توطئة: يستوجب تحليل الرواية وتفكيكها بنيويا وسرديا دراستها عبر مستويين: مستوى القصة (Histoire) ومستوى الخطاب(Discours).ومن ثم، يتضمن مستوى القصة الأحداث، والشخصيات أو القوى الفاعلة، والفضاء بمعطياته الزمانية والمكانية.أما الخطاب السردي داخل الرواية، فينكب على دراسة الملفوظات اللغوية، وتحليل المستويات السردية من منظور ، ووصف، وزمن، وصيغة، وبلاغة، ومعمار. بمعنى أن المكونات القصصية تتكلف بها السيميوطيقا السردية. في حين، تهتم البنيوية السردية أو علم السرد (Narratologie) بدراسة الخطاب أو الشكل الذي يرد عليه المتن الحكائي. وإذا كان جيرار جنيت (Gérard Genette) ، باعتباره بنيويا سرديا، ، قد حصر الخطاب أو الشكل في ثلاثة محاور كبرى [1]، وهي: الرؤية السردية، والصيغة، والزمن السردي، فنحن سوف نوسع قدر الإمكان هذا التصور السردي الجينيتي، وذلك عن طريق إضافة محاور أخرى لها أهمية كبرى في تشكيل الخطاب السردي، مثل: الوصف، والصورة السردية، واللغة، والمعمار السردي. ومن ثم، فقد اخترنا لتطبيقنا البنيوي السردي رواية:” أبواب موصدة” للروائية المغربية آمنة برواضي[2].إذاً، ماهي مقومات الخطاب السردي في هذه الرواية بناء ومنظورا وصيغة ووصفا وبلاغة ولغة ؟ وماهي مجمل الوظائف التي تتضمنها هذه المكونات الخطابية إن دلالة وإن شكلا وإن مقصدية؟ هذا ما سوف نركز عليه في هذه الورقة التي بين أيديكم. المنظور السردي: يستند المنظور السردي في رواية :” أبواب موصدة” لآمنة برواضي إلى الرؤية من الخلف أو المنظور السردي من درجة الصفر، وذلك لوجود ضمير الغائب، والرؤية المطلقة في المعرفة ، والتي تجمع بين المعرفة الخارجية والمعرفة الداخلية النفسية. بله عن غياب السارد وحياده .أي: إن السارد في هذا المنظور السردي لا يشارك شخصياته في بناء الأحداث حدثا حدثا. وهكذا، تستهل الساردة روايتها بإعلان رؤيتها السردية التي تتمثل في الرؤية من الخلف، بتشغيل ضمير الغائب، والالتزام بالحياد والموضوعية الموقعية:” الساعة تقترب من الخامسة مساء، السماء ترتدي رداء رماديا، يميل إلى السواد، معلنا قدوم الليل، بدأ السكون يحل بشوارع المدينة الصغيرة، لتنام الحركة داخل شوارعها وأحيائها، كما ينام سكانها في هدوء معتاد.[3]” بيد أن الساردة تنتقل من الرؤية من الخلف إلى الرؤية من الخارج، حينما تتحول إلى كاميرا خارجية تلتقط تفاصيل الآخرين.بيد أنها لا تلتقط الأحداث إلا بصعوبة ومشقة ومعاناة، بسبب بعد الشخصيات عنها، وعدم امتلاك معرفة ملائمة ومناسبة، تمكنها من الإحاطة بالشخصيات من جهة، والإلمام بتفاصيل الأحداث من جهة أخرى.لذلك، تكتفي بمرويات الآخرين، دون نقدها وغربلتها وفحصها، والاكتفاء بشهاداتهم الشخصية كما ترد إليها، دون استكشافها وإخضاعها لمحك العلم والنقد والتوثيق:” عدة تساؤلات لم تجد لها جوابا، استمرت شاخصة ببصرها تلاحقه، مسرعة بنظراتها، متتبعة خطواته العريضة، وهو ينزل الشارع.كانت حيرته تتجلى من حركاته، على الرغم من الظلام الذي يحجب عنا الرؤية بشكل أكثر وضوحا. حتى الضوء الذي ينبعث من المصابيح التي في أعلى الشارع كان ضئيلا، لا يكفي لوضوح الرؤية. أما عن المصباح المقابل لبيتهم، فقد تلاعبت به حجارة الصغار، وتكسر زجاجه ككل مرة، هؤلاء المشاغبون الصغار لا يحلو لهم اللعب إلا بالحجارة، ورمي الزجاج.”[4] وعليه، نسجل حضور الرؤية من الخارج بكثرة في هذه الرواية الوثيقة أو الشهادة أو الأطروحة؛ لأن الساردة لا تنقل الأحداث مباشرة على لسان آمال، بل يكون هناك دائما وسيط بين الساردة من الدرجة الثالثة والواقع المنقول، فقد يكون زوجها خالد راويا وسيطا، وقد يكون ذلك السارد الوسيط أحمد أو نعيمة أو صاحب المقهى. أي: هناك وساطة سردية تتكفل بنقل الأحداث إلى الساردة، باعتبارها منسقة عامة للأحداث، ومبلغة لها. زد على ذلك، تكون الساردة من الدرجة الثالثة (آمال) في كثير من الأحيان عاجزة عن معرفة الأحداث مباشرة، وبشكل واضح:”إذا بها تراه واقفا مع ذاك الشاب يتحدثان، كان صوت هذا الأخير مرتفعا، يصل صداه إلى مسامعها، لكنها لم تتمكن من معرفة ما يجري بينهما من حديث. حاولت جاهدة، وهي ترهف سمعها لتصل إلى مسامعها بعض الكلمات، علها تنسج بواسطتها ، وبمساعدة من خيالها الواسع، رواية أو قصة تتخيلها حقيقة ما يدور بينهما لتشيع بذلك فضولها الزائد.[5].” وعليه، تبقى الرؤية من الخلف هي التي تؤطر القصة بشكل عام، أما الرؤية من الخارج فهي تنويعة من تنويعات الرؤية السردية الموجودة داخل النص السردي والقصصي. ومن ناحية أخرى ، تحضر الرؤية من الداخل، أو الرؤية “مع”، أوالرؤية المصاحبة، وذلك عبر قص أحمد الذي تحول من شخصية مؤطرة إلى شخصية ساردة ومشاركة في الحكي:” كنا خمسة إخوة، ننعم بالهدوء والرعاية مع أمنا وأبينا، لم يكن دخل الأب يسمح لنا بالعيش على نمط الأغبياء المترفين.لكن الحمد لله الأب يملك منزلا ورثه عن أبيه، وهو يضمنا بين جدرانه، بالإضافة إلى قطعة أرض على جانب الطريق المؤدي لمدينة بركان، تدر علينا بعض الرزق الذي يساعد على الحياة المستورة.[6]” وتأسيسا على ما سبق، يلاحظ أن ثمة راويا رئيسيا يتحكم في توجيه دفة السرد ، معضدا بمجموعة من الرواة والسراد، يحكون قصصا فرعية ، وذلك في إطار آلية التضمين أو التناسل السردي، كأحمد ، وصاحب المقهى، وخالد، ونعيمة، وآمال.ويعني هذا أن الكاتبة تستفيد بشكل من الأشكال من تقنيات الرواية الحديثة من جهة، والرواية البوليفونية عند ميخائيل باختين من جهة أخرى. هذا، وتقوم الساردة في الرواية بمجموعة من الوظائف، من بينها: الوظيفة السردية، وهي الوظيفة الأولى والوظيفة الرئيسية من تواجد الساردة، حيث تعمد الراوية إلى الحكي والسرد أولا، ورواية المحكيات بطريقة مباشرة ثانيا، واستكشاف الأحداث بواسطة مرويات الغير ثالثا. علاوة على ذلك، نجد وظيفة التنسيق، حيث توزع الساردة الكلام بين الشخصيات بشكل تناوبي، وتنسق بينها بطريقة محكمة، دون أن ننسى الوظيفة المرجعية التي تتمثل في نقل مشاكل الواقع بكل تناقضاته السلبية ، كمشكل الأطفال القاصرين، ومشكل تفكك الأسرة، ومشكل الهجرة السرية، ومشكل الفقر، ومشكل الجهل، ومشكل الاغتراب الذاتي والمكاني، ومشكل الوحدة والفراغ…كما توجد الوظيفة الانفعالية التي تتمثل في الجمل المحاكية ، وتأوهات آمال، وتمزقاتها النفسية، وصرخات زوجها خالد:” آه ياحبيبتي! كم تألمت لما حل بأسرة أحمد.إني أرى في الفقر عدوا يعمل على ضياع طاقات الشباب وقدراته الإنتاجية بشكل كبير.[7]” وهناك أيضا الوظيفة التأثيرية ، حينما تقنعنا الساردة ذهنيا بقسوة الواقع ، وتؤثر فينا وجدانيا، بغية التعاطف مع شخصيات الواقع المرصود، أو حينما تريد تبليغ رسالة ما:” إن الآباء من هذا النوع هم ضحايا للجهل يستحقون الرثاء، لو انشغلوا قليلا بتربية أبنائهم، لما آلت بهم الحال إلى ماهم عليه، ولكان مستقبل أبنائهم أحسن حالا.لم يحدثوا يوما أبناءهم عن القناعة والكسب الحلال.لقد اغتال الجهل فيهم كرامة الإنسان وقناعته بما قدر له، وداس بقوة على كل شعور بالرحمة والتضحية.كم يعز علي أن أرى وجه الآباء بتجاعيده التي تؤرخ لتاريخ طويل من العناء، والتعب، ومصارعة الأيام، والنظرات الذابلة التي حجب بريق الدموع عنها وضوح الرؤية، والحيرة المرسومة على كل حركاتهم وسكناتهم. إن الأبناء هم السند الذي يتكئ عليه المرء في كبره، لا يهم نوع الأبناء ذكورا كانوا أم إناثا ، فالأمر سواء. لكن عندما يهمل الآباء تربيتهم، يكون الثمن غاليا، الأبناء أنفسهم، والنفوس التي تتحطم حسرة عليهم.[8]” هذا، وتكمن الوظيفة الأيديولوجية داخل الرواية في انتقاد الواقع السائد، واستشراف واقع ممكن أفضل، بدون فقر ولا فاقة ولا جهل:” إني أرى في الفقر عدوا يعمل على ضياع طاقات الشباب، وقدراته الإنتاجية بشكل كبير. بل الفقر والجهل كلاهما يعملان كسوس ينخران في الدعائم التي يقوم عليها المجتمع، ليلقيا به في أحضان الانحلال والانحطاط.وهكذا، يجد الفساد بشتى أشكاله التربة الخصبة ، ويتفشى بين كل طبقاته على اختلاف درجاتها في المجتمع”.[9] كما تستند الرواية – من جهة أخرى- إلى وظيفة التوثيق والشهادة، كأني بالرواية عبارة عن مقابلات واستمارات استطلاعية حول مشاكل الواقع، عبر إيراد مجموعة من التجارب المتنوعة لنماذج بشرية مختلفة. زد على ذلك، يمكن الحديث أيضا عن مستويات من السرد، فهناك سرد من الدرجة الأولى، وهو سرد الكاتبة آمنة برواضي، وسرد من درجة ثانية، وهو سرد الساردة أو الراوية الرئيسية التي تتولى مهمة السرد والحكي داخل الرواية، وسرد من درجة ثالثة، يتمثل في سرد الشهود لمحكياتهم ، كنعيمة، وأحمد، وصاحب المقهى، وخالد، وآمال… بنية الوصف: يتميز الوصف في رواية :” أبواب موصدة” لآمنة برواضي بالانتقاء والاقتصاد والتكثيف ، والابتعاد قدر الإمكان عن التفصيل والاستقصاء والإسهاب، فكانت تبتعد كل الابتعاد عن الوصف الواقعي المتشعب، كما نجده جليا عند كل من: بلزاك، وفلوبير، وستندال، ونجيب محفوظ، وعبد الرحمن الشرقاوي، وعبد الكريم غلاب، ومبارك ربيع…، وتختار المؤلفة الوصف الموجز والمختصر والمختزل، عن طريق تشغيل مجموعة من آليات التوصيف، كالصورة البلاغية، واستعمال النعوت، والأحوال، وأسماء التفضيل، والمقارنة… ويعني هذا أن المؤلفة قد اهتمت بوصف الشخصيات تركيزا وتكثيفا واختزالا، بالتركيز على اللقطات الخارجية (اللقطة البانورامية، واللقطة العامة، واللقطة القريبة، واللقطة المكبرة…)، وذلك أكثر من تركيزها على اللقطات الداخلية. وفي هذا السياق، تصف الساردة أحد الجيران قائلة:” سار في الطريق، وكان يبدو من مشيته- وإن كانت مسرعة نوعا ما- أنه شيخ تجاوز الستين من عمره.ومما شد انتباهها أكثر أنه عاد مسرعا لتوه إلى باب منزله.وما أن وصل الباب حتى تراجع وعاد للسير ثانية. أخذت تراقبه بدقة متناهية، كانت مشيته تدل على أنه يجر أثقال سنين من المعاناة، والتعب الذي أضنى جسده النحيل، دليل واضح على أن سنين العمر وأهوال الحياة أخذت منه قوة الشباب ، واستقامة القامة، وتركته ينحني أخيرا- بعدما أعيته السنون- في ولاء للأرض التي أنبتت جذوره بادئ الأمر، وإليها يعود. لم يعد يقو على رفع هامته عاليا على السماء، كما كان- ولاشك في ذلك- يفعل في شبابه، حين كان عوده مستقيما يتعالى إلى الأعلى في كبرياء، كما تتعالى فروع الشجرة نحو السماء.[10].” هذا، وتصف الساردة شخصية أحمد بمواصفات خارجية جسدية أكثر انتقاء وتركيزا ، كما يبدو ذلك واضحا في هذه الصورة الوصفية:” بينما هي في تساؤلاتها، إذا بنفس المنزل يفتح بابه ليخرج منه شاب. تحولت إليه، وجدته طويل القامة، ممتلئ الجسم، يبدو في نهاية العقد الثالث من عمره، لم تتضح لها صورته بشكل جيد، أخذ يمشي مسرعا، وكأنه يريد اللحاق بالشيخ الذي خرج قبل قليل، ويسبقه ببضع خطوات.كانت خطوات الشاب متلاحقة، ما أثار فضولها أكثر، فتعمدت متابعة ما يحدث، وكأنها تشاهد سلسلة مشوقة على الشاشة.[11]” و من المقاطع الوصفية التي استخدمت فيها الساردة النعت، واسم التفضيل، والمقارنة، والحال، والتمييز، والصفة المشبهة، حينما وصفت النادل[12]…وكذلك حينما وصفت خالد زوج آمال:” خالد في مقتبل العمر، شاب وسيم، من عائلة متوسطة الدخل، لكن والديه عملا على أن يجعلا منه إنسانا ذا مكانة في المجتمع، تابع دراسته، وأحرز على الشهادة الجامعية، فهو مثقف، وعلى مستوى من الأخلاق، ومحترم من طرف أقاربه ومعارفه، الكل يعمل له حساب، لم يكن يتكلم إلا ويصغي لحديثه جل من في البيت. كان أصغر إخوته الأربعة، لكنه أوفرهم حظا في تحصيل العلم، كان هكذا منذ صغره، مما شجعه على المضي في طريق النجاح ، وبالرغم من صغر سنه بين أفراد عائلته، إلا أنهم كانوا يرجعون إليه في جل أمورهم للأخذ برأيه، والعمل به.[13]” وعلى العموم، يتأرجح وصف الساردة بين الوصف المحايد( كان بجوار البيت العالي…)، والوصف الإيجابي(أوصاف خالد وآمال…)، والوصف السلبي( وصف الأب العجوز- ووصف الضرة الشريرة…) ولم تكتف الساردة بوصف الشخصيات، بل وصفت الأمكنة والأشياء على حد سواء، كما يتبين ذلك جليا في هذا المقطع الوصفي، حينما تصف غرفة آمال:”قامت بخفتها المعهودة، ورفعت الرداء الذي بغطي مائدة كانت تتوسط الغرفة، التي تضم بين جدرانها، بالإضافة إلى الزوجين السعيدين، فراشا أنيقا، وبعض التحف التي تزين الجدران، وفي زاوية أمامية كان ينتصب جهاز التلفاز فوق طاولة زجاجية من ثلاثة طوابق، مملوءة بدورها بالتحف الصغيرة الجميلة التي تضفي على المكان جمالا، وتعبر عن ذوق الزوجين في اختيار التحف، وفي أحد أركان الحجرة كانت تعلق صورة من الحجم الكبير للزوجين، وهما يرتديان ملابس العرس”[14]. ويحضر وصف الوسائل في ثنايا الرواية بشكل أقل بالمقارنة مع وصف الشخصيات، ووصف الأمكنة، ووصف الأشياء. ومن أمثلة هذا الوصف الوسائلي: وصف السيارة الفخمة التي يمتلكها الحاج عمرو. ومن ثم، يلاحظ بأن وصف الوسائل يختلط بشكل من الأشكال بوصف المكان، كما يبدو ذلك جليا في هذه الصورة الوصفية التي تصف فيها الساردة ذلك المنزل الفخم المجاور لبيت آمال:” أصبحت آمال تعرف تفاصيل حياة تلك الأسرة دون أن تعرف أي واحد منهم.كل ما تعرفه: ذلك المنزل الفخم الذي يبدو في ناصية الطريق يتعالى إلى السماء.وتحيط به الأشجار من كل جانب، وتحجب كثافة أوراقها وأغصانها المتشابكة عن المارة، مشاهدة ما يجري داخل حديقة المنزل، بالإضافة إلى الجدار العالي الذي يحيط بها. والسيارات الفخمة التي تخرج من باب المرآب دليل كاف، على مدى الثراء والنعيم الذي تنعم به الأسرة. كل هذا كل ما تعرفه آمال، قبل أن تبدأ زيارات نعيمة تتكرر عليها، وتشكو لها من التعب الذي يرهق جسمها؛ نظرا لكثرة طلبات الأسرة.[15]” وهكذا، نستنتج بأن أمينة برواضي شغلت مكون الوصف بكل مظاهره وتجلياته الفنية والجمالية، اعتمادا على الكاميرا المشاهدة والرؤية الخارجية، مع الاكتفاء بالوصف الانتقائي من جهة، والارتكان إلى لغة وصفية نحوية متنوعة من جهة أخرى. زمن السرد: يلاحظ أن رواية :” أبواب موصدة” لآمنة برواضي تتخذ خطا زمنيا كرونولوجيا متعاقبا، يمتد في تقدمه الخطي من الحاضر نحو المستقبل.ومن ثم، تتميز أحداث القصة بتعاقبها منطقيا وسببيا وزمنيا، وهذا ما يجعل هذه الرواية قريبة من الرواية الكلاسيكية ذات البناء الزمني المتسلسل. بيد أن الرواية تنحرف إلى الماضي ، حين تسترجع آمال ذكرياتها مع خالتها ربيعة:” إنها تعمل بنصائح خالتها التي لم تكن تنقطع عن الكلام عن جمال المرأة، وكيفية حفاظها عليه، واهتمام المرأة بهندامها وشعرها وحديثها. كانت خالتها كل عشية يجتمع حولها في بهو المنزل كل بنات الأسرة، يتلذذن بسماع حديثها، خاصة منهن المقبلات على الزواج. فهي تحسن الحديث، وأسلوبها أكثر تشويقا، كما أنها على دراية بالحياة الزوجية السعيدة.فلا تمل ولا تكل من الحديث عن كيفية اهتمام المرأة بمظهرها، لأن هذا يطبع سعادة على حياتها الزوجية.[16]” ومن ناحية أخرى، تلتجئ الساردة إلى توظيف تقنية استشراف المستقبل، لتستطلع الأحداث التي تتعلق بآمال وخالد :” إن الآباء من هذا النوع هم ضحايا للجهل يستحقون الرثاء، لو انشغلوا قليلا بتربية أبنائهم لما آلت بهم الحال إلى ماهم عليه، ولكان مستقبل أبنائهم أحسن حالا.لم يحدثوا يوما أبناءهم عن القناعة والكسب الحلال.لقد اغتال الجهل فيهم كرامة الإنسان وقناعته بما قدر له، وداس بقوة على كل شعور بالرحمة والتضحية.كم يعز علي أن أرى وجه الآباء بتجاعيده التي تؤرخ لتاريخ طويل من العناء، والتعب، ومصارعة الأيام، والنظرات الذابلة التي حجب بريق الدموع عنها وضوح الرؤية والحيرة المرسومة على كل حركاتهم وسكناتهم. إن الأبناء هم السند الذي يتكئ عليه المرء في كبره، لا يهم نوع الأبناء ذكورا كانوا أم إناثا ، فالأمر سواء. لكن عندما يهمل الآباء تربيتهم، يكون الثمن غاليا، الأبناء أنفسهم، والنفوس التي تتحطم حسرة عليهم. - يالهول الخسارة عندما لايجد الآباء ثمارا طيبة يجنونها في شيخوختهم! ولا يجدون سوى براكين من العصيان والغليان، تلتهم كل ما تمر به في طريقها. صمت خالد بعد أن أفرغ كل ما في داخله. ابتسمت آمال قائلة: عندما نرزق بأبناء سوف نعمل إن شاء الله على تربيتهم، وغرس كل القيم الحميدة فيهم ، فلا تخش على نفسك أن تكون أبا من هذا النوع. بعدها، قام الزوجان إلى حجرتهما ليناما كالعادة، وفكرهما شارد مهموم بهموم الناس.[17]” فهذا المقطع السردي تعبير جلي وواضح عن المقطع الاستشرافي الذي تستحضر فيه الساردة توقعات الشخصيات، وترصد افتراضاتها الاحتمالية في مواجهة الواقع مستقبلا، وقد يتحقق هذا الاستشراف من جهة، و قد لا يتحقق بأي حال من جهة أخرى. وعلى مستوى الأزمنة السردية، فيمكن الحديث عن مجموعة من هذه الأزمنة، كالسرد التابع أو السرد الماضوي الذي يقترن بما مضى من الأحداث، والسرد المتقدم أو السرد المستقبلي أو السرد الاستشرافي أو الاستطلاعي الذي يتعلق بما سيأتي من الأحداث في المستقبل، والزمن الآني الذي يرتبط بسرد ما يقع في الحاضر من أحداث ومحكيات بشكل متواز ومتناوب في الوقت نفسه ، كأن نورد -مثلا- قصة، ثم نورد قصة أخرى بالتناوب تقع في الفترة نفسها. وهناك السرد المدرج أو المتضمن أو المتداخل أو المتقاطع الذي تتداخل فيه الأزمنة والأحداث. ومن هنا فالمؤلفة في روايتها أكثرت من السرد التابع من خلال توظيفها للأفعال الماضية تخطيبا وتحبيكا. ولم تكتف الساردة بالتركيز على السرد التابع أو السرد الاسترجاعي المرتبط بأفعال الماضي، بل كانت تستعين بالسرد الآني، حينما تورد قصة أحمد وقصة الحاج عمرو بالتناوب في الفترة نفسها . بله عن ذلك، فقد وظفت الساردة كذلك السرد المتقدم أو الاستشرافي في آخر مقطع من الرواية :” ابتسمت آمال قائلة: عندما نرزق بأبناء سوف نعمل إن شاء الله على تربيتهم، وغرس كل القيم الحميدة فيهم ، فلا تخش على نفسك أن تكون أبا من هذا النوع. بعدها، قام الزوجان إلى حجرتهما ليناما كالعادة، وفكرهما شارد مهموم بهموم الناس.[18]” هذا، وتستوجب المدة الزمنية في الرواية أن يكون الإيقاع السردي إيقاعا سريعا مع تقنيتي الحذف والتلخيص، ويكون إيقاعا بطيئا مع تقنيتي المشهد والوقفة الوصفية.وهكذا، تتوقف رواية آمنة برواضي في كثير من الأحيان إلى محطات وصفية، بغية رصد الشخصيات والأماكن والأشياء والوسائل، ومع هذه التوقفات الوصفية يتوقف الزمن السردي بدوره لتشويق المتلقي، وتعريف الساردة بالشخصيات الرئيسية في الرواية، وإعدادها للقارئ لتقبل تفاصيل الحبكة السردية. ولم تكتف الساردة بتبطيء الزمن، عن طريق تشغيل تقنية الوقفات الوصفية، وتقنية المشاهد الدرامية(مشهد أحمد مع أبيه العجوز، ومشهد أحمد مع زوجة الأب…)، بل استعملت أيضا تقنية الحذف للقفز على مجموعة من الأحداث غير الضرورية على مستوى الكتابة، كما في هذا المثال التوضيحي:” كل هذه الأحداث رآها وسمعها في ظرف ساعتين من الزمن[19]“. كما شغلت الساردة تقنية التلخيص، حينما لخص خالد قصة أحمد لزوجته آمال على لسان الساردة:” بعدما استراح خالد قليلا، وأخذ مكانه إلى جوارها ، بدأ يحكي لها كل ماسمعه من أحمد، وكل ما مر به في المقهى من أحداث.[20]” أما من حيث التواتر السردي، الذي يقصد به قياس عدد المرات التي ترد عليها القصة المحكية داخل النسيج القصصي تخطيبا وتسريدا، فنجده في الرواية بأنواعه الأربعة : السرد المفرد، والسرد التكراري، والسرد التطابقي، والسرد المؤلف. ومن الأمثلة على السرد المفرد، الذي يعني أن نروي مرة واحدة ما وقع مرة واحدة(1ر(رواية)/1و(واقعة))، ما قالته الساردة: ” دعت خالد بكل لطف[21]“. فهذا الملفوظ السردي يحيل على سرد حكاية واحدة، وقعت مرة واحدة. وهناك السرد المؤلف الذي نعني به أن نحكي مرة واحدة، ما وقع مرات عديدة (ر1(رواية )/ وع(وقائع عدة)، كما يبدو جليا في هذا المقطع السردي:” كل هذه الأفكار تخترق ذهن آمال في لمح البصر، وخالد لم يمش سوى بضع خطوات باتجاه غرفة النوم، حيث سيقوم بالعمل الروتيني الذي ألف القيام به كلما عاد من العمل : وهو إزالة ملابس العمل، وارتداء ملابس البيت[22].” كما تلتجئ الساردة إلى التواتر التكراري ، من خلال إيراد روايات عدة، لما وقع مرة واحدة (رع/ 1و)، وذلك حينما أوردت قصة الحاج عمرو، فقد رويت هذه القصة أو الحادثة أو الواقعة مرات عدة من قبل نعيمة أولا، ومن قبل آمال مرة أخرى. أما التواتر التطابقي في الرواية، فيتمثل في أن يحكي السارد مرات عدة، ماوقع مرات عدة(ع ر/ع و)، كما يبدو ذلك واضحا في هذا المقطع السردي:” بعدها قام الزوجان إلى حجرتهما ليناما كالعادة، وفكرهما شارد مهموم بهموم الناس[23]“. ويتكرر هذا الحدث في الرواية كثيرا، ويروى مرات عديدة. وهكذا، يتبين لنا بأن آمنة برواضي في روايتها:” أبواب موصدة”، قد استفادت بطريقة من الطرائق ببعض التقنيات السردية التي تعتمد عليها الرواية الحديثة، على الرغم من كلاسيكيتها الشكلية والبنائية، ومنحاها الفني التقليدي. الصياغة السردية: تنبني الصياغة السردية على مجموعة من الملفوظات السردية في مجال الرواية والحكي والسرد، وتقوم أيضا على تبيان طرائق عرض ما يقوله السارد، أو ما تقوله الشخصية، وما يفكران فيه، ويمكن حصرها في الأنواع التالية: الخطاب المسرود الذي يقوم على سرد الأحداث مباشرة؛ الخطاب المنقول من الدرجة الأولى، وهو الذي ينقل كلام الآخرين عبر صيغ السرد أو على لسان السارد، ويسمى هذا بالأسلوب غير المباشر؛ الخطاب المنقول من الدرجة الثانية، حيث يعتمد هذا الخطاب على الأسلوب غير المباشر الحر. وهنا، لا نستطيع التمييز بين كلام الشخصيات وكلام السارد؛ الخطاب المعروض الذي ينبني على الأسلوب المباشر أو الحوار[24]؛ الخطاب الإشاري السيميائي الذي يعتمد على العلامات الإشارية البصرية؛ الخطاب التلفظي الذهني الذي يرد في شكل أفكار متلفظة داخل البنية الذهنية. وعليه، تستعمل الروائية آمنة برواضي في روايتها:” أبواب موصدة” الخطاب المسرود مباشرة في نقل الأحداث والوقائع، وهو الأكثر هيمنة في هذه الرواية ، وذلك على غرار الروايات الكلاسيكية ، سواء أكانت واقعية أم رومانسية أم تاريخية ، وذلك أثناء رصد الشخصيات، واستعراض المحكيات المروية. ومن جهة أخرى، تستعمل المؤلفة الخطاب المنقول القائم على المناجاة، أو الحوار الداخلي، أوالمنولوج ، ويعبر هذا الخطاب عن صراع الساردة آمال مع نفسها، وتمزق ذاتها شعوريا ولاشعوريا، ومعاناتها من الوحدة والفراغ، والارتكان إلى لغة البحث والتساؤل من أجل إيجاد أجوبة شافية وكافية:” بدأت الأسئلة تتسارع إلى ذهنها: ترى ما سبب خروجه غاضبا؟ ولماذا عاد ثانية؟ لماذا تراجع عن العودة؟ هل مسه مكروه؟ هل أحد أفراد أسرته مريض؟ هل هل؟؟؟ عدة تساؤلات لم تجد لها جوابا، استمرت شاخصة ببصرها، تلاحقه مسرعة بنظراتها، متتبعة خطواته العريضة، وهو ينزل الشارع.كانت حيرته تتجلى من حركاته، على الرغم من الظلام الذي يحجب عنا الرؤية بشكل أكثر وضوحا. حتى الضوء الذي ينبعث من المصابيح التي في أعلى الشارع كان ضئيلا، لا يكفي لوضوح الرؤية.أما عن المصباح المقابل لبيتهم، فقد تلاعبت به حجارة الصغار، وتكسر زجاجه ككل مرة، هؤلاء المشاغبون الصغار لايحلو لهم اللعب إلا بالحجارة، ورمي الزجاج.”[25] وتكثر الخطابات المنولوجية في الرواية؛ وذلك بسبب معاناة الساردة من الدرجة الثالثة من الوحدة والقلق والفراغ؛ مما يدفعها الأمر إلى طرح الأسئلة، ومناجاة الذات، والتعبير عن صراعها الداخلي، وتبيان تأوهاتها النفسية من جراء قسوة المجتمع:” تأوهت آمال في مرارة، وقالت بصوت مسموع:آه ما أتعس هذه الحياة! لكل واحد معاناته الخاصة. الأبواب مغلقة حقا.والهدوء يبدو عليه أنه يسود المدينة والشوارع الصغيرة…ولكن الله وحده يعلم بخبايا النفوس المطبقة بين الصدور ومعاناتها. وما نوع الصراعات التي تدور وراء تلك الأبواب المغلقة؟ وما نوع الصراعات التي تدور وراء تلك الأبواب المغلقة؟ وما أظن إلا أن مشاكل الناس هنا تتنوع بتنوع الطلاء الذي يزينون به جدران منازلهم أو لعله يفوقها.[26]” وتلتجئ الساردة أيضا إلى تشغيل الخطاب المنقول القائم على الأسلوب غير المباشر، كما يظهر ذلك واضحا في هذا الملفوظ السردي:” وكانت تضيف بأن الزوج يزداد هياما بزوجته واشتياقا على لقياها. وكم كانت ربيعة تكثر من اللوم لنساء عصرها، كانت تنعتهن بآلة لصنع الطعام، وتنظيف الغسيل؛ لأن أغلبهن كان يقضين يومهن في أعباء المنزل التي لاتنقضي، غير مباليات بأنفسهن، ولا بنظرات الحسرة في أعين أزواجهن[27].” هذا، وتنتقل الساردة من الخطاب المسرود إلى الخطاب المنقول، لتتحول، بعد ذلك، إلى الخطاب المعروض الذي يقوم على الحوار المباشر، والهدف منه هو تبادل وجهات النظر من جهة، والتواصل من جهة أخرى:” وصدر عنها صوت مسموع دوى في أرجاء المكان من حولها: -هيا حبيبي الماء دافئ في انتظارك لتزيل مع الماء بعض التعب الذي لحق بك. ثم بعد الانتهاء من ذلك الحق بي ، سأكون في غرفة الجلوس.بعد قليل، سيعرض فيلم سينمائي جديد لم يسبق لنا أن شاهدناه. هيا اسرع يا حبيبي في اللحاق بي. أجابها خالد بصوت خافت: -أجل ياعزيزتي، بعد قليل سأكون إلى جوارك. كان يتحدث، وهو يحرك رأسه في رتابة[28].” ومن ناحية أخرى، توظف الكاتبة الخطاب الإشاري أو السيميائي في عملية التسنين السردي، وقلما تنبه علماء السرد إلى هذه الظاهرة الكلامية في عملية السرد والحكي، كما تتضح جلية في هذا المقطع السردي، حيث توظف المؤلفة ملفوظ الإشارة بكل أبعاده المرئية والبصرية:” أشار إليهم بأن ولده داخل حجرته يستعد للنوم في غفلة عما يروج حوله من شكوك وظنون.وقبل أن يبعث الخادمة في طلبه، كان الرجال الثلاثة قد بدأوا في مزاولة العمل الموكول إليهم.وهو عملية التفتيش دون مراعاة للصداقة التي تجمعهم به.[29]” ويرد هذا الخطاب الإشاري في مكان آخر من الرواية:” أشار الأب للابن بأن يلتزم الصمت، وبأن في أثره ضيوفا يريدون الحديث إليه.[30]” وعلى مستوى طبيعة الكلمات الموظفة في الرواية، فيمكن الحديث عن أنواع من السجلات اللغوية المهيمنة ، فهناك: الكلمة الانفعالية الذاتية ذات المصدر الرومانسي الوجداني، والكلمة المرجعية ذات البعد التسجيلي الواقعي، والكلمة الدينية، حينما تلتجئ الساردة إلى التضمين والاقتباس، والكلمة التربوية حينما تؤشر الساردة على عالم التربية وفضاءاتها المتناقضة، والكلمة الميتاسردية حينما تحيل الساردة على عوالم السرد والقصة… أما من حيث بنية الجمل، فتوظف الساردة مجموعة من الجمل التركيبية، كالإكثار من الجمل الفعلية ذات الطاقة السردية، إلى جانب جمل اسمية، وجمل رابطية (كان وأخواتها)، وجمل اعتراضية… علاوة على الجملة الانفعالية، والجملة المسكوكة، والجملة المرجعية، والجملة الدينية، والجملة الشعرية، والجملة المحكية، والجملة السردية، والجملة الدرامية، والجملة الوصفية… المعمار السردي: ينبني معمار الرواية على التضمين أو المزاوجة بين المحكي الخارجي (قصة خالد وآمال)، والمحكي الداخلي (قصة أسرة أحمد مع زوجة الأب- وقصة الحاج المغترب- وقصة الغني الحاج عمرو). بمعنى أن الرواية تتشظى إلى مجموعة من المحكيات الداخلية تناسلا وتوالدا وتداخلا. ويعني هذا أن هناك قصة خارجية رئيسية، وهي قصة آمال وخالد، وتتفرع عن هذه القصة المحورية مجموعة من القصص النووية الصغرى ، وذلك على غرار “ألف ليلة وليلة”، وطريقة ابن المقفع في كتابه: “كليلة ودمنة”. زد على ذلك، فإن معمار الرواية ليس معمارا سرديا بسيطا، بل هو معمار مركب ينبني على تعدد المحكيات وتجاورها، على الرغم من كلاسيكية الرواية، وبنائها التقليدي. هذا، وتستهل الساردة الرواية بمقطع فضائي وصفي، يحدد زمان القصة، ومكانها الفضائي، ومؤشراتها الطبيعية:” الساعة تقترب من الخامسة مساء، السماء ترتدي رداء يميل إلى السواد، معلنا قدوم الليل، بدأ السكون يحل بشوارع المدينة الصغيرة، لتنام الحركة داخل شوارعها وأحيائها، كما ينام سكانها في هدوء معتاد. الفصل فصل شتاء، وفيه يتسابق الأزواج في العودة إلى منازلهم مبكرا، للاحتماء بدفء الأسرة من شدة البرد الذي يسود جو المنطقة. فهذه المنطقة تعرف برودة شديدة، كما تعرف حرارة مفرطة في فصل الصيف نظرا لمناخها القاري. هكذا، يحلو للأزواج السمر مع أفراد العائلة، حيث تجدهم مجتمعين حول نار دافئة، تلطف من برودة الجو من حولهم، وآخرون يلتفون بفراش من برودة الجو من حولهم ، وآخرون يلتفون بفراش صوفي دافئ، يحاولون بذلك جمع حرارة جسمهم، خوفا من أن تتسرب وتضيع في أرجاء المكان. إن الملل والضيق غرس في حياة سكان هذا النوع من المدن الصغيرة التي تعرف ركودا ملحوظا في شتى مجالات الحياة. فحياة السكان تسير على وتيرة واحدة، ونظام حياتهم يكاد لا يتغير من يوم لآخر، عكس ماهو الشأن عليه بالنسبة للمدن الكبرى . هذا الملل الذي يعانيه جل السكان، ويتذمرون منه، ناتج عن الرتابة التي تطبع حياتهم اليومية، فهم يكدون طوال اليوم كل في مجاله، ولا يوجد في المدينة أدنى مجالات الترفيه عن النفس، ويعودون في آخر النهار يحملون على كاهلهم أعباء اليوم الذي ولى، وقد أعياهم الصراع، وأنهك قوتهم، ووتر أعصابهم، فلم تعد لهم طاقة من الصبر، للنظر في مشاكل البناء، وتدارسها بروية وتأن، الكل ينفجر لأتفه الأسباب، جل الناس تجدهم في حالة من التوتر والغليان.”[31] وبعد ذلك، تقدم المؤلفة الشخصيات، فالحدث الرئيس، وذلك في شكل عقدة تتمثل في نتائج الفراغ، وسوء التربية. وبعد ذلك، أوردت مرويات تتضمن عقدها تحبيكا وتخطيبا، لتنتهي الرواية بتقييم إجمالي لهذه المرويات. ثم، تنتهي الرواية بدرس تعليمي أو مغزى أخلاقي ؛ مما يجعلها رواية أطروحة تربوية أو رواية تعليمية هادفة، تركز على ضرورة الاهتمام بتعليم الأبناء ، و تربيتهم تربية حسنة :” إن الآباء من هذا النوع هم ضحايا للجهل يستحقون الرثاء، لو انشغلوا قليلا بتربية أبنائهم لما آلت بهم الحال إلى ماهم عليه، ولكان مستقبل أبنائهم أحسن حالا.لم يحدثوا يوما أبناءهم عن القناعة والكسب الحلال.لقد اغتال الجهل فيهم كرامة الإنسان وقناعته بما قدر له، وداس بقوة على كل شعور بالرحمة والتضحية.كم يعز علي أن أرى وجه الآباء بتجاعيده التي تؤرخ لتاريخ طويل من العناء، والتعب، ومصارعة الأيام، والنظرات الذابلة التي حجب بريق الدموع عنها وضوح الرؤية والحيرة المرسومة على كل حركاتهم وسكناتهم. إن الأبناء هم السند الذي يتكئ عليه المرء في كبره، لا يهم نوع الأبناء ذكورا كانوا أم إناثا ، فالأمر سواء. لكن عندما يهمل الآباء تربيتهم، يكون الثمن غاليا، الأبناء أنفسهم، والنفوس التي تتحطم حسرة عليهم. - يالهول الخسارة عندما لايجد الآباء ثمارا طيبة يجنونها في شيخوختهم! ولا يجدون سوى براكين من العصيان والغليان، تلتهم كل ما تمر به في طريقها. صمت خالد بعد أن أفرغ كل ما في داخله. ابتسمت آمال قائلة: عندما نرزق بأبناء، سوف نعمل إن شاء الله على تربيتهم، وغرس كل القيم الحميدة فيهم ، فلا تخش على نفسك أن تكون أبا من هذا النوع. بعدها، قام الزوجان إلى حجرتهما ليناما كالعادة، وفكرهما شارد مهموم بهموم الناس.[32]” وعليه، تستفيد رواية آمنة برواضي ، وذلك على مستوى بنائها المعماري، من تقنيات الرواية الحديثة ، حيث تتكئ على تقنية التضمين والتوالد السردي.وعلى الرغم من ذلك، فهي رواية كلاسيكية محبكة بطريقة تقليدية، حيث تحترم مقومات الحكي الموجودة في الرواية الواقعية أو الرواية الرومانسية أو الرواية التاريخية. بلاغة الصورة: تنبني رواية آمنة برواضي على مجموعة من الصور السردية والبلاغية، مثل: صورة التقديم التي تتقابل مع صورة التأخير، ويراد بها التخصيص والتبئير ، كما يتضح ذلك جليا في هذه الصورة السردية:” الساعة تقترب من الخامسة مساء، السماء ترتدي رداء رماديا يميل إلى السواد ، معلنا قدوم الليل، بدأ السكون يحل بشوارع المدينة الصغيرة، لتنام الحركة داخل شوارعها وأحيائها، كما ينام سكانها في هدوء معتاد.[33]” ويلاحظ في هذه المقطع السردي ثلاث صور سردية متعاقبة: صورة التقديم التي تتمثل في تقديم الفاعل على الفعل(الساعة تقترب)، وصورة التشخيص( ترتدي رداء يميل إلى السواد- تنام الحركة- يحل السكون)، وصورة التشبيه (كما ينام سكانها في هدوء معتاد). كما وظفت الساردة صورة التقابل كما في هذا المثال:” لم تكن تعرف آمال كثيرا عن تقاليد المدينة وأهلها، ولا شيء عن عاداتهم التي تختلف كثيرا عن عادات البلد الذي عاشت وترعرعت فيه، إلا ما كان يحكيه لها زوجها.[34]” كما وظفت صورة الاشتقاق لخلق نوع من التوازي الصوتي من خلال إيراد كلمات مشتقة بشكل من الأشكال، مثل: يختلفون والاختلاف، ويشكو وشكواه :” يحكي لها عن متاعبه في يومه المضني، وبحكم عمله في الإدارة، كان شغله حافلا بالمشاكل التي تعترضه من جراء احتكاكه بنماذج من الناس، يختلفون باختلاف شرائح المجتمع، فكان لايشكو من شيء، بقدر شكواه من الجهل الذي يرزح تحت وطأته جل الناس.[35]” كما استعملت المؤلفة صورة الاستعارة ( وتتطلع بين تفاصيل وجهه عله يكون قد نسي شيئا لم يذكره في حديثه”[36]، وصورة التضمين والاقتباس:” بينما هي على تلك الحالة، هائمة بروحها في ملكوت الخالق وفي الكون من حولها ، وفي عظمة الليل والسكون الذي جعله الله من خصائص الليل ، أخذت تردد ببطء الآية الكريمة:” بسم الله الرحمن الرحيم، ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا، وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا، وبنينا فوقكم سبعا شدادا، وجعلنا سراجا وهاجا”. صدق الله العظيم.[37]” واستعانت المؤلفة كذلك بصورة الحجاج القائمة على الاستدلال والبرهنة:” لم تكن تريده أن يعرف ما يجول بخاطرها، وما تحس به من توتر، غير أنها ما لبثت أن خاطبت نفسها قائلة: - لكنه لم يرتكب إثما! لماذا أتوقع أنه يخفي عني شرا؟ دع السفينة تسير في سلام، البحر هادىء، والربان قائد السفينة أشد هدوءا من هدوء ليل مدينتنا الصغيرة[38]“. ومن جهة أخرى، توظف الكاتبة صورة التناقض:”أما عن الناس وحياتهم، فلا شأن لي بهم.[39]“. بله عن صورة الكناية، فالإمبراطورة كناية عن الزوجة الشريرة، والعجوز كناية عن أب أحمد…وثمة صور سردية أخرى نحن في غنى عن ذكرها الآن، وسنتركها – إن شاء الله- إلى فرصة لاحقة. خلاصات ونتائج: وخلاصة القول، لقد ارتأينا أن نوسع محاور الخطاب السردي، بألا نكتفي بالمنظور السردي، والزمن السردي، والصيغة اللغوية والأسلوبية، والوصف فقط، بل يمكن إضافة محاور تحليلية أخرى، كالبناء المعماري، والصورة السردية، وطبيعة اللغة، وتركيب الجملة. وهكذا، فقد توصلنا إلى أن رواية:” باب موصدة” لآمنة برواضي رواية كلاسيكية، تتأرجح بين الملاح الرومانسية من جهة، والملامح الواقعية من جهة أخرى. والدليل على كلاسيكيتها وجود موضوع تقليدي مستهلك(تفكك الأسرة)، وحضور حبكة تقليدية قائمة على التوازن، واللاتوازن، والتوازن، علاوة على تسلسل الأحداث خطيا وسببيا، والاستهلال بمقدمة فضائية ووصفية على غرار الروايات الواقعية. بيد أن هذه الرواية قد استفادت من تقنيات الرواية الحديثة، فيما يخص تنويع السراد والرواة، واستعمال التشظي، وتشغيل آلية التضمين، وتوظيف خاصية الاسترجاع. وعليه، تندرج هذه الرواية على مستوى الخطاب ضمن الرواية الأطروحة التربوية ؛ لأنها تهدف إلى تقديم درس تعليمي ديداكتيكي هادف، يتمثل في أهمية تربية الأبناء لإصلاح الأسرة بصفة خاصة، وإصلاح المجتمع بصفة عامة. 14 [1] -GENETTE, G : Figures III, Paris, Seuil.1972. [2] – آمنة برواضي: أبواب موصدة، شركة مطابع الأنوار المغاربية، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2012م، عدد الصفحات: 183صفحة من الحجم المتوسط. [3] – آمنة برواضي: نفسه، ص:3. [4] – آمنة برواضي: نفسه، ص:12-13. [5] – آمنة برواضي: نفسه، ص:23. [6] – آمنة برواضي: نفسه، ص:50. [7] – آمنة برواضي: نفسه، ص:161. [8] – آمنة برواضي: نفسه، ص:182. [9] – آمنة برواضي: نفسه، ص:163. [10] – آمنة برواضي: نفسه، ص:11-12. [11] – آمنة برواضي: نفسه، ص:14-15. [12] – آمنة برواضي: نفسه، ص:87. [13] – آمنة برواضي: نفسه، ص:19. [14] – آمنة برواضي: نفسه، ص:38. [15] – آمنة برواضي: نفسه، ص:3156-157. [16] – آمنة برواضي: نفسه، ص:21-22. [17] – آمنة برواضي: نفسه، ص:182-183. [18] – آمنة برواضي: نفسه، ص:182-183. [19] – آمنة برواضي: نفسه، ص:152. [20] – آمنة برواضي: نفسه، ص:161. [21] – آمنة برواضي: نفسه، ص:38. [22] – آمنة برواضي: نفسه، ص:31. [23] – آمنة برواضي: نفسه، ص:183. [24] -GENETTE, G. : Nouveau discours du récit, Paris, Seuil, 1983. [25] – آمنة برواضي: نفسه، ص:12-13. [26] – آمنة برواضي: نفسه، ص:14. [27] – آمنة برواضي: نفسه، ص:22. [28] – آمنة برواضي: نفسه، ص:34. [29] – آمنة برواضي: نفسه، ص174. [30] – آمنة برواضي: نفسه، ص:176. [31] – آمنة برواضي: نفسه، ص:3-5. [32] – آمنة برواضي: نفسه، ص:182-183. [33] – آمنة برواضي: نفسه، ص:3. [34] – آمنة برواضي: نفسه، ص:5. [35] – آمنة برواضي: نفسه، ص:6. [36] – آمنة برواضي: نفسه، ص:7. [37] – آمنة برواضي: نفسه، ص:12-13. [38] – آمنة برواضي: نفسه، ص:36. [39] – آمنة برواضي: نفسه، ص:36.