عند قراءة رواية خريف العصافير للأديب خالد أقلعي؛ ينتابنا فضول تجنيسها أهي رواية تقريرية؟ أم تقرير روائي؟ بالرغم من تجنيسها من طرف الكاتب على مستوى عتبة الغلاف؛ لما فيها من تواريخ مضبوطة باليوم و الساعة و تقارير الشرطة... لقد حاولت الرواية على المستوى النصي الإفلات من قيود الجنس- ربما بحثا عن التجديد- لما فيها من منعرجات تدخل القارئ إلى متاهاتها لينتقل إليه شيء من حيرة جعفر وهمومه؛ حيث تعمد الكاتب كتابة هذه الرواية بسياقين متوازيين.. سياق مباشر وسياق يكمله القارئ مما ينتج معنيين يأتي بأحدهما الكاتب بشكل مباشر.. والثاني يستنبطه القارئ لملء تلك الفجوة التي حدد حدودها؛ وبين تخومها. من طبيعة السرد الروائي أنه مجموعة من الأحداث المتخيلة تديرها مجموعة من الشخصيات الوهمية المؤهلة فنيا لمحاكاة شخصيات حقيقية؛ تقدم عالما يقصد من وورائه خلق محاكاة مصنوعة للواقع الحقيقي. وفي رواية خريف العصافير تبدأ معاناة القارئ بفك لغز هذه الشخصيات وتتبع أدوارها في المشهد الروائي على اعتبار أن هذا المنجز السردي هو كتلة من المستويات اللسانية التي تعكس الفكر و المشاعر؛ حيث استطاع الكاتب أن يأتي بلغة متحركة تنمو وتنهض على حركية الأفعال؛ نشعر بأنه يبني الرواية على المستوى اللغوي بالموازاة مع البناء المحكم للشخصية "التكفيرية" المتمثلة في جعفر/الممثل الشاب المقهور نفسيا وجسديا؛ بسبب ما تعرض له في حياته الأسرية والاجتماعية من قهر من طرف زوجة أبيه " العقربة" التي قتلت فيه روح الطفولة بكيدها وحقدها عليه؛ مما دفع به إلى هجر البيت والارتماء في أحضان دعاة الفكر التكفيري المتطرف الذي يزين له الحياة الآخرة؛ بأساليب خادعة تبين له أن حوريات الجنة تنتظره بعد كبسة زر؛ يفجر من خلالها نفسه ويؤذي غيره من الناس الذين يعتبرون في نظر هؤلاء المتطرفين كفارا ينبغي الجهاد فيهم وقتلهم شر قتلة. إن جعفر الشخصية الرئيسية في الرواية يعيش أزمة ثقة في النفس؛ لا يمتلك قراره؛ ومصيرُه معلق بيد من يجترحون له شخصية متطرفة لها نسق تفكيري متحجر؛ يصدق دعاة الفكر المتطرف الذي يريد تخريب عقول الشباب/العصافير ويعجل بخريف عمرهم. ومما زاد في تأزيم الشخصية الروائية في خريف العصافير هو عدم قدرة جعفر على امتلاك قلب حبيبته "فنة" الفتاة التي عشقها مند الصغر وتعلق بها لى درجة الهيام؛ كل هذا عجل به إلى الارتماء في أحضان الفكر التكفيري المعادي للمجتمع الحداثي التنويري؛ حيث "بدأ يُعد نفسه لحريق الشيخوخة وعللها" واستعداده لتفجير نفسه في فندق النخيل طمعا في نعيم الآخرة الذي افتقده وحُرم منه في الدنيا. وفي مجمل حياة النص الروائي تتداعى مجموعة من الذكريات التي بدأت تمر عليه وهو يمشي على حافة السطح مقلدا العصافير ومنشدا أغنية حبيبته" فنة" " ياعصفوري الجريح؛ كسر حلمك عناد الريح" ومن حين لآخر يعود السارد إلى المخزون الذاكري ليسرد طفولة جعفر المقهورة فيصوغ هذه الذكريات في شكل مونولوج داخلي فيه كل الإحالات النصية السابق منها واللاحق. كل هذه الأحداث تسير بشكل مُتواز بين ما هو نفسي وما هو لغوي؛ كلما اشتدت وتأزمت نفسية جعفر تأزمت معها الجملة الروائية؛ فيأتي السرد في شكل جمل قصصية طويلة يتطابق فيها اللفظي بالمعنوي؛ في حين تقصر الجملة الروائية عندما تنفرج نفسية البطل؛ فتأتي الجمل السردية لينة؛ مائلة إلى اللغة الشعرية الشيء الذي ينفي استقلال النص الروائي و انقطاعه عن خارجيات نصية أخرى "..وهي ترفل في فستان عرسها الأبيض الطويل.." ."...فبدت أشبه ما تكون بأميرة أندلسية متوجة" وهكذا تنبني الرواية بشكل متواز بين بناء الشخصية التكفيرية المتأثرة بالأفكار المتطرفة البعيدة عن الإسلام الحنيف؛ و بناء اللغة الروائية؛ فكلما تأزمت الشخصية الروائية وتصعدت؛ كلما تأزمت معها اللغة الروائية؛ وكأن السارد يعيش وراء شخصية البطل ويشعر بما يشعر به؛ حيث نفسية جعفر هي النواة الصماء التي ترفع من وتيرة اللغة؛ بمعنى أن السارد له وعي تام بعلاقة اللفظي بالمرجعي؛ أي بمرجعيات الفكر التكفيري؛ وما عليه إلا إعادة بناء هذا العالم المرجعي ورسم صورة تمثيلية له في مساحة الرواية. ومن حين لأخر نلاحظ بأن السارد ينسحب من لعبة السرد فاسحا المجال لصوت شخصياته لكي تؤدي الوظيفة السردية؛ وتهدف هذه التقنية إلى إرساء قواعد جديدة للكتابة الروائية؛ تراهن على تعدد زوايا النظر لأفق يبحث عن صياغة ممكنة تستوعب هذا التعدد؛ وهكذا يخبو صوت السارد وتطفو أصوات أخرى تقدم الأحداث من زاوية مختلفة مثل صوت الجدة؛ العقربة؛ السي علال؛ فنة؛ مراد ...هذا الأخير الذي قدم نفسه في الرواية على أساس أنه العاقل الراشد؛ وهو في الحقيقة ينوي الشر لجعفر ودفع به إلى ردهات السجن عندما اتُهم بسرقة معرض الأمان للسلع... هكذا ومن حين لآخر تتمدد مساحة الرواية ويتسع فضاؤها؛ لتأخذ معها القارئ وتجول به في سراديبها التي يعقد فيها السارد جلسات سرية لا يعلم خباياها إلا الأديب خالد أقلعي.