1-الحجاج :المخرج البارع نصادف في خطبة الحجاج ممثلا بارعا يملك من الحذق الفني الشيء الكثير ، يتقمص الدور بحرفية عالية ، يستولي على العقول، ويبهر العيون ،ويستفز السامع، سلاحه في ذلك براعته التمثيلية وحرفيته التشخيصية وفصاحته المبهرة، وهو ما جعل خطبته يتحد فيها المحتوى بالصورة والسكون بالحركة اتحادا لا انفصال بينهما. ولم يكتف الحجاج بإلقاء خطبته إلقاء سرديا تقليديا يخلو من إبهار الصورة، بل اتبع طريقة إخراجية بديعة توحي بالتمكن من أساليب التمثيل ، و أبان عن براعة في الاستيلاء على القلوب وإبهار العيون، خاصة، أن المقام يتطلب إبهارا مفضيا إلى الترهيب وزرع بذور الخوف في النفوس ،وهو ما قام به الحجاج\المخرج\الممثل على أكمل وجه وأتم صورة. والناظر في شعرنا القديم خاصة فيما يتعلق بإنشاد القصيدة أن الشاعر كان يجهد نفسه في إخراج قصيدته إخراجا فنيا بديعا ينال الإعجاب قبل أن يندمج في إلقائها على المسامع، وكان من شأن هذا الاستباق الإخراجي أن يجعل المتلقي في شغف لتقبل ما سيلقى عليه من شعر قد يبلغ درجة الجودة وقد لا يبلغها، وهنا كان الشاعر يوظف مظهره وحركاته وصوته وكل ما أوتي من قدرات وأساليب وربما ألاعيب كي يوصل شعره بالطريقة المثلى المؤثرة ، ولم تكن الخطابة بعيدة عن هذا الشكل التقديمي الذي يسعى من خلاله الخطيب إلى إبهار السامع\الناظر إبهارا ينسيه المضمون أحيانا ، سلاحه في الإبهار مظهره وصوته وحركاته وبلاغته وفصاحته. ولعل الوقوف على خطبة الحجاج عند دخوله العراق حين توليته أميرا عليها من قبل عبد الملك بن مروان، يكشف مدى حرص هذا الخطيب المصقع على اختراع أشكال إخراجية مسرحية وإبداع طرق تقديم لا تخطر ببال أحد ، تظهر في عمقها دهاء خلاقا وحذقا نادرا، كما تظهر خبرة بالنفوس التي عادة ما يبهرها المظهر دون المخبر، والشكل دون المضمون أو لنقل الصورة دون المحتوى،لهذا وجدناه في كل مرة يخترع طرق إخراج هي ما هي الجدة في خطبه سعيا منه إلى الإبهار المؤدي إلى الإقناع . 2-براعة الإخراج المسرحي وتجلياتها: تكشف خطبة الحجاج الشهيرة الأولى في أهل العراق إبداعا منقطع النظير في طريقة الإخراج وصدم المتلقي واختبار النفوس ، ويمكن رصد هذه البراعة وهذا الإبداع في النقط التالية: أ-المظهر: إن الناظر في الأدب القديم شعره وخطابته يلاحظ ما للزي والمنظر من أهمية في عملية إخراج العمل الأدبي وتلقيه بعد ذلك ،وهو ما نصادفه عند الشعراء فيما اتصل بالإنشاد، وفي هذه الخطبة اهتمام كبير بالزي ،ذلك أن الحجاج صعد المنبر وهو معتجر "عمامة خز حمراء" توحي سيميائيا بالدموية وبالآتي من أيام البطش والتنكيل،و"تنكب قوسا" وتقلد "سيفا" في نفس الوقت، وفي ذلك ما فيه من نية مكشوفة ومعلنة للدخول في حرب وللغاية التي من أجلها أرسل به إلى العراق وهي تشذيب أشواك الفتنة وقطع دابرها، ناهيك عن "اللثام" الذي لم يزحه ،مكتفيا بإظهار العيون استكمالا لمسلسل الرعب حتى يترك القوم في حيرة من أمرهم ،وهو ما تم فعلا إذ بدأوا في التساؤل عن هذا الذي أرسله لهم بنو أمية. ب-الحركة: حركات الحجاج قبيل خطبته مدروسة، غايتها استفزاز الحاضرين وجعلهم في حيرة من أمرهم، حيث اتجه بادئ الأمر صوب المنبر وصعد إليه وجلس دون أن يعلمهم بالأمر والمناسبة، وبمجرد جلوسه هدأ لا يتكلم وأخذ ينظر يمينا وشمالا يختبر بذلك النفوس ويدرس نفسيات الحاضرين تمهيدا لصعقهم، ولعل ما قام به الحجاج من تقديمات كان بغاية صرف الانتباه عن قصر قامته التي يمكن أن تقتحمها الأعين فيفشل مخططه وتفشل بعد ذلك مهمته. لقد كان اعتماد الحجاج إذن على العين في تحركها يمنة ويسرة لدراسة الوضع ومحاولة اختيار اللحظة المناسبة لإطلاق خطبته التي كان قد أعدها سلفا. ج-الصوت: لم ينبس الحجاج بداية الأمر ببنت شفة بل اكتفى كما سبق بحركات، واتخذ مظهرا عليه سيماء الغرابة ،ولما وجد الوقت مناسبا أطلق العنان لصوته الصادح الرهيب وأنشد بيت "سحيم بن وثيل" بجهورية وقوة هدفها التأثير على الحاضرين وإرهابهم ، والملاحظ أن ارتفاع الصوت في هذا المقام مدروس ومطلوب، إذ لا يعقل أن يتكلم بصوت خافت يجلب عليه السخرية والهزء من قوم درجوا على عزل الولاة كلما رغبوا . د-صدم المتلقي: لما نجح الحجاج \الممثل في إبهار الحضور واستفزازهم بلباسه البدوي الغريب الذي يختلف عن لباس الحضارة ،وحمله للسيف وتنكبه للقوس وكأنه داخل معركة ، ظل يتحين الفرصة الملائمة للانقضاض على الفريسة، وبدء الخطبة التي لم يكن من الحكمة والذكاء الدخول فيها مباشرة خاصة وأنه يخاطب قوما مردوا على النفاق وتعودوا على شق عصا الطاعة ، وهكذا كشف عن نفسه بطريقة فيها إبداع سينمائي يتماشى مع السياق، وحسر اللثام عن وجهه معرفا بنفسه عبر قناة الشعر صادما المتلقي ،وكان هذا التعريف ببيت للشاعر الجاهلي سحيم بن وثيل: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ---متى أضع العمامة تعرفوني ولقد كان الحجاج ذكيا في اختيار البيت المناسب الذي ورد فيه ذكر العمامة ووضعها ، ويشير معنى البيت إلى أن الحجاج عارف بالأمور صغيرها وكبيرها مستعد للصعاب وركوب المخاطر. وبعد هذا التمهيد المرهب المخيف الذي جعل المتلقي يتهيأ لسماع ما سيلقى، صار الحجاج يلقي سحائب وعيده وترهيبه دون أن يجرؤ أحد على مقاطعته وكيف يقاطعونه وقد نال الرعب منهم ، وبلغ من نفوسهم كل مبلغ، وطارت قلوبهم شعاعا. 3-خطة الحجاج في إلقاء خطبته: لقد خرج الحجاج في هذه الخطبة عن الطريقة التقليدية في إلقاء الخطب ، واعتمد طريقة تقوم على الإيهام والمفاجأة، رغبة في تغيير الصورة النمطية عن الخطيب ،وصدم المتلقي وخلخلة تصوراته قبل المضي قدما في إلقاء الكلام على المسامع والآذان، ولعل الهدف تحقق عندما لم يستسغ الحضور أفعال وحركات الحجاج فهم بعضهم برميه بالحصب ، وهكذا يكون الحجاج قد نجح في طريقة إخراجه للمسرحية. ولعل الناظر في مقدمة الخطبة يلحظ أن الحجاج نجح في التوفيق بين طبيعة الخطبة ومقامها وسياقها وبين طبيعة المظهر والحركة والصوت ، وهو ما أعطى للخطبة تناسقا بين مضمونها ومحتواها وبين طريقة إخراجها وتشخيصها. اتبع الحجاج إذن خطة بديعة تنم عن ذكاء و خبرة بالنفوس ودربة بالخطابة التي ليست مجرد إلقاء للكلام على عواهنه، بل فنا يقوم على التمثيل وأداء الدور بحرفية ودقة وفنية عالية ،ولعل غاية الحجاج كانت إبهار العين بالصورة قبل إبهار العقل بالمضمون، وفي ذلك تلعب بنفسية المتلقي حرصا منه على ألا يخرجه من حالة الصدمة ويحقق المراد الذي هو التخويف والترهيب ،والواضح من سياق الخطبة أن الحجاج كان على معرفة بطباع أهل العراق وطريقة تفكيرهم التي لا تؤمن بالتي هي أحسن ،بل يصلح معها الحزم والعزم خاصة وأن ولاة كثيرين لم يفلحوا في استتباب الأمن فيها . و نهاية تكشف الخطبة وعيا عميقا بأهمية الدور التشخيصي التمثيلي في إنجاح الخطبة ، لما يضفيه من بهرجة صورية تؤثر في المتلقي بادئ الأمر من خلال صدمه شعوريا والتمهيد للكلام الآتي .