هم يسمونه عاطلا. وهو يصر على تسمية نفسه بالمعطل. اسمه سعيد، لكن نصيبه في السعادة كنصيب القاتل في الميراث.سعيد وكر للشقاء وعرينه، يرافقه.. يصاحبه.. يجالسه في مقاهي اللهو والمجون..يدخنه في لفائف التبغ والحشيش والكيف.. ينادمه في الحانات، فيشربه على مهل في كؤوس "الروج" جرعات تلو الجرعات.. يتراءى له في الشواطئ والحدائق والمسابح والأرصفة... تتعثر به قدماه في الطرقات والأزقة.. يحلم به.. ينام بجنبه –إن كان الشقاء يأخذه نوم- الشقاء أسمال بالية يتسربل بها في العشي والإصباح... صرخ من أعماق قلبه. ألقى بكلمات اليأس جانبا وتففها.. قرر أن يتحدث لغة الأمل.. أن ينزع إزار الموت، ويرتدي رداء الحياة. خاض معركة البحث عن السعادة بضراوة.. أين..!؟ بحث عنها حيث يجالس الشقاء، وكأنه لا يتورع.. كلما تقدم في البحث عن السعادة، كلما كبر الشقاء في دواخله، وتناسلت فيروساته، وتكاثرت خلاياه على أرضه الخصبة. وجد عملا.. زاوله أياما.. فما وجد ضالته. طلق العمل، ثم عاد للبحث عنها ثانية في مزابل الحياة. لكل هذا صار معروفا لدى رفاق الدرب ب"سعيد مِيزِيرْيا". خالد من أفضل جلسائه، حتى جليسه هذا يتراءى له أحيانا وجها آخر من وجوه الشقاء. قال خالد وهو يسحب نفسا من سبسيه الطويل: - يبدو لي يا سعيد أنك لا تبحث عن السعادة في مواطنها، وكأن السعادة تقطن في الشمال وأنت تبحث عنها في أقاصي الجنوب. رمقه سعيد بنظرة شزراء. قال في نفسه: - هذا التافه يعلمني مواطن السعادة.. بالأمس كنت أعلمه، فصار اليوم يعلمني.. أضاف خالد متجاهلا نظرة صاحبه: - لو كنت تبحث عنها في موطنها لكان اسمك على مسماه ولو لم تبلغ السعادة.. يكفيك أن تسعد بما يصلك من أنوارها وأنت تحوم باحثا في أطراف قلاعها وشعابها.. رمقه بنظرة أخرى وتجاهل كلامه. سأله خالد بتهكم: - قل لي: تفر منك ضالتك أم تفر منها..؟ أجاب وهو يلف لفافة حشيش: - لا هذا ولا ذاك... أضاف: - وجدتها..!!! - أين..!؟ - في العمل... سأل خالد ثانية وبتحمس أقل: - ولم اتخذتها ظهريا..؟! - ............................. - لماذا..؟! انشغل بلفافته. - .................................... - آه... كنت تستعظمها، وحين بلغتها وتمكنت من تلابيبها استصغرتها.. ربما وجدتها تافهة... أم بدت لك سهلة المنال فاحتقرت أمرها..؟ أضاف وهو يفك أجزاء سبسيه وينظفه: - لا عليك يا عزيزي فأغلب الناس مثلك.. رمقه بنظرته الشزراء المعهودة وقال: - لم أتخل عنها.. وما استصغرتها... قل: لم أجدها.. قهقه خالد بشكل هستيري.. لم يلتفت إليه من رواد المقهى أحد. كلهم مخمورون بالكيف والحشيش. قال: - أصبحت فيلسوفا حاذقا... اشرح لي كيف.. أضاف: - لكن دع الفلسفة التي درستها جانبا. أطرق سعيد يتفوه بكلمات تشبه كلام الحلاج في غموضه: - وجدتها متسربلة بأسمال التعب.. بأسمال البؤس والشقاء.. وجهها مشوه بمساحيق (خالد يتابع المشهد بعينين مفتوحتين وأبواب الفم نصف مشرعة) اقتربت منها وصرخت في وجهها: - ما بالك يا ضالتي..؟! غيرك يضع المساحيق للتجميل، وأنت تضعينها للتقبيح.. انزعج خالد، وسرت في جلده قشعريرة خفيفة. تابع سعيد كلامه: - قالت: - لست أنا من وضع المساحيق.. - ومن وضعها يا ترى..؟! - أنت.. - أنا..؟! أنا..؟! ضحكت وأضفت: أين وجدتك لأفعلها..؟! - أنت.. أنت من فعلها.. تراجعت محاولا الفكاك من وجهها البشع، أمسكت بي وقالت: - لا تنزعج مني.. فأنت من صيرني هكذا.. أنا جميلة المنظر.. حلوة المذاق..شوهتني وشوهني أمثالك.. حاولت ثانية التخلص من يديها فبؤت بالفشل. سألتني والابتسامة تعتري قسمات وجهها القبيح: - هل تريدني بوجهي الجميل الجذاب..؟ انشرح صدري وقلت: - أجل.. أجل يا ضالتي.. يا فاتنتي.. قالت على جناح السرعة: - أهجر كل أفعالك وخصالك الذميمة. - وبعد..؟ - عليك برأس الحكمة. - وما رأس الحكمة؟ أجابت وهي تفك أسري: - مخافة الله.. واختفت عن بصري. قهقه خالد ثانية وبأبشع صورة وقال: - ألم أقل لك اطرح الفلسفة التي درستها في المزابل.. سأله سعيد باستهزاء: - وهل يعرف أمثالك ما هي الفلسفة..؟ - هي طريق الجنون الذي تسير فيه.. تجاهل الإجابة ومرر لسانه على لفافته وقال: - اسمع يا خالد.. من الآن سأبحث عنها في كل الأمكنة والأزمنة.. - ولم تستنفذ بعد كل الأمكنة والأزمنة..؟ - ليس بعد.. سأبحث عنها في الشمس والقمر.. في البر والبحر.. في الموطن والمنفى.. في البلدة الدانية والجزيرة القاصية... ضحك خالد ثم وجم بعدما وقع نظره على شرطيين يقفان بعتبة باب المقهى.. ألقى سبسيه بعيدا لدرء الشبهة.. كذلك فعل كل من كان بيده ما يدينه. سعيد وحده لم يكترث لأمر الشرطيين، بل تمتم قائلا: - هذه فرصتي..!! أشعل لفافة الحشيش ببطء.. عب منها نفسا.. حبسه برهة داخله، ثم زفر رافعا رأسه إلى أعلى كذئب يعوي. رمقه خالد بنظرة مشفقة وقال كالهامس: - ارم عنك "الزبل"... ألا تراهم..؟! - ألم أقل إني سأبحث عن ضالتي في ما لا يخطر على قلب بشر. - تبا لك.. تبا... ماذا تنوي فعله..؟! أجابه وهو يغمزه بعينه اليسرى: - السجن إن كان لي فيه نصيب. انقض عليه أحد الشرطيين، وانشغل الآخر بالسلام الحار على القهوجي!!! أُدخل سعيد مخفر الشرطة. قُدم لأحد الضباط. أجال فيه الضابط عينيه: - ماذا كنت تفعل في المقهى..؟ - أناقش موضوع السعادة.. ابتسم الضابط ابتسامة الساخر: - لا عليك.. أين وجدته..؟ - ماذا..؟! - الحشيش..؟ - في جيبي.. صفعه الضابط، وركل مكتبه، وصرخ: - وهل ينبت الحشيش في جيبك يا مغفل..؟ أجاب سعيد بهدوء قاتل: - كلا.. وحاشا.. بل ينبت في كتامة.. - هذه عرفناها قبلك.. - ولم تسألني أين وجدته..؟! - أعني من عند من اشتريته يا جحش..؟ - لماذا تدينون شاربها وحاملها، وتزيغون الأبصار عن عاصرها ومعتصرها..؟ - هم عندنا كأسنان المشط.. قلت لك من عند من اشتريتها..؟ - بل كأنامل اليد.. نادى على شرطي بأعصاب جد هادئة: - وا عبد المجيد أجي هز علي هاد الكلب... أضاف: - ضعه في الزنزانة مع بقية الكلاب.. - شكرا لك يا حامي أمننا.. فكم انتظرت هذه الزنزانة... عساها تقودني إلى بلوغ رأس الحكمة.. وهي وحدها من سيزيل رداء القبح عن السعادة ضالتي.. حضر الشرطي.. كبله.. أطرق الضابط يفكر في قوله وقال: - عبد المجيد.. اطلق سراحه.. والله لن يحقق عندي حلمه..!!!