لم تكن تدري أنها على موعد معه... سمعت عنه ...قرأت عنه ... كتبت عنه .... كلما أوغلت في المكان وبين الإدراج تلبستها حالة ذهول لم تعهده من قبل ...ذهول ليس كما الذهول ... من قال إن قاموس تعبير المصطلحات واحد؟؟ اليوم تراهن على قاموس متنوع حسب الإحساس ... حسب التجربة ... تجري من ممر إلى ممر وتفتح فتحا غير مبين ...ثم تعود لتعيد الفتح ... فتبدو الصورة ... تقريبا ... تتفحصها ... تعبس ... تتنهد بطريقة غريبة ... تكتشف هي أن التنهيدة فيها من التنوع ما يجب أن يتلقفه القاموس الجديد للتفسير ... تنهيدتها تلك اللحظة فيها حشرجة ...وصوت ولحن جنائزي ... أقفلت ذاك الدرج بشدة حتى سمع ذّوي ارتطام الحديد بالحديد .... ظنت للحظة أنه سيفله... تلك الضجة أفزعتها بشدة ... وها هي تكتشف مرة أخرى أن الإحساس بالفزع ليس على قدر واحد ... فزعها اليوم فيه شيء من الطنين في الأذن وحركة غريبة في القلب وأشياء أخرى لا تستطيع التعبير عنها ... ها هي تكتشف أنه ليس لكل شيء تفسير وشرح ... تقول وهي المثقفة الثقافة العربية المعمقة أنه من غير المستبعد أن تبقى أماكن فارغة في القاموس ...يكتب على صفحاتها : لا يمكن الشرح : حالات إحساس خاصة ... تقدمت إلى الأمام واختارت درجا آخر فتحته على طوله كأنها تتحسس نهاية الأشياء التي بداخله وهي تعلم أنه يكفيها نظرة واحدة على بدايته لكي ترتوي كل أنهار تساؤلاتها ... أقفلته دون أن تنظر إليه كاملا ...وفتحت الدرج الآخر ...ثم تذكرت أنها لم تتفحص الدرج السابق فعادت إليه وفتحته بحذر وكأنها تنتظر المفاجأة ...تسحبه ببطء شديد وكأنها تستبطئ الكشف ...كأنها تعد نفسها ونَجهزها للمشاهدة ...تعرف أن عليها أن تستعمل طرق التنفس البطيئة التي تعلمتها في دروس اليوغا إبان استعدادها لمولودها الأول ...لكنها نسيت كل شيء ...تكاد تتقطع أنفاسها ... لا تريد اللحظة إلا بعضا من أوكسين فقط لا غير ...تريد الآن أن تبقى على قيد الحياة ليس إلا ... تكتشف في هذه اللحظة المذهلة والصعبة أن كل وسائل الإسعاف الأولية والثانوية لا حاجة لتعليمها ما دامت اللحظة هي سيدة التقرير والتدبير .... اللحظة وحدها سيدة المقام ... انفرج الدرج عن سواد وحمرة وبعضا من الزرقة ....لكنها لا ترى لحظتها غير السواد ....ومرت على شريطها التحليلي وهي في هذا الحرج لتكشف أن الألوان تتمازج للرؤية في بعض الظروف ...العين هي هي والرؤى تختلف ...والالوان تتغير ...عليهم ان يكتبوا في القاموس عند شروحات الألوان عبارة (حسب الحالة) .... كادت تنسى ما جاءت من أجله وهي تبحر في عالمها التحليلي ... لكنها مذهولة بهذا الكشف ... لحظات كانت كافية أن تغير سنوات من البحث والتحليل والتفسير ... تكاد تقتنع أنها الآن خريجة كلية علوم تطبيقية وليس كلية الآداب واللغات .... ثم سافرت ....... بذهنها .....إلى المعمل .... حيث الأدوات ... والمواد ....و....و....وتكتشف للحظة انه قاصر ومقصر ...المعمل الجامعي قاصر ....معمل التجربة المصطنعة يتلاشى مع معمل التجارب الحية الطارئة ... تنظر في ذاك الأسود مليا ....تتملى ... يتبدى لها الأحمر شيئا فشيئا ....ثم الأزرق الضارب للبنفسجي ...قربت كفها لتتلمس ...فصعقتها البرودة الشديدة وكأنها تيار كهربي ....تراجعت إلى الخلف مذعورة ....انقفل الدرج لوحده ... فزعت ....جحظت عيناها ....وسافرت ...كأنها اليوم على موعد مع الاسفار ....تذكرت كل روايات الرعب التي قرأتها ....وأفلام الفزع التي شاهدتها ... والأشباح ...وعالم الجن .... تعوذت بالله من الشيطان الرجيم .... وتصبرت ببعض آيات من الذكر الحكيم .... ليس لهم سلطان عليكم ....أحست بشيء من الطمأنينة .... وكررت الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ....وأعادت فتح الدرج ..... ربما مستلقيا على ظهره هو .... تشجعت وقلبته الى الجهة الأخرى ...ثم إعادته إلى الجهة الأخرى ....لا شيء تغير ....تشابهت الجهات والممدد واحد .... ليست ترى الآن سوى الألوان وبعض بقايا ثوب ... قميص....قميص يوسف ...كأنه هو ....جذبته ... قربت وجهها إليه تتفحصه ... كانها ريحه ....بل هي ...تعرفه ...ليست رائحة الدم تلك ....أكيد ريح يوسف ....تكاد تناديه .... تكاد تحدثه .... تكاد تسمعه ....وسرحت ....سافرت مرة أخرى ....سفرا بعيدا ..... بعيدا ..... تخيلت نفسها على الأرائك .... البسط ....الحرير ...الزبرجد ....وهو أمامها يبتسم .... فابتسمت تلمسه ....ضحكت ....قهقهت ....دخل حارس المشرحة جاريا ....جذبها من طرف جلبابها بعد أن ناداها ولم تستجب .... تبعته ضاحكة .... هاشة ....يعلوها نور .... وصلا إلى مكتب الطبيب الرئيس ....وحارس المشرحة يضرب كفا بكف .... فهم الطبيب أن مريم قد إصابتها لوثة عقلية ... همس له بحذر : ستكون بخير بعد حين .... سمعتهم هي ....نطقت مبتسمة : باركوا لزوجة الشهيد ... انتهى اليوم ولم ينته المشهد