المغرب كنموذج تتكون كل المجتمعات من طبقات اجتماعية تختلف عن بعضها البعض بسبب عوامل ليست اجتماعية البتة بل اقتصادية وسياسية محضة. فوجود الطبقات الاجتماعية في أي مجتمع هو رهين بقرارات اقتصادية وسياسية، وليس رهينا بأي قدرٍ كما هو مشاع. ورغم أن الطبقية من ناحية ما تبقى حالة اجتماعية طبيعية عبارة عن تجسُّد و انعكاس ميكانيكي و مرآتي للأقدار على أرض الواقع، إلا أن يد البشر تتدخل بشكل فضيع في إيجاد وتكريس النظام الطبقي و الحرس بشدة على عدم زواله. "" في المجتمع المغربي كنموذج، يبرز النظام الطبقي بشكل واضح نظرا لتفاوت و اتساع الهوة بين طبقتين رئيسيتين هما اللتان يتكون منهما المجتمع. طبقة بورجوازية تسيطر على جميع موارد الرزق بالدولة: المال، السياسة، الموارد الطبيعية. و طبقة فقيرة بئيسة لا تملك قوت يومها و تشتغل تحت إمرة البورجوازيين من محتكري رؤوس الأموال، و وارثي كراسي الوزارات و الأحزاب، و المسيطرين على كل الضيعات الخصبة و الشركات الكبرى و منابع الفوسفاط و الرمال و باقي المعادن و الخيرات. كل هذه المعطيات أدت إلى ظهور هوة فكرية بين الطبقات الاجتماعية المكونة للمغرب كبلد. و الفجوة الفكرية كما سيتضح، هي و ليدة القرارات السياسية و الاقتصادية الاحتكارية التي يتمتع بحق تمريرها و المصادقة عليها في نفس الوقت تلك الطبقة التي تسيطر بشكل واضح على كل مصادر القوة بالبلد من مال و سياسة و جغرافيا و عِباد. لذلك يبقى أن نضيف بأن هذه الطبقة تملك حتى اليد العاملة، أو بلغة أفصح، تملك ليس فقط المال و القرار و الأرض بل حتى الناس الدين تمدهم الدولة ببطاقة الانتماء للوطن كي تتمكن من أن تكون عليهم دولة دون أن تعطيهم حقهم في الدولة و خيرات الدولة و جغرافية الدولة و سياسة الدولة مناصفة، ما عدا هوية لا محل لها في إعراب مستلزمات الحياة اليومية. وتتمثل الهوة الفكرية، أو ما يمكننا أن نسميه بالهوة "الفكرطبقية،" في كون تلك الطبقة الرفيعة التي يتشكل منها البورجوازيون ماليا و سياسيا و جغرافيا تختلف نظرتها للواقع و للوطن و للناس عن نظرة بؤساء مغرب اليوم الدين صاروا بفعل ممارسة متوالية لعوامل سياسية وإيديولوجية مقننة يتعايشون مع البؤس و الحرمان بمناعة عالية. الطبقة البورجوازية ترى المغرب مرتعا خصبا يجب ضمان العيش فيه بسلام كما لو أنه مزرعة تابعة لنفوذهم. و هي بدلك تنظر إلى الواقع من خلال تلسكوب برجوازي خاص بها حيث أنها لا ترى أبدا تلك "الجقلة" الكثيفة من بني البشر الأسفلين إلا كأشباح دورهم الرئيسي ليس هو العيش داخل حيز الوطن و الاستفادة من خيراته بل حراسة المكان و القيام بكل الأعمال الشاقة المستلزَمة بطاعة عمياء ودون أي تدخل في إرادة الأسياد، أو في موارد الرزق التي يبسطون نفوذهم عليها. وبدلك فان الآخرين ليسوا إلا عبيدا يشتغلون في مكان ليس ملكا لهم و لا هم ينتمون إليه. إنهم بالنسبة للبورجوازية مستخدمون مؤقتون حسب "مزاج" الماسترز و لا بأس في طردهم أو التخلص منهم في أي وقت كان، و حتى طحنهم بعجلات سياراتهم في بعض الحالات إدا ما اقتضى الأمر ذلك. أما الطبقة السفلى من المجتمع، فنظرا "للقهرة" التي عانت منها و لازالت تعاني منها بشكل أسوا و أفضع، فإن عينها لا تكاد تغفو عن الوطن، و همها اليومي هو الإصلاح و المساهمة بشكل فعال من اجل تحسين الوضع العام. هذه الطبقة المسكينة، لا تتشارك و الأخرى نفس المفاهيم حول الوطن، و المستقبل، و الحرية، و العيش الكريم، و دالك بسبب منطق الاختلاف الطبقي و ما ينطلي عليه من اختلاف في منهج التفكير في القضايا التي تهم الوطن. وهدا هو سبب حرص الطبقة العليا على اللعب ما أمكن و لأكبر مدة ممكنة بشعارات مؤثرة جدا في نفوس المحرومين مثل: المغرب أجمل بلد في العالم، المغرب سائر في طريق التقدم، لبلاد ولَّات مزيانا، القانون فوق الجميع، أنا مِير و نتَ مِير وشكون يسوك لحمير، حتى تخفي الفجوة الفكرية و الاختلاف المفاهيمي حول الوطن و ما يليه من مصطلحات و تبعات. إن الطبقة الكادحة همها و شغلها الشاغل هو مراقبة التطورات اليومية التي تحدث و يمكن أن تحدث في المستقبل القريب ببيوتهم، و أزقتهم، و أحيائهم، و قُراهم، و مدنهم. إنهم خائفون جدا من استمرار الوضع كما هو عليه، لدلك فهم يحلمون و يتحدثون عن التغيير، و المستقبل، و تحسُّن الأوضاع، ليل نهار، و لا يخلو لهم حديث من موضوع التذمر من الحالة العامة التي يقولون أنها "مْرونَة". و في الواقع يتوزع هؤلاء ما بين ساخط على الوضع، و متفائل بالمستقبل الزاهر، و آخرين لا يأبهون لما يحصل، أي أنهم "عايشين و السلام". تُرى بوجود هكذا فجوة فكرية في مقاربة مفهوم الوطن و المستقبل و الناس و دور الأفراد في تقرير مصير أوطانها و أبنائها، هل يمكن أن يكون حال بلد المغرب في المستقبل أفضل من اليوم. و ما هي إمكانات الاستمرار في التعامل فيما بين الطبقات البورجوازية الواعية بدورها الاستغلالي/الاستعماري و الطبقات الفقيرة التي غالبا ما لا تعي شيئا ولا تريد أن تعي شيئا سوى البحث عن عمل في ظروف لا إنسانية من أجل ضمان استمرار أبدانها في العيش مكسوة بقليل من العضلات و العروق الناتئة و النَّفَس الثقيل الذي أهلكه سوء التغذية و التبغ.