخيلته، يتطلع في من حوله، متهيئا لإعادة قص ما قصه مرارا كلما أفرغ زجاجة روج في رأسه، و قد تحلقنا من حوله كعادتنا للاستماع من جديد لخرافته الذهبية، و قد اندس من بيننا، أحد المخبرين السريين، متهيئا له، بأنه قد وقف على سر منظمة سياسية باطنية. و قال علي متفاعلا: - و طارت المعزة الذهبية و بقيت على الحصيرة.. ! و اضطرب المخبر الغريب من هذا الروي المخربط، و تقدم الشاب الأسمر الملقب ب " فْليشّة دِي أورو" من الراوية علي مستعطفا إياه: - واحكي .. لنا .. السيّ علي عن خرافة المعزة الذهبية من البداية .. و تنحنح "علي بو معيزة" في فضاء جلبابه العريض، تنحنح كسياسي محنك في مستهل الخطاب،خطا، توقف، ثم سحب من تحت خيمة جلبابه عزبة مغربية من إنتاج " بو لعوان " ..، حمراء، غراء، لم تطأ الحرب ساحتها العذراء، و قلع خاتم رأسها الموسومة، مفرغا روحها الوثنية في جعبة حلقه قائلا: - إيه .. الله يرحم الوالد و يوسع عليه.. كان كاي يرمي العصا و كي قل لهل .. كن .. ! فتصبح بمشيئة المولى حية تسعى. و اغتنم هذه اللحظة الإعجازية أحد الأطفال الوسخين مذكرا: - أيْوَه و ذيك المعزة الذهبية؟ تنبه "علي بو معيزة" ضمنا، إلى تثاقل لسانه، و الخيال البطولي يجري في عروقه جريا، و قام بمحاولة خروج جديدة، متأهبا لمواجهة عالم الحكايات و الخرافات العجيبة: - آه .. ! المعيزة ديالي .. لقد كان عمري أيامها، ما يقارب الخامسة عشر سنة، كنت يومها في البيت وحيدا حين .. و سبحان الذي لا يموت.. ! و قاطعته " الزهرة الخضارة" خارجة من حيادها قائلة: - و هاد الشيء كان عرفوه .. ! استدار فيها " علي بو معيزة " كمن يؤنبها ضمنا، عن خيانة أسرار الشراكة السريرية، و عقب مخرفا: - نعم لم أستمع لوصية الوالد، و اغتنمت فرصة غيابه عن الدار، و أسرعت لفتح تلك الصندوقة التي أوصاني بعدم فتحها. و بالفعل فتحتها، و كان أول شيء تقع عليه عيناي بها، ذاك الكتاب السحري الذي كان يخفيه الوالد، كتاب الطلاسم و التحكم في قدر جن سليمان. و الأعجب من كل هذا أن ملك الأحرف الأبجدية نفخ علي من نَفَسِه، و إذا بي عالم يتكلم بكل الألسن البشرية و بكل الإشارات. و أشار ملك الوحي القرائي إلى ناحية المشرق و للحظة، طلعت صحيفة مكتوب عليها بالحبر الذهبي، النبطي الجاهلي :" التزم الصيام، و اقطع الكلام على باقي الأنام، و اتخذ الخلوة رفيقة، و ارحل عند الليلة الأربعينية، لدى بحر الهموم. و سر لغاية محاذاة شاطئه المبلول، و انتظر أن يفيض عليك القمر بفضة روائه، ثم بعد هذا الوضوء السماوي، اركع و صلي ركعتين، و عد إلى مكانك و انتظر. و لسوف ترى، و للكذب في بلد مثل هذا، كل عناوين الدعاية، سترى معزة ذهبية خارجة عندك من أعماق.. أعماق البحر، و لسوف تكلمك و تفشي لك بالسر الخفي، لفاتحة طلاسم كنوز دولة العالمين. و توقف فجأة عن الكلام و عاد ساحبا قنينته الحمراء من تحت جلبابه، سحب من فيها ما شاء الله، ثم استوى منتصبا من جديد و تابع خرافه: - و كان كما كان مكتوبا. نزلت إلى شاطئ البحر، واتخذت العزلة رفيقتي، و طبقت بالحرف الواحد وصايا كتاب الحكمة و سبحان الذي لا يموت ! سبحان الذي لا يموت .. ! و إذا بها حبيبتي المعزة "كنوز" تتجلى لي قائلة.. :" و ردد معي ما سوف أقوله لك و إلا.. هيا رَدِّد معي .." جيت نْخْبْشْ الخْشْبَة لكِن الخْشْبَة خْبْشْتْني .." ردد هذه العبارة عشرة مرات متتالية بعد سورة الرحمان، و كن رجلا غنيا، و إلا عادت الأمور إلى مجاريها، و عدت يا حبيبي علي مهزوما إلى كوخ أبيك بحي المصلى". و قدم من خلال الصمت الحكائي الرهيب صوت "الروبيو" منبها و متهكما: - و من فوقاش تَْعَلّمْتي تْقْرأ أبّا علي ؟ و أجابه علي بو معيزة منبها: - و الروبيو الخَرّاي، إنه " الرّوخو بو لعوان " ملاك القراءة من علمني. و استدار في وجوهنا مقهقها: - إيه .. عْلاش كنت كان نتكلم .. آه القْرايَة .. صافي من لما علمني ملاك الكتابة أسرار الحكمة، صرت كل ليلة أنام بحذاء الشاطئ، مثلما هو موصي عليه في الكتاب. و في الليلة الأربعينية خرج علي ملك البحر قائلا: - مالك السّي علي كل الناس ناعسين و أنت هنا كات سْطوبارْنا .. شْنّو كي خصك؟ و في هذه اللحظة الرهيبة من الروي المشوق لمتابعة الأحداث، أخرج المخبر كناشه و كتب فيه " ملك البحر" بين قوسين، طواه من جديد و أعاده إلى أسفل جيبه. و مضى علي بو معيزة غير منتبه لشيء في سرده الخرافي: - واش غادي نقل لكم ، ما كان غير قويت قلبي و رديت عليه .." وا بغيت الكنز أمولاي السلطان !". بغيت الكنز أمولاي .. تفو هذاك زمان .. و هذا.. تفو عليه من زمان ! و أعاد ذاك الطفل الوسخ السؤال من جديد: - و ديك المعزة اللي كات هْدار؟ استدار "علي بو معيزة" فينا جميعا، كمن يسخر من قلة خيالنا و من مصيرنا معا: - إيه أولدي تخضخض البحر لبضعة ثواني و تمخض عن معزة ذهبية، سبحانك يا مبدل الأحوال ! خرجت علي معزة ذهبية كات شعل، و جاءت راكضة نحوي و قعدت بين رجلي. و جاء معها كلام ثقيل صدى لملك البحر قائلا " ردد جملة خشبة الخشبة في أذن المعزة عشرة مرات و مرحبا بك في " لاس فيكاس". و إلاّ سلام الفقر عليك لبقية الحياة. و تنحنح من جديد و غمغم ما غمغم من زجاجته و عاد إلى شهية متابعة الخرافة: - قلت بأن ملك البحر مسكني من عنقي و قال لي منبها" اسمع أبا علي هاذ الكليمات اللّي كيخصك ترددوهم في آذان المعزة .. "جيت نخبش الخشبة ساعة الخشبة خبشتني .." و ما تقول غير سبحان الله .. و سر أولدي في أمان الله و رعايته. و كمن جاء من الغيب عاد ملك البحر إلى الغيب و بقيت وجها لوجه مع معزتي. و قاطعه صوت احد الأطفال: - أَيْوَه .. خْرَت عليك الشراب و الحشيش. و تداركت السيدة الخضارة الموقف مصححة : - وا مشي العايْل تْنعاس للطْرُنْبَة دْيْمّاك. و استدرك علي المجلس من جديد متابعا: - ملت على أذنها اليمنى و رحت منشدا محفوظتي الخشبية، و من جديد قاطعه صوت رجالي شديد الاقتراف: - وْ ْلْدت لْك الزلط السْكايْري .. غير أن الراوية علي بو معيزة لم يفطن لهذه القرصة المجازية الخفية راح في درب رويه: - و مشيت كنغني لها أنشودة الخشبة و أنا نْتْخَربْط .. حشا السامعين .. خربطت الخاء، بالشين و السين،بالتين و ما كان سبحان رب العالمين، إلا أن طارت المعزة عائدة على أعماق البحر و بقيت متفرجا لضياع الكنز الثمين. و في حين كان الروي قد بدأ فعله الخرافي في عيون السامعين، و في حين كان " علي بو معيزة " قاب قوسين أو أدنى من كنوز العالمين، إذا بالزهرة الخضارة تقفز خارجة من سلوتها قائلة: - وا سيرو لّي جانا جاه الخير و سيرو بحالكم " أ بنو آدم " و عاد علي بو معيزة لختام خرافته: - سبحانك يا مبدل الأحوال .. يا سبحانك .. ! و شددت الزهرة الخضارة على حسم الموقف: - و ا سيرو و خلو الراجل يرتاح .. و انتفض الجمع و تفرقوا في اتجاهات مختلفة و من خلفهم كان صوت علي يلاحقهم منشدا: - جَفْنُه عَلّم الغَزَل .. جَفْنُه.. دنيا .. تفو .. ! و أسدلت الزهرة الخضارة رداء دكانها الحديدي على الفضاء الداخلي، و مضى كل إلى سريره، و عادت الزهرة بعلي إلى حشمتها منتصرة ..