رواية «خريف العصافير» للكاتب المغربي خالد أقلعي "خريف العصافير" رواية صدرت عن منشورات باب الحكمة بتطوان سنة 2014، في طبعة مغربية أنيقة. صمم غلافها أحمد البقالي ورسم خطوطها عبد الخالق الطلال. ولقد حازت هذه الرواية على الرتبة الأولى لجائزة محمد الحمراني. تتألف الرواية من ستة فصول، تتراوح بين التسجيل الكرونولوجي والعناوين المفردة. لكن القارئ للرواية يدرك أن هذه العناوين هي بمثابة خارطة طريق للقصة، لأن السرد الروائي ينحو منحى ملفتا في تكسير خطية القصة، وفق حبكة خاصة. سلاسة الاسترجاع ما يلفت الانتباه في الرواية هو هذا الكم الكبير من الأحداث المسترجعة، عبر مقاطع تتناوب مع التسلسل القصصي . لكنها تدمج برهافة ومرونة تزيل كل توتر ناتج عن الانقطاع. مع توالي الصفحات والأحداث تكتسب المقاطع الاسترجاعية قدرة إقناعية، وتدفع في المقابل إلى التفكير في وظائفها الأخرى غير وظيفة التكسير. هذه الاسترجاعات تخلق أولا سببيتها الخاصة، لأن كل تذكر ينطلق من أحد محفزاته في الحاضر، سواء تعلق الأمر بالقول أو بالفعل أو بالمشهد. ثانيا، تصبح الشخصية ذات ذاكرة تاريخية، مما يمنحها كثافة وتعددا، كما يتأسس بفضل ذلك هامش واسع من الأسئلة، يتجاوز البعد الفردي في التجربة إلى بعدها الاجتماعي والتاريخي.. ثالثا، يعمل هذا الإدماج للمقاطع الاسترجاعية على تحرير السرد من صلابة الأحادية الخطية، لينفتح الباب أمام تدفق الذاكرة بحرارتها الإنسانية وشروطها الاجتماعية. وهذا ما ساعد في نفس الوقت على تسليط الضوء على ماضي الشخصيات، وخاصة بطل الرواية (جعفر)، في طفولته وظروفه الأسرية الصعبة وعلاقاته بالأصدقاء ، فضلا عن محيط العمل ومغامراته العاطفية وأحلامه وطموحاته ومواقفه. رابعا، يقوي تجاور التذكرات مع محكيات الحاضر من البعد التزامني. وهو عمل يوقف الاستمرارية لمصلحة التأويل القرائي. كما يعمل على تقريب المسافة بين الأسباب لتشحن الأفعال بشروطها وتزند في كل مرة حضورها وتوترها. في الفصل ما قبل الأخير والمعنون ب (مكتب التحقيقات الجنائي)، تدلي ثمان شخصيات بوجهات نظرها في بطل الرواية جعفر، نابشة في سلوكه وبعض مواقفه وأفعاله، حسب نوعية العلاقة التي تربط جعفر بهذه الشخصيات. تتشكل هذه الشهادات مثل مروحة متعددة الأوراق، تجمعها دعامة واحدة. لقد ساهمت هذه المنظورات في تعميق وتوسيع دائرة فهم الشخصية الرئيسية، كما ساهمت في الدفع بالسرد جهة الكثافة والحد من جموع سطرية القصة. مسار القصة يتجه جعفر إلى فندق النخيل، قاصدا حلبة الرقص وهو يحمل حزاما ناسفا. تتوالى المشاهد أمام عينيه فيستنكرها استنكارا، ساعيا في كل خطوة إلى الاقتناع بما هو مقبل عليه. في آخر لحظة، قبيل القرار الحاسم، سيلتقي بصديقته القديمة (فنة). عندئذ ينقلب كل شيء في ذهنه رأسا على عقب (لكن رموشا سوداء عزيزة تصعقه؛ تقترب مخترقة كيانه إلى أعمق الأعماق...فنة) ص13. ينجرف جعفر مع نداء الحب والحياة فيتخلى عن مسعاه. لكن مفضل صديقه سينفذ المهمة ويفجر نفسه في مكان قريب من فندق النخيل. عندما يهرع جعفر إلى مكان التفجير لاستطلاع الأمر سيتم إلقاء القبض عليه. إنه الحدث الثاني الرئيسي في مسار القصة، لأن كل الأحداث الأخرى والاسترجاعات تنطلق من غرفة الإنعاش بأحد المستشفيات. الحدث الرئيسي الثالث هو خروج جعفر من المستشفى وهو يعاني من فقدان الذاكرة. لقد كانت فنة بجانبه، تسعفه بأجمل الذكريات وتفتح أمامه أبواب العالم ليتهجى حروف الحياة. بدأ جعفر خطواته الأولى باستعادة أغنية قديمة كان يرددها مع "فنة". بل يصل به الأمر إلى حالة من التماهي مع الأغنية، ممثلة في طائرها الذي يتوق إلى الحرية (عيناه مشتعلتان فرحا مجنونا وذراعاه مشرعتان عن آخرهما لعناق الفراغ...وبينا شرعت رياح خريفية خفيفة تعبث بأطراف قميصه المفتوح، كان لايزال يردد بصعوبة وانتشاء أغنية حبهما المأثورة: " يا عصفوري...الجريح...كسر حلمك...عناد الريح". ص 166 "خريف العصافير" رواية متعددة الأصوات واللغات، توظف حبكة خاصة في سرد القصة عبر تكثيف الاسترجاعات التي تفجر أكثر من وظيفة في تجاورها وإبدالاتها مع سرد الحاضر. إنها بعبارة أخرى ذلك المضمون الذي يفجر شكله الجمالي الخاص. في النهاية فإن أنشودة الحياة هي التي تنتصر، طاقتها هي الحب والبساطة والجراح الاجتماعية نفسها. *كاتب مغربي