من بين القصص والحكايات التي دائما ما تلهمني وتشد انتباهي عند قراءتي للقران الكريم أو عند تدبر علم قدرنا المستقبلي والخفي وأرغب مشاركتكم إيها هي قصة كليم الله النبي موسي عليه السلام وسيدنا الخضر، ذاك الرجل والولي الصالح والذي صنف عبر العصور والكتب والقصص السماوية سواء عند المسلمين او اليهود أو المسيحين من بين أكثر الشخصيات جدلا، هذه الشخصية " الملائكية " التي عندما نتعمق فيها غالبا ما نجد دلالات على نبوءتها ورسالتها المعينة، والتي تتجلى في رحمة النبوة وعلم الوحي مصداقا لقوله تعالي" " فوجد عبدا من عبادنا اتيناه رحمه من عندنا وعلمناه من لدنا علما" وما قام به من فعل جريء لا يقوى عليه شخص، كقتل طفل لعائلة ضعيفة وتعييب وتخريب السفينة على الرغم من كرم أهلها له وبناء الجدار وكل هذا بأمر من ربه، لأن علم الغيب والقدر ومصير الأحداث لا يعلمها الا هو وبأمر من الخالق سبحانه وتعالى، إضافة الى تواضع النبي موسى عند لقائه واتباعه مصداقا لقوله تعالى " هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا" وقوله تعالى" ستجدني ان شاء الله صابرا ولا اعصى لك امرا". حقيقة أن هناك العديد من الأسئلة التي تستوقف ادهاننا وفكرنا وعقلنا نذكر منها: هل فعلا الخضر ولي صالح أم ملك من الملائكة أم نبي أم عالم أم ماذا؟ ما السبب في جعله أكثر علم وحكمة ورحمة من نبي مرسل؟ ما سبب إصرار سيدنا موسى عليه السلام لبلوغ المكان الذي سيلاقي فيه سيدنا الخضر عليه السلام " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ". وهل الخضر حيا كما يدعي بعض العلماء؟ فاذا كان فعلا حيا فما سبب عدم مشاركته وانصافه للأنبياء والرسل بعد موسى، كسيدنا عيسى مثلا عندما تم الامر بصلبه وتعذيبه ؟ ولماذا لم يشارك النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويسانده في رسالته خصوصا وبداية الدعوة وحرب بدر؟ ولماذا سيدنا موسى تحديدا الذي قدر له الله تعالى من بين جميع الأنبياء والرسل أن يقابل سيدنا الخضر الأكثر علما ورحمة؟ هل راجع لان نبينا موسى عليه السلام كان يدعي نفسه أكثر شخص معرفة للعلم بحكم التكلم مع ربه؟ هل بسبب الطبيعة البشرية وما يعتريها من الضعف والخوف والقتل الخطأ والتساؤل والفضول و التلعثم و الغضب الشديد و الأسئلة الفلسفية التي كانت تغلب على ذهن وعقل موسى عليه السلام مصداقا لقوله تعالي " رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ "؟ كل هذه التساؤلات هي كفيلة من ان تجعل الشخص منا يصنف قصة موسى والعبد الصالح من بين أهم القصص وأكترها اختلافا عن باقي القصص الأخرى، ربما هذا راجع لكون هذه القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب، وليس علم الأنبياء القائم على الوحي، إنما نحن في هذه القصة أمام علم من طبيعة أخرى غامضة أشد الغموض، آلا هو علم القدر الرباني الأعلى، علم يمكنه حل والاجابة على أصعب مسألة تدور في النفس البشرية منذ خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. علم الغيب والقدر والاسئلة الفلسفية المحيرة، وهي لماذا خلق الله البشر والشر والسعادة والفقر والغنى والمعاناة والافراح والحروب والأمراض؟ كيف يعمل القدر لتحويل كل سلبيات حياة الانسان الى إيجابيات؟ فالبعض منا قد يرى إلى أن العبد الصالح لم يكن إلا تجسيدا للقدر المتكلم الذي سبقت رحمته العلم الرباني " فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً " وليس علم بشر " هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً" يرد القدر المتكلم ( الخضر ) : " قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً " " وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً " بمعنى هي أقدار الله تعالى فوق كل إمكانيات العقل البشري ولن يستطيع أي انسان حتى الأنبياء والرسل على تناقضاتها المرئية. ومن هنا تبدأ أهم رحلة توضح لنا كيف يعمل علم القدر الالهي؟ فيركبا معا فضول البشر وعلم القدر الرباني، في قارب المساكين فيخرق الخضر القارب "حسب القران الكريم وعند الكتب اليهودية يدعو على قرية لِكَي تَضطَرِبَ أُمورُهُم ويَختَلُّ النِّظامُ عِندَهُم بسبب عدم كرمهم"، تخيل المعاناة الرهيبة التي حدثت للمساكين في القارب المثقوب. فهي معاناة ،( ألم ، رعب ، خوف ، تضرع). جعلت النبي موسى البشري يقول " قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ". وهذا عتاب للقدر كما نفعل نحن تماما في حياتنا اليومية عند تعرضنا لمصيبة من المصائب او مشكلة من المشاكل، ويمضي الرجلان ويقوم الخضر الذي وصفه ربنا بالرحمة قبل العلم بقتل الغلام "وعند اليهودية قتل البقرة على الرغم من كرم أصحابها"، فيزداد غضب موسى ويعاتب الخضر بلهجة أشد " أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا " على الرغم من علمه المسبق بأن الله هو من أمر موسى بمرافقة الخضر والتعلم منه لكن رادات أفعال موسى بشرية مثلنا. ويعيش نفس حيرتنا. ثم يمضيا بعد تعهد أخير فيذهبان إلى القرية فيبني الخضر الجدار ليحمي كنز اليتامى" نفسها في الكتب اليهودية "، وهنا ينفجر موسى، فيجيبه الخضر بالحكمة الربانية في ذلك وفي نفس الوقت نستخلص نحن حكمة القدر وانواعها الثلاثة التي لن نفهم بعضها حتى يوم القيامة " قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا ً" وهي: • النوع الأول: شر تراه ولكنه خير على المدى القريب، وهذا هو النوع الأول من القدر. فما بدا شرا لأصحاب القارب اتضح فيما بعد أنه خير لهم. وذلك عندما علم أصحاب القارب بأن حاكم قومهم آنذاك يريد الاستيلاء على جميع القوارب الخاصة بالصيد والتي في حالة جيدة "وهذا النوع من الشر الذي تراه فتحسبه شرا فيكشفه الله لك أنه كان خيرا" ولنا أمثلة عديدة عليه في حياتنا. • النوع الثاني: شر تراه فتحسبه شرا لكنه في الحقيقة خير وزجاء لكن لن يكشفه الله لك طوال حياتك فتعيش عمرك وأنت تضنه شرا مثل قتل الغلام.. حيث نجد أن أم وأب الغلام لم يعرفا حقيقة ما حدث ولماذا قتل ابنهما ومن قاتله؟ هل أخبرها الخضر؟ الجواب لا، بالتأكيد قلبهما انفطر وأمضيا الليالي الطويلة حزنا على هذا الغلام الذي تمت تربيته اعوام، ليأتي رجل غريب يقتله ويمضي، دون سابق انذار، وبالتأكيد هما لم يستطيعان أبدا أن يعرفا أن الطفل الثاني كان تعويضا لهما عن الأول، وأن الأول كان سيكون سيئا " فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً " فهنا نحن أمام شر مستطير حدث لام واب الغلام. ولم يستطيعان تفسيره أبدا. ولن يفهما حقيقة ما حدث إلى يوم القيامة، نحن فقط الذين نمر على المشهد مرور الكرام لأننا نعرف فقط لماذا فعل الخضر ذلك من خلال القران والكتب السماوية الاخرى؟ أما هما فأكيد لا. • النوع الثالث من القدر وهو الأهم : هو الشر الذي يصرفه الله عنك دون أن تدري لطف الله الخفي. الخير الذي يسوقه لك ربك ولم تراه ولن تراه ولن تعلمه، هل اليتامى أبناء الرجل الصالح عرفوا أن الجدار كان سيهدم؟ اكيد لا، فهل علموا أن الله أرسل لهم من يبنيه؟ اكيد لا.. هل شاهدوا لطف الله الخفي، الجواب قطعا لا. هل فهم موسى السر من بناء الجدار؟ اكيد لا لولا تفسير الخضر لموسى سبب ذلك. حقيقة إننا لن نفهم أقدار الله الخفية، لأنها أكبر من عقلنا ومخيلاتنا على الرغم من ادعاء بعضنا بالعلم لكنه في الحقيقة يبقى اجتهاد محدود مقارنة بالعلم الرباني الخفي، ولهذا وجب علينا أن نستعين بلطف الله الخفي في كل ما نتعرض له في حياتنا اليومية ولنصبر على أقدارنا التي لا يفهم حقيقتها الا الله، ولنكن متعاونين وصادقين مع أنفسنا وغيرنا وافكارنا ومبادئنا المعتدلة ولنثق في ربنا فإن قدرنا حتما كله خير.