اختتمت أعمال اللقاء المفتوح مع المفكر واللساني التونسي الكبير الدكتور عبد السلام المسدي الذي نظمته شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة عبد المالك السعدي تطوان، يومه24 يونيو 2009، بحضور كثيف لنخبة من الأساتذة والمثقفين والمهتمين والطلبة، حجوا جميعا إلى فضاء قاعة الندوات ابتداء من الساعة العاشرة ونصف صباحا، وقد افتتحت الجلسة بكلمة رئيس الشعبة اللغة العربية، ومسير الجلسة د. محمد أمين المؤدب رحب فيها بالأعضاء المشاركين (د. عبد السلام المسدي و عميد الكلية د. عبد العزيز العلاتي وكذا نائبه د. عبد العزيز الحلوي) و بالحضور الكرام ، معبرا عن بالغ سعادته بهذا اللقاء التواصلي المهم مع د. عبد السلام المسدي الذي يؤسس لحوارية حميدة، بعدها أبرز قيمة الضيف على المستويات الأخلاقية والثقافية والفكرية... وقد اقتصر على ذكر أهم مظانه الأساس المتميزة بالتنوع والشمول عن طريق تقسيمها تقسيما معرفيا وتيماتيا في مجالات علمية متعددة: من لسانيات وسياسة وإبداع وأدب. أما الدكتور عبد السلام المسدي فقد انطلق منذ البداية بعد شكره للأعضاء المشاركين، والجامعة عموما إدارة وطلبة من تقرير الطابع التأملي المفتوح الذي يجعل من مداخلته أشبه بالخواطر منها إلى المشروع المكتمل التأسيس، والتي تستطيع أن تفتح ورشات تفكير قصد التطوير والتعميق، هذه "الخواطر" التي قدمها تحية للمؤسسة الجامعية المستضيفة، والتي استطاعت شأنها شأن الجامعات المغربية على امتداد ثلاثة عقود من الزمن أن تخلق إحساسا من الانسجام الثقافي الحاصل بينها و القطاع الجامعي العربي عموما. اختار الدكتور من الناحية المنهجية افتتاح مداخلته بتدقيق مفهومي للترسانة الاصطلاحية التي سيشغلها في مقاربة موضوع اللغة والهوية، معتبرا أن مفهوم اللغة يتميز بطابع الصراع الكوني اليوم، في إطار ما يعرف بالحروب اللغوية التي تتخفى وراءها خلفيات متعددة تمس وجودها ذاته حتى اضطرت منظمة اليونسكو مثلا إلى تخصيص يوم 21 فبراير يوما للاحتفال باللغة الأم. وفي السياق المفهومي نفسه عدَّ المسدي الهوية شعورا بالانتماء في الزمن الحاضر، جذوره تمتد في الزمن الماضي، وهي في ظاهرها تتحدد بالأنا لكنها في حقيقتها تحديد للأنا من خلال الآخر، وفي هذا الإطار العام أشار المسدي إلى مفهوم الدولة الوطنية التي فقدت ملامحها المميزة إذ بدأت تفقد القدرة على مواجهة ما أسماه بالسيالات القومية التي ليس إلا نتائج العولمة والمجتمع المفتوح. بعد هذا التأطير العام انتقل الدكتور وبكثير من الانفتاح والحرية التي أقرها منذ البداية، إلى بيان التحول الذي طرأ على طبيعة العلاقة الجامعة بين اللغة والهوية، إذ لم يعدْ الجسر الرابط بينهما حسب تصوره جسرا فكريا خالصا، وإنما اتخذت العلاقة بينهما أبعادا سياسية بامتياز الآن، فالمسألة إذن صارت ذات طابع لصيق بتدبير السياسة المدنية، وفي إطار هذا المشهد الكوني الجديد الدافع إلى البحث عن الخصوصية اللغوية العربية لاحظ الدكتور التباس موقف الذات العربية أمام موضوعة اللغة إذ أنها تعاني من انشطار الأنا إلى "أناءين": الأنا الحاضرة في الزمن في مقابل الأنا الماضية، وسوَّغ الدكتور سياق إثارة صفة الانشطار المرتبط بالهوية، بكونها نابعة عن غاية ضمنية هي تصور الأنا كما يجب أن تكون الآن، هكذا تتجلى الخصوصية الضمنية الواعية في قيامها على البحث في الزمن المتحقق لا الزمن كما يجب أن يكون، لذلك اعتبر عبد السلام المسدي أن مبحث " نحن والتراث " مبحثا لم يحتد إلا داخل الحضارة العربية، لذلك لا يطرح بالحدة نفسها عند الدول الغربية والآسيوية .. مثلا، إن هذه الثنائية حسب تصوره تتسم بالاختزال الظالم الذي تبرزه ثنائية مثل الأصالة والمعاصرة، وشدد الدكتور في هذا الصدد على أن تغير النقاش في شقيه الحاضر والغائب أدى إلى اختزال التراث إلى "جدولين" أسماهما جدول المعقول وجدول اللا معقول، كمشروع زكي نجيب محمود وغيره من المفكرين الذي صرح بهم أو لمح فقط، حيث عد مثل هذه الثنائية المسيطرة على ذهنية التحليل العربي ذات صلة حسب ملاحظته بنفس استشراقي، هكذا فإن ثنائية قائمة على مفهوم المعقول: الذي يعني عنده إثبات شيء بذكره ، ومفهوم اللامعقول: الذي يقوم على تسمية الشيء بما ليس فيه فهو على عكس سابقه قائم على النفي/ نفي العقل، إن مثل هذا التفكير الثنائي القيمة حسب تصوره يستضمر باطنيا لعبة من لعب السفسطائية الكلاسيكية التي تخفي صراعا زائفا مستورا كأنه دبر في ليل،والامر نفسه يمكن ان يقال حول ثنائيات أخرى قائمة بدورها على هذا التضاد الزائف عينه، وهي ثنائية العقل والنقل، فلا وجود للتعارض بينهما قائم بين طرفي هذه الثنائية حسب المسدي دائما خصوصا ونحن لا نستطيع أن نتصور عقلا منقطعا عن النقل كما لا نتصور نقلا منقطعا عن العقل، فجوهر التفكير منطلقه قائم حسب هذا التصور من النص، فكيف استطاع د. المسدي اقتراح مشروع حل لهذا الإشكال المانوي الذي حكم بنية العقل العربي طويلا في رؤيته إلى التراث والحداثة والهوية والغيرية والأنا والآخر والمركزية والهامشية... في علاقته بإشكال اللغة والهوية؟؟ انطلق عبد السلام المسدي مما عدّه من المسلمات القاضية بأن الحضارة العربية هي حضارة نص، والمنظومة المعرفية التي تتيحها الحضارة العربية هي محكومة بهذا النص، فالعلوم الأولى التي انطلقت منها هذه الحضارة هي ثمرة تأمل لا في النص مطلقا وإنما في نص النص، والتي عدها منطلقا للتراث نفسه، فالنص الذي ليس إلا القرآن الكريم في كليته محكوم بمصادرتين: مصادرة الإيمان بما تقتضيه من تسليم، ومصادرة الإدراك المتضمنة لوعي العاقل لما يعقله، وداخل النص نفسه تتوالج المصادرتان تسليما وتدبرا، إن مثل هذه المسلمة التي أسس لها تعد عنده منطلق المساءلة التي تبتغي فهم الحضارة من خلال النص... ويسترسل المسدي معتبرا أن الثمرة المنهجية التي يمكن قطفها من هذا التقسيم هو الانطلاق من دائرة الإيمان بما يقتضيه العقل، أو الانطلاق لرؤية الوجود مما يقتضيه العقل دون إلغاء للإيمان، هكذا يتبدى حسب تصوره ظلما زائفا واختزالية مخاتلة لمثل هذا التفكير الثنائي القائم على الإقصاء والتصادم، داعيا إلى موقع متوسط بينهما بحيث لا تتعارض هذه الثنائيات في صدام محتدم بقدر ما ينسجم الإيمان والعلم في صعيد واحد، لكن مثل هذا التصور فرض على الدكتور المسدي طرح إشكالية حدود العلاقة القائمة بين الثقافي والديني. إن إشكال العلاقة عنده قائم على اعتبار سلطة الموروث الثقافي أقوى من النص الديني، هكذا تتبدى الهوية إحساسا يترجم إحساس الإنسان للانتماء، وهي حاجة إنسانية بالمفهوم ابن خلدون للطبع، إنها صورة تنتمي إلى رغبة الاحتماء أو غريزة البقاء أو حب النوع بالتعبير الخلدوني، فاحتماء الفرد بالجماعة إذن يفرض عليه الخضوع لهويتها، هكذا تتبدى الحمولة التاريخية لمفهوم الهوية، وبالتالي فهي ليست موضوعا علميا حقا خاضعا للتحليل الجيني البيولوجي، بل الهوية في طبيعتها ذات قيمة ظنية رمزية كبرى، لكنها على مستوى التلقي العربي تؤخذ بشكل يقيني، إن الإشكال يكمن في هذا الخلط الذي لا يراعي انبناءها على أربعة أركان أساس تتحكم في تكوينها، وهي: 1 العرق: أي الانتماء السلالي، 2 المعتقد الديني، 3 اللغة، 4 المكان. يقرر المسدي إن التاريخ هو المتحكم في تغير عناصر الهوية، فمثلا ظهور القومية العربية احتفظت بالعرق واللغة والمكان وغيبت المعتقد الديني، والأمر نفسه يمكن أن يقال عن الدولة الوطنية التي أقامت الهوية على الأرض والتاريخ والمصير المشترك وغيبت عنصري الدين واللغة، مما ضيع عليها فرصة خلق هوية فعلية منفتحة، وانطلاقا من الخلفية نفسها يمكن أن نقرأ عن طريق الحفر السوسيولوجي القومية الجاهلية التي جمعت العرب والقائمة على العرق والأرض والمعتقد الوثني واللغة المشتركة. هكذا كان العرب القدماء خاضعين لهذه الهوية الكبرى حتى جاء ما أسماه حدث النص الذي قام بخلخلة المعايير المرجعية للهوية، إذ أن خطاب النص موجه رساليا للعالم بوصفه مشروعا كونيا. وهنا حددت اللغة بوظيفتها الإبلاغية ومن ثمة فإن العرب تخلصوا منذ القدم من مركبات الاستعلاء المستمدة من الهوية الموروثة بغض النظر عن النعرة العربية التي استشرت في مراحل تاريخية لظروف سياسية معينة. وفي هذا السياق نفسه استحضر نماذج مشعة من التراث التي اشتغلت على تخليص الدرس اللغوي من الأسطوري والمتعالي مثل ابن حزم في رده على جالينوس أو مما يستنبط من من مظان عبد القاهر الجرجاني. وبعد هذا التطواف النظري الذي طبعته طلاوة بيان وفصاحة لسان الدكتور المسدي بسحر خاص، اعتبر موقع النظر هو المحدد للرؤية العلمية تجاه موضوعة اللغة فإن كان موقع النظر من داخل دائرة الإيمان نحو دائرة العقل، تكون اللغة العربية أفضل اللغات والعرب بالتالي خير أمة أخرجت للناس، أما إذا كان انطلاق النظر من داخل دائرة العقل نحو دائرة الإيمان فإن العرب ولغتهم حسب ما يقتضيه تصور الباحث ليسوا أفضل الأمم، وهنا يوضف الكاتب ثنائية النشأة والاكتساب للفكاك من هذه المعضلة النظرية، حيث اعتبر أن تكريم اللغة العربية وأفضليتها لا تكمن في النشأة أي في أصل تكونها وإنما بالاصطفاء والاكتساب الذي أخذته اللغة من تطورها في التاريخ، فأفضليتها ليست بأفضلية محايثة وإنما أفضلية مفارقة فالمعجزة الأرقى هي اللغة والنطق، والتعدد اللغوي هو الإعجاز المطلق، فاللغة العربية شأنها شأن كل اللغات كما قرر الباحث في النهاية دون ان يسقط في مزلق المفاضلة كُرمت بالاصطفاء فأصبحت كريمة بالاكتساب، كما ان العرب كرموا بالاصطفاء فكانوا بالاكتساب والمجهود الإنساني أفضل الأمم. في ختام عرضه الذي اتسم بطابع مفتوح بعيد عن مقتضيات النسقية المحكمة التي تفرضها الضرورة الميتدولوجية بصرامتها الأكاديمية الصرف، دعا عبد السلام المسدي إلى تفكير مفارق عن المتعالي في اللغة بالتركيز على الاكتساب حتى تستعيد اللغة وقومها أفضليتهما المفقودة بين الأمم والحضارات.