1 . أدب عالمي؟ لقد عرفت رواية "أن ترحل" للطاهر بن جلون الصادرة بالفرنسية عام 2006 عن دار كاليمار انتشارا واسعا حول العالم فقد تُرجمت الى لغات عدة وهو ما يؤهلها لدخول حقل ما أصبح يعرف ب "الأدب العالمي". فحسب الأكاديمي البارز "دافيد دامروش", الذي يعتبر أحد أهم منظري هذا الحقل, فإن " الأدب العالمي هو كل عمل أدبي يتمتع بانتشار خارج ثقافته الأصلية سواء كترجمة أو في لغته الأصل" 1 . إن الترجمة خصوصا إلى الإنجليزية و الإنتشار يشكلان معياران مهمان تقاس بهما عالمية عمل أدبي ما. و يمكننا القول أن أعمال الطاهر بن جلون إجمالا قد عرفت نجاحا لافتا للنظر, ذلك أن جل هذه الأعمال قد ترجمت إلى لغات عدة و عززت حضورها في السوق العالمية للكتاب. فروايتي "طفل الرمال" و "ليلة القدر", على سبيل, المثال ترجمت إلى أزيد من أربعين لغة, و هذا ما يجعل بن جلون يتبوأ مكانة مرموقة داخل الأدب العالمي. و لكن يجدر بنا أن نطرح بعض التساؤلات من قبيل: على حساب ماذا حقق بن جلون هذا الفتح الأدب عالمي؟ ما الثمن الذي دفعه كاتبنا المغربي هذا من أجل استمالة و لفت انتباه القارئ الغربي و دور النشر العالمية؟ ما هو الرهان الثقافي, إن هو وُجد, من وراء هذه العالمية الأدبية أو العلمنة الأدبية إن صح القول؟ بعبارة أخرى, ما هي تداعيات الغوص في مجاري الأدب العالمي على قضية الثقافة؟ كيف تعقد هذه التداعيات المفترضة منظورنا من عامليْ الترجمة و التسويق الدولي للأعمال الأدبية خصوصا تلك الأتية من بلدان ما يسمى بالمحيط أو العالم الثالث في دول "المركز"؟ سنحاول في هذه المقالة معالجة هذه التساؤلات من خلال تسليط الضوء على النموذج الأدبي البنجلوني باعتباره يستوحي تيماته و حبكه من داخل سراديب المجتمع المغربي و كذا نظرا لأن تسويقه يتم بدءا من دور النشر الفرنسية ليحلق بعدها إلى دور النشر العالمية خصوصا الأمريكية و البريطانية منها عبر أجنحة الترجمة و التسويق الدولي. و سنركز بالخصوص على رواية "أن ترحل". و نود أن نؤكد مرة أخرى أن تطرقنا للنموذج الأدبي عند بن جلون يأتي في إطار الجدل المحتدم حول ما يعرف ب "الأدب العالمي" و تأثيراته السلبية على أو تورطه في مسألة التمثيل/التصوير الثقافي لمجتمع أو قطر ما. إن قرار بن جلون الكتابة باللغة الفرنسية بالإضافة إلى تدفق الترجمات الإنجليزية لأعماله ينبهنا إلى ما وصفه "كراهام هوكن" في كتابه "الغريب المابعدكولونيالي: تسويق الهوامش" ب "التسليع العالمي للإختلاف الثقافي", هذا التسليع الذي يراه يقود "صناعة" النشر الدولية 2. و يؤكد هوكن أن "كُتّاب مابعد الكولونيالية ... قد كدسوا أشكالا من الرأسمال الثقافي جعلهم معروفين مشاهير حتى رغم مواقفهم المتسمة بالإعتراض" 3. و حسب الأنطولوجيا "كتاب العالم 1985-1990" "فإن بن جلون قد قفز إلى الشهرة العالمية سنة 1987 حينما فازت روايته السابعة "ليلة القدر" بجائزة كونكور و التي تعد أهم جائزة أدبية على الإطلاق بفرنسا" 4. أعتقد أن بن جلون يوافق وصفة هوكن السالفة الذكر ذلك أن أعماله الأدبية تتطرق باستمرار للتمظهرات الثقافية داخل المجتمع المغربي وإن كان ذلك يتم بطريقة معجّبة تميل إلى التشويه و الغرْبنة بالرغم من أن كاتبنا المغربي ما يفتأ ينتقد الخطابات الغربية التي تستهدف مهاجري شمال إفريقيا في أوروبا, و كتابيْ "الكرم الفرنسي" و "شرح العنصرية لإبنتي" لبن جلون خير دليل على مواقفه الإعتراضية والإنتقادية, و التي تُحسب له و يجدر بنا أن ننوه بها في هذا المقام من باب الأمانة العلمية. و مع ذلك فنحن نرى أن بن جلون ينسجم مع وصفة/تسمية "الدّخيل أو الغريب المابعدكولونيالي" عند "هوكن" 5. فالترجمات الإنجليزية لأعماله إلى جانب تبنيه للفرنسية كلغة كتابة قد حولته إلى شخصية أدب عالمية معَلمَنة ذات رأسمال ثقافي قابل للتسويق باعتباره يتغذى على تيمات شرقية/مشرقية تصور التقاليد الثقافية داخل المجتمعات العربية الإسلامية و تولي أهمية كبرى للجوانب السلبية. و حسب "ماتيو شارب" فإن بن جلون يكتب أدبا هو أقرب إلى الإثنوغرافيا منه إلى السيرة الذاتية 6. نرى أن البعد الإثنوغرافي يحتل مكانة مركزية في روايات بن جلون و التي تنطبق عليها تسمية " مابعدالكولونيالية". و ينبغي أن نعيد التأكيد على أن هذا البعد الإثنوغرافي يحمل في طياته دلالات سلبية فيما يخص تمثيل أو بالأحرى التمثيل ب المجتمع المغربي. من هذا المنظور, يصير ما يسمى بالأدب العالمي حقل مشكوك فيه و إن لم نقل متواطئ مع الهيمنة الرأسمالية على العالم. إن هذا الإشكال أو المأزق ليس غريبا عن الأوساط الأكاديمية, غربية كانت أم غير ذلك. ففي المؤتمر السنوي للمنظمة الأمريكية للأدب المقارن بمدينة "فانكوفر" الكندية سنة 2011 دار هناك نقاش و إن إتسم بنوع من الجدل بين "دافيد دامروش" و الأكاديمية الهندية البارزة "كاياتري سبيفاك" حول العلاقة بين الأدب العالمي و السوق الرأسمالي الدولي. و قد أشار"دامروش" إلى المشاكل و التحديات التي تواجه حقل الأدب العالمي اليوم, و أكدّ أن هذا الحقل "قد يصبح بسرعة إستئصالي ثقافيا و مفلس فيلولوجيا و متواطئ إيديولوجيا مع أسوأ أهداف الرأسمالية العالمية" 7. إن "دامروش" يعي تماما أن هذا الأدب العالمي, إن لم يتم تمحيصه وكبحه و محاسبته, قد يصير بسهولة حقلا منحرفا له تداعيات غير سليمة و غير صحية على المجتمعات الإنسانية. إن الإشكالية الأولى التي تواجهنا عند التطرق لأعمال بن جلون تخص مسألة اللغة التي اختار كاتبنا المغربي و العربي الأصل التعبير بها و نخص بالذكر هنا اللغة الفرنسية. فالكتابة بلغة أجنبية لا تخلو من مآزق و مزالق. و تبني بن جلون للفرنسية ينبهنا إلى قضية غاية في الأهمية و هي أقرب إلى حالة انفصام في الشخصية أو أزمة هوية. لكن يجب أن نؤكد أن نظرتنا الإنتقادية لأعمال بن جلون ليست نابعة من معطى تبنيه للغة أجنبية في حد ذاته, باعتبار أن مسألة المشروعية فيما يخص الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية قد تم تجاوزها منذ عقود عدة. فانتقادنا للأدب البنجلوني يأتي بالدرجة الأولى من زاوية المضمون أي التيمات التي تتكرر في روايات بن جلون و الطريقة التي تُعالج بها داخل العوالم السردية. بالرغم من تبني بن جلون للفرنسية كلغة تعبير إلاّ أن أدبه يظل "مغربيا" فهو يستلهم مواضيعه من المتخيل و الثقافة الشعبية المغربيتين. لكن هذا المركّب المتغاير لغة أجنبية مقابل مضمون محلي يظل لافتا للنظر و مليئا بالفضول و هو ربما يشير إلى علاقة متوترة بين كاتبنا و لغته الأم العربية. ففي إحدى مقابلاته صرّح بن جلول: "إني في الحقيقة لا أشعر بالراحة في اللغة العربية" 8. كما ينبغي أن نشير أنه في سنة 1971 غادر بن جلون عمله كأستاذ لمادة الفلسفة بالمغرب باتجاه فرنسا و ذلك احتجاجا على نهج الدولة لسياسة التعريب داخل المنظومة التعليمية 9. فما هي إذن تداعيات الأدب البنجلوني على المجتمع المغربي و ثقافته و واقعه اليومي؟ هذا ما سنحاول معالجته في الشق الثاني من هذه المقالة. 2. خطاب إشتشراقي؟ كما أسلفنا الذكر, هناك ميل قوي عند بن جلون لإعطاء تصوير إثنوغرافي سطحي عن المجتمع المغربي للقارئ الفرنسي على وجه الخصوص و للقارئ الغربي بشكل عام. و نريد في هذه الدراسة أن نضع هذا التصوير على المحك, فنحن نقترح أن لهذا التصوير نكهة إشتشراقية أو شبه إشتشراقية تتماشى عموما مع إن لم نقل تُعزّز بدل أن تتحدى و تنتقد الأفكار المسبقة للغرب عن ثقافات و نمط الحياة داخل المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. إن بن جلون يقوم بآستثمار الرأسمال الثقافي النابع من الذاكرة الشعبية المغربية بغرض إغواء القارئ الفرنسي لآستهلاك أعماله الروائية التي تعطي صورة "إيكزوتيكية" سلبية عن المجتمع المغربي. تقوم رواية "أن ترحل" الصادرة سنة 2006 بتضخيم حجم المصائب و المحن النازلة بالمجتمع المغربي في مطلع القرن الواحد و العشرين. كما يحيل إلى ذلك العنوان فالرواية تتطرق بشكل أساسي لموضوع جد آني و شائك و مثير للجدل و نخص بالذكر هنا قضية الهجرة من الضفة الجنوبية إلى الضفة الشمالية من حوض البحر الأبيض المتوسط. كما تصور الرواية مكانة و وقع أوروبا في مخيلة المغاربة. من دون شك, رواية "أن ترحل" لها بعد إثنوغرافي جلي ذلك أنها تقدم بطريقة غير مباشرة "شهادة" تتسم بالتراجيديا فيما يتعلق بالعواقب الوخيمة للهجرة من المغرب إلى إسبانيا, شرعية كانت أم خلاف ذلك. تحكي الرواية قصة عزيل و هو إسم مختصر لعز العرب و شغفه اللامتناهي في الرحيل عن مدينة طنجة في اتجاه الجار الشمالي إسبانيا. فبالرغم من أنه حاصل على الإجازة في القانون إلا أنه غير قادر على إيجاد عمل يلائم تحصيله الجامعي و بالتالي تكون فكرة الهجرة هي الحل الأنسب لمعضلته. يخاطبنا عزيل قائلا: "أنا في الرابعة و العشرين من عمري. لدي شهادة جامعية لكن لا مال و لا عمل و لا سيارة. نعم أنا حالة اجتماعية كذلك" 10. شخصية عزيل هاته نمطية و هي تضطلع بدور تمثيل شريحة واسعة من المعطلين حاملي الشهادات الجامعية. و تُحمّل الرواية ولو بطريقة غير مباشرة المسؤولية من وراء هذه الظاهرة الإجتماعية الغير صحية للفساد المتفشي في دواليب الدولة, فنرى عزيل يشارك في وقفات احتجاجية أمام البرلمان في العاصمة الرباط من دون أية نتيجة تذكر 11. وفي وضعيته البائسة اليائسة هذه يجد عزيل نفسه و هو الذي لطالما افتخر بعلاقاته الجنسية مع الفتيات و النساء مجبرا على الدخول في علاقة جنسية مثلية, لكن غير متكافئة, مع رجل إسباني يقيم بمدينة طنجة إسمه "ميكيل", علّه بذلك يصل إلى مبتغاه في الإنتقال إلى الضفة الأخرى من حوض المتوسط. هنا تأخذ الرواية منحى يغازل الخطاب الإستشراقي الآتي من الغرب, خطاب يضخم من حجم المشاكل داخل المجتمعات الشرقية/المشرقية بغرض إثبات تقدم و تفوق نظيراتها الغربية حسب طرح إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الإستشراق". و سيتمكن عزيل أخيرا من تحقيق حلمه بالعبور إلى إسبانيا رغم أن ذلك أتى على حساب كرامته و زعزع هويته الجنسية. و تجدر الإشارة إلى أن الرواية مليئة بالمشاهد الجنسية الحميمية تصل درجة الذهول في تصويراتها الفوتوغرافية الدقيقة, مما يطرح التساؤل إن كان هذا الإستعمال المفرط لتيمتي الجنس و الجنسية المثلية أحد استراتيجيات بن جلون للإيقاع بالقارئ الغربي و دفعه لاستهلاك هذا الأدب الإيزوتيكي الإيروتيكي بامتياز. و نؤكد في هذا السياق أن رواية "أن ترحل" قد نالت شارة "البيست سيلر" أو "الأكثر مبيعا" على الصعيد الدولي. إن الرواية تستحضر بشكل مباشر الصور الشرقية/الإستشراقية خصوصا فيما يخص تلك "العلاقة" الجنسية المثلية البينعرقية و البينثقافية بين الأوروبي الغربي "ميكيل" و الإفريقي العربي "عزيل". فبعد وصول عزيل إلى برشلونة و استقراره بشقه ميكيل, يقوم هذا الأخير بتنظيم حفلة تنكرية يكون موضوعها "المشرق: فكّر بالبنفسجي" 12. و يأخذ ميكيل دور الوزيز من "كتاب ألف ليلة و ليلة" مرتديا ملابس تعكس هكذا دور, بينما فضّل معظم أصدقاءه من الإسبان لبس جلاليب مغربية و جبادورات و سراويل تركية بنفسجية 13. نعتقد أن هذا النوع من التصوير له أجندة خفية من قبيل إغواء و تسلية القارئ الغربي بغرض الربح المادي و رفع سقف المبيعات داخل السوق الدولية للكتب الأدبية. و في هذا الصدد فقد عبر الكاتب المغربي "الطنجي" محمد شكري عن قلقه العميق من هذا النوع من الأدب الذي يكتبه بن جلول. يصيح شكري منتقداً: "إن الطاهر بن جلون يحاول أن يخلق ألف ليلة و ليلة عصرية عن طريق حكايا نسيتها حتى جداتنا. إنه يشعود مشاعر القراء و يدغدغهم أينما كانوا, يجعل من الكتابة عهرا و لقاطا أو تسلية في محطات السفر . . . و تكاد كتبه لا تصاحب القارئ الجاد حتى إلى الحدائق . . . إنه لا يتوانى عن أن يترك أحد كتبه حيث ينهي قراءته, و غالبا ما تكن قراءته خطئيّة" 14. شكري لا يتوانى في اتهام بن جلول بكتابة حكايات وكذا مقالات في جرائد و مجلات فرنسية ذات صبغة سياحية, و هو بالتالي يلمح إلى أن بن جلون لا يستحق كل هذا الإهتمام الذي يتمتع به في فرنسا و الغرب, كما أنه يشكك و لو ضمنيا في عالمية كاتب "أن ترحل" الأدبية. فشكري يقزم مكانة بن جلون الأدبية و ينظر إلى أعماله نظرة احتقار. و يسترسل شكري في انتقاده قائلا: "من مساوئ فشل بعض الكتاب هو أن مصيرهم يتقرر بما يختاره لهم نقادهم و قراؤهم. و هكذا لم يستطيعوا اكتساب شخصيتهم. إنهم عيال على الأدب. فالموضوع يملى عليهم من هذه الفئة أو تلك . . . {إنهم} يكتبون تحت الطلب. و بحكم هذا التبرير القاصر جعلوا الأدب يخضع لمشاكل عصرهم التجارية مثلما تخضع الأشياء لقياس الحجم. . . . و المثال النموذجي على مثل هذا النوع من الكتابة, التي هي في العمق لا ترقى إلى درجة الكتابة الأدبية إلا تجاوزا, هو ما يكتبه الطاهر بن جلون تحت الطلب. و معروف أن له مكتبا خاصا في لوسوي و يتقاضى أجرا شهريا عن أي كتاب مطلوب منه أن يكتبه خلال شهور أو سنة على الأكثر . . . مثل هذا النوع الذي يكتبه الطاهر بن جلون و غيره يصار تجاريا محضا. إنها كتابة تتلاعب بمشاعر أفقر القراء ذهنيا" 15. يرى شكري أن كتابات بن جلون تفتقر إلى القيمة الفنية باعتبار التأثيرات الخارجية المهيمنة على المنحى الذي تتخذه و الكابحة للصوت الداخلي الحقيقي للكاتب. كتابات بن جلون, حسب شكري, تتودد للقارئ الغربي بغية الفائدة المادية, و لا شك أن أي فعل كتابة تحركه أصابع أجنبية خفية يقيّد صوت و خيال الكاتب و بالتالي يؤثر سلبا على المسار الأدبي ليس فقط لكاتب بعينه بل لمجتمع ما بأكمله. و هنا تبرز خطورة التصوير الأدبي المعوج و المشوه لثقافة مجتمع أو قبيلة ما و دور حقل ما يسمى بالأدب العالمي في هذا الإنزلاق. فشكري يتهم بن جلون و "أدبه العالمي" في تشويه الواقع و الثقافة المغربيتين. شكري ليس وحده من يرى خلل في كتابات بن جلون. فقد تطرق من قبله الأكاديمي محمد بوغالي في دراسة بالفرنسية للروايات الأولى لبن جلون و خلص إلى أن هذا الأخير يكتب عن المغاربة و العرب بطريقة متهورة و أنه ينشر تحت الطلب. و من تم فهو لا يعدو يكون "مسلّي إيزوتيكي" حمل على نفسه منذ بداية مساره الأدبي مهمة تسلية الفرنسيين "و خصوصا الأوساط الثقافية الباريسية التي تعاني من كثرة الملل" 16. نقد بوغالي لأعمال بن جلون يصير في نفس الإتجاه مع نقد شكري لكاتب "أن ترحل". و من بين الطرق السهلة لدى الكاتب الشرقي/العربي لنيل رضا جمهور القراء في الغرب هو الخوض في تعرية كل ما هو سلبي و قبيح و متطرف داخل المجتمعات الشرقية ذات الغالبية المسلمة. و أود هنا أن أنتقل لمناقشة تيمة ذات أهمية بالغة في رواية "أن ترحل" و نخص بالذكر تيمة "التطرف أو الإرهاب الإسلامي" و التي تعد من المواضيع الراهنة و الشائكة و تستقطب زخم إعلامي كبير في العالم الغربي ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. إن الغوص في موضوع "التطرف أو الإرهاب الإسلامي" يأتي كاستراتيجية سرد ترفع من سقف الإغواء و الجاذبية داخل الرواية و هي تؤدي في نظرنا نفس الدور الذي تضطلع به تيمتي الجنس و المثلية الجنسية. إن بن جلون يبالغ في تصويره السردي من تهديد ظاهرة التطرف الإسلامي. و هو موضوع يصادفنا في الصفحات الأولى من الرواية, فنرى عزيل يتم استدراجه من طرف شخص "يعرض عليه فرص عمل و إمكانية السفر" خارج المغرب 17. إلا أن عزيل يدرك على الفور أن هذا الأخير يعمل ك"مجنّد" إسلامي لإحدى القضايا الخفية و الغامضة, و بالتالي لا يتوانى في رفض عرضه 18. سيعاود هذا "المجند" الإتصال بعزيل بعد ستة أشهر و سيعرض عليه هذه المرة "فرصة تدريس حصص في مادة القانون في مدرسة خاصة" 19. و يكاد عزيل أن يقبل هذا العرض إن لم يشترط هذا المجند أنه "من حين لآخر سيتم إرساله في مهام لدول لا يحتاج المغاربة للفيرا من أجل ولوجها" 20. بذكائه يفهم عزيل أن كلمة "مهام" ليست إلا عبارة ملطّفة لمعسكرات التدريب في بلدان مثل باكستان و أفغانستان. و بالتالي يرفض عزيل مرة أخرى و يعود المجنّد إلى حال سبيله خاوي الوفاض. لقد صمم بن جلون شخصية عزيل على هذا القالب ليجعلها تقاوم و تنتقد و تسخر من خطاب الإسلام السياسي و الراديكالي. فعزيل سيظل دائما يتذكر قصة صديقه محمد العربي الذي تم استدراجه ليلتحق بجماعة إسلامية متطرفة عن طريق خلية سرية لها تعمل بمدينة بروكسيل ببلجيكا و يكون مصيره الإختفاء إلى الأبد و ربما القتل 21. إن الرواية مليئة بإشارات لأنشطة إرهابية تقوم بها جماعات إسلامية متطرفة تعمل داخل القارة الأوروبية. و في تطور عجيب للأحداث داخل الرواية سينتهي بعزيل الأمر في أن يصبح واش لصالح الشرطة الإسبانية و تكون مهمّته التجسس على أفراد الجماعات الإسلامية بإسبانيا 22. و سيكون مصيره, بعد أن انكشف أمره, القتل و بطريقة جد وحشية على يد الإسلاميين, فقد وُجد في منزله "ممدودا على الأرض مقطوع الحلق: فالإخوان ذبحوه كما تُذبح الأضحية يوم العيد" 23. يا لها من نهاية تراجيدية لبطل الرواية عزيل أو عز العرب. إن حادث القتل المروع لعزيل على يد المتطرفين الإسلاميين يغازل الإهتمام المُضاعف للغرب بظاهرة التطرف الديني داخل الأقطار ذات الغالبية المسلمة و خارجها. فالأعمال الأدبية التي تتطرق لظاهرة "الإرهاب الإسلامي" تحظى في الغالب باهتمام دور النشر و القراء في الدول الغربية. إن المنظر المرعب و البشع لجثة عزيل المقطوعة الرأس تكاد تكون سوريالية و يمكن تأويلها كأداة سردية أو كخطوة بلاغية من طرف الكاتب بهدف الرفع من جاذبية و إغراء الرواية. إن بن جلون يعطي القارئ صورة مبتذلة و جد مبسطة عن ظاهرة التطرف الإسلامي, صورة تتماشى مع متخيّل الغرب, و هو بالتالي يفشل في تقديم طرح عميم و دقيق و مركّب لهذه الظاهرة. و هذا المعطى يتوافق مع المسار العام للرواية في تعريتها للمصائب و المساوئ و البلايا التي يعاني منها المجتمع المغربي و المجتمعات العربية الإسلامية بشكل عام. و تجذر الإشارة إلى أن رواية "أن ترحل" تسلط الضوء على مشاكل اجتماعية إضافية عدة من قبيل شبكات الهجرة السرية و الدعارة و تجارة المخدرات و الفساد داخل مؤسسات الدولة و التعذيب في السجون المغربية و انتهاكات حقوق الإنسان و النفاق الإجتماعي و الديني و هلم جرا. إن أدب بن جلون بشكل عام يعطي صورة قاتمة عن المجتمع المغربي بتركيزه حصريا و باستمرار على كل ما هو سلبي. إن هذا النوع من الأدب يعطي صورة غير متوازنة على الإطلاق و هو بالتالي يدعونا لفحصه و استجوابه بغرض كشف أية أجندة خفية ممكنة تحدد مساره العام.