من اللحظة الأول لاتصال السماء بالأرض، والإسلام العظيم يعلنها مؤكدًا : "اقرأ"- دعوة العلم الأولى، ومفتاحه الأثير – رافعًا من مكانة العلم إلى المنتهى، وهل من رفعة تدنو من كون المعلم الأول هو الله تعالى : "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ". وفى رحاب هذا المكانة السامية الرفيعة للعلم، تأتى دعوة أبى الأنبياء إبراهيم –عليه السلام-، وابنه إسماعيل عليه السلام، لخاتم النبيين والرسل الكرام محمد – صلى الله عليه وسلم- "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". ويأتى النهج القرأنى فى التعليم متضمنًا ثلاثة ملامح رئيسية هى على الترتيب: الإخبار بمحدودية العلم البشرى "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" ، والأمر بالاستزادة من العلم : " وَقُلْ رَبِّي زِدْنِي عِلْماً." ، والنهى عن المبادرة بما لم يأذن به الله العليم: " وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً"، كما يأتى طلب العلم محوطًا بالعديد من الآداب وفى صدارتها التواضع: نستخلص هذا مما ورد فى سورة الكهف عبر الآيات الكريمة من الآية 60 إلى 82 فى قصة رسول الله موسى –عليه السلام – مع عبد الله الذى آتاه رحمة من عنده سبحانه وعلمه من لدنه علمًا، وهو الخضر – على نحو ما تجمع على تسميته كتب التفاسير – وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبى كعب أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : " إن موسى عليه السلام قام خطيبًا فى بنى إسرائيل فسئل : أى الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لى عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، فقال موسى : يارب فكيف لى به؟ قال تأخذ معك حوتًا فتجعله فى مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ". وذكر الحديث -هكذا يمتثل الخلق جميعًا للمبدأ القرآنى الكريم : "وفوق كل ذى علم عليم" ، ومن يشذ عن المبدأ –لوهم سيطر عليه، أو جهل غطى عليه – كقارون الذى بغى على قومه زاعمًا أن ما آتاه من كنوز المال إنما أوتيه على علم عنده، فكانت العاقبة : "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ". وثانى الآداب: استرخاص الجهد فى سبيل العلم : "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا". - ورحم الله السلف الصالح من علماء المسلمين وطالب حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مهما بعدت أقطارهم، وشقت عليهم أسفارهم، كجابر بن عبد الله الذى رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنس فى حديث، كما أخبرنا البخارى. - والثالق: لغة الحوار بين طالب العلم ومانحه: حيث يفيض الطلب أدبًا ورجاءًا فى لغة موسى –عليه السلام- مع الخضر بقوله :" قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدً، قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لك أمرًا. ولا يخفى ما فى قول الخضر الأخير من التأديب والإرشاد لرسول الله موسى –عليه السلام -، بالرغم من المكانة الرفيعة الكريمة لكليم الله، واصطفاء الله له، وإلقاء المحبة عليه، وتكريمه بتحميل التوراة. ولقد تحققت توقعات الخضر، حيث لم يستطع موسى – عليه السلام – الصبر بعد : خرق السفينة، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار مجانًا فى قرية البخلاء..فكان الإكثار من السؤال، وكان الإنكار، وكان الفراق. وكما جاء فى البخارى، عن النبى – صلى الله عليه وسلم – ، قال : " يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما". وفى صحيح مسلم: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجّل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب". فهل ثمة أمل فى أن يعود أبناء المسلمين إلى قراءة تراث آبائهم وأجدادهم ليستلهموا من القرآن العظيم والسنة المطهرة آداب العلم فى الإسلام؟