أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم. بلاء من أجل رفع الدرجات، وإسباغ المكرمات، والتخصيص بأعلى مراتب القرب وأسنى النفحات. لذلك كم من نبي ابتلي، وكم من رسول امتحن، ففاز ونال من ربه ماوعد الله به الفائزين من عباده: (وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها»( التوبة: 20 - 22 ). والأنبياء والرسل نماذج مثلى للبشرية أفرادا وجماعات فيما يعترضها من شدائد، وما تمر به من محن، ليتبين الذين صدقوا ويتبين الكاذبون (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) ( العنكبوت: 1 2 ). (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) ( البقرة: 212 ). وقال تعالى: (وكأي من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين. وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( آل عمران: 147 ). من هذا الموكب النوراني يسطع نجم نبي كان وسيظل مثلا أعلى في الصبر على البلاء والرضا بالقضاء. ذلكم هو نبي الله أيوب عليه السلام الذي جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة الأنبياء وسورة ص، والذي نقف هنا عند ذكره القرآني في السورة الأولى. قال الله عز وجل: «وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر. وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) (الأنبياء: 82 83). لقد ساق الله تعالى قصة هذا النبي الصابر بكل معاناتها وآلامها وآمالها وحقائقها الإيمانية والإحسانية في لمحة موجزة معجزة. (وأيوب) أي يامحمد واذكر أيوب. ثم إذا بالأسلوب القرآني يلتفت من الحكاية إلى ضمير المتكلم الذي هو أيوب يشكو إلى ربه تعالى ويتوسل إليه بأجمل أسمائه «أرحم الراحمين». ثم إذا بنفس الأسلوب يلتفت من ذلك المقام الخطابي إلى استعمال ضمير العظمة حيث يقول الله عز وجل: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر. وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين). وهكذا يتنزه قارئ الذكر الحكيم بين أساليب متنوعة في هذه اللمحة القرآنية الرائعة في مقامات خطابية بلاغية مناسبة متناسبة. حتى إذا تأملنا مضامين هاتين الآيتين، أو بالأحرى مضامين الدعاء والاستجابة الإلهية ألفينا أن النبي الكريم أيوب عليه السلام دعا ربه باسم من أسمائه الحسنى يعبر عن رجائه في رحمة الله الشاملة المطلقة، وإذا بالاستجابة الإلهية تكون، فعلا، «رحمة» كما قال تعالى: (رحمة من عندنا). إنه تناغم وتجاوب بين مدلول الدعاء ومدلول الاستجابة. وفي ذلك رسالة مفادها أن الدعاء بالأسماءالحسنى يستمطر نفحات ربانية مناسبة لتلك الأسماء أو نابعة من جماليتها. فالدعاء بكل اسم من تلك الأسماء الجمالية يشتمل على دلالات تتجلى خيراتها في الأفعال الإلهية استجابة لتلك الأدعية [الاسم الإلهي الصفة الإلهية الفعل الإلهي). باعتبار أن الدعاء باسم إلهي هو دعاء، في نفس الوقت، بصفة إلهية، تتجلى جماليتها في فعل إلهي أو أفعال إلهية من خلال الإستجابة. وذلك مطمح الداعي ورجاؤه. وهذا كله نأخذه من التناسب بين قول أيوب في الدعاء (وأنت أرحم الراحمين) وقول الله تعالى في الإستجابة: (رحمة من عندنا). والآيتان، إلى ذلك، طافحتان بالبشرى للصابرين وبالوعد بالعاقبة الحسنى للمتقين. وذلك مصداقا لقول الله عز وجل في آيات أخرى هي سنن إلهية لا تتخلف (إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب) (الزمر: 11) (إنه من يتق ويصبر فإن الله لايضيع أجر المحسنين) (يوسف: 90 ) . (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). (البقرة: 156) لذلك فعندما صبر أيوب ذلك الصبر الذي صار مضرب المثل حتى قيل «صبر كصبر أيوب»، عوضه الله أرحم الراحمين خيرا مما ضاع منه، وأبدله بعد المعاناة رخاء، فعاش أسعد عمره، بين أهله، وهو في الآخرة من الفائزين المنعمين برضوان الله تعالى المكرمين برؤيته. (مع الذين أنعمت عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) ( النساء: 68 ) وتؤكد لنا هاتان الآيتان كذلك أن الشيطان لم ينجح في محاولته التيئيسية التثبيطية وحربه الخبيثة على بدن أيوب أهله ، لأن قلب أيوب بقي مع ربه، متنعما في حضرة قدسه، ولأن يقينه عليه السلام ظل أرسخ من الجبال. بل إن أيوب مضرب المثل في الرضا بقضاء الله، مثلما أنه مضرب المثل في الصبر على بلائه. والرضا بالقضاء من أعظم صفات القلوب الموقنة وأكرم خصالها. وهو رضا يعقبه نعيم في الدنيا والآخرة. فأما نعيم الدنيا فرضا الله عن عبده، وأما في الآخرة فالفوز بلقائه والتنعم برضوانه وجنته. لهذا نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر العظيم إذ قال: «عظم الجزاء مع عظم البلاء وأن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط» (رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه). وقد كان أيوب راضيا بالقضاء بقدر ما كان صابرا. فنال الرضا الإلهي السرمدي. وذهبت تلك المعاناة وبقيت الموعظة من قصته (ذكرى للعابدين).