بعيدا عن الجدل القائم حول مراجعة مدونة الأسرة، تعمل وزارتا الداخلية والخارجية وكأنهما جزيرتان معزولتان غير معنيتين بهذا النقاش، حيث شرعتا في صناعة وضع قانوني جديد يتعلق بتحويل الولاية على الأبناء من ولاية الأب إلى شكل ثان من الولاية. في الوقت الذي ينتظر فيه المغاربة خروج خلاصات "لجنة أخنوش لمراجعة مدونة الأسرة"، فوجئوا بإعلان مجموعة من القنصليات العامة بالخارج، بإمكان المغربيات من التقدم لدى مصالحها لإنجاز أو تجديد جوازات السفر لفائدة أبنائهن القصر دون اشتراط حضور أو موافقة الأب. هذا التطور، يجري ربطه بجواب لوزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، على سؤال برلماني حول الإجراءات المتخذة لإنصاف الأمهات المغربيات على هذا المستوى، وعن استعداد وزارته رفقة وزارة الخارجية، لوضع إطار قانوني يمنح الأم حق إعداد الأوراق الرسمية لفائدة أبنائها دون اشتراط موافقة مسبقة من الأب. تجاوز الوضع القانوني القائم حاليا المتمثل في ولاية الأب إلى شكل جديد للولاية، يلزمنا ابتداء التوقف عند الوضع التشريعي القائم حاليا، وتبيان مدى إجحافه وعدم عدله ولا إنصافه بحق المرأة، وحقيقة الحاجة إلى تجاوزه، قبل مناقشة معانيه وآثاره. يدور النقاش في مسألة ولاية الأب على 5 مواد في مدونة الأسرة الحالية، وهي المواد التي تعتبرها منظمات النسوانية مشكلة، وتعمل على تعديلها بما يحقق المساواة بين الجنسين. تقصد المادة 230 من المدونة "النائب الشرعي في هذا الكتاب؛ الولي وهو الأب والأم والقاضي؛ الوصي وهو وصي الأب أو وصي الأم؛ – المقدم وهو الذي يعينه القضاء". وتذهب المادة 231 إن "صاحب النيابة الشرعية: – الأب الراشد؛ – الأم الراشدة عند عدم وجود الأب أو فقد أهليته؛ – وصي الأب؛ – وصي الأم؛ – القاضي؛ – مقدم القاضي". وتعتبر المادة 236 أن "الأب هو الولي على أولاده بحكم الشرع، ما لم يجرد من ولايته بحكم قضائي، وللأم أن تقوم بالمصالح المستعجلة لأولادها في حالة حصول مانع للأب". وتجيز المادة 237 "للأب أن يعين وصيا على ولده المحجور أو الحمل، وله أن يرجع عن إيصائه. تعرض الوصية بمجرد وفاة الأب على القاضي للتحقق منها وتثبيتها". وتشترط المادة 238 "لولاية الأم على أولادها؛ – أن تكون راشدة؛ عدم وجود الأب بسبب وفاة أو غياب أو فقدان للأهلية، أو بغير ذلك؛ يجوز للأم تعيين وصي على الولد المحجور، ولها أن ترجع عن إيصائها، تعرض الوصية بمجرد وفاة الأم على القاضي للتحقق منها وتثبيتها، في حالة وجود وصي الأب مع الأم، فإن مهمة الوصي تقتصر على تتبع تسيير الأم لشؤون الموصى عليه ورفع الأمر إلى القضاء عند الحاجة". إن كل منصف محايد، وهو يطالع هذه المواد، سيجد غريبا اعتبارها انحرافا عن العدل والإنصاف بحق الأم، بقدر ما يحمي حق الأب في ممارسة أبوته تجاه أبنائه، إذ كيف يستقيم أن يحمل الأبناء اسم أبيهم، ويكون ملزما بأداء النفقة لصالحهم، ثم يصادر حقه في معرفة مصيرهم، أو مكان تواجدهم، أو الاطلاع على مستقبلهم؟ واقعة القنصليات، يفتح أبوابا للنقاش والاعتراض، فعلى المستوى القانوني، نحن أمام إلغاء نصوص وأوضاع قانونية قائمة، وتعويضها بتشريعات جديدة، دون مرور على المسار التشريعي العادي والتقليدي في أي دولة تحترم نفسها، وتحفظ مكانة قوانينها، وتراعي الجوانب المسطرية والشكلية لإنتاج التشريعات والقوانين. "تدوينة" على مواقع التواصل الاجتماعي لقنصليات عاملة بالخارج، تصبح نصا قانونيا نافذا، وحائزا لقوة الشيء المقضي به، والأنكى والمؤلم يجري ترويجه والاحتفاء به خطوة إلى الإمام في إطار تكريس دولة الحقوق والحريات والمساواة! أما على المستوى الأخلاقي، فنحن أمام تهريب للنقاش من داخل لجنة مراجعة المدونة، إلى استقواء بالمؤسسات على المخالفين، وإلزام المجتمع بوجهة نظر واحدة، وإقصاء الآخرين. نحن أمام بداية تنزيل تصور "أقلية" اجتماعية في قالب قانوني، ملزم للجميع، في إقصاء غير مفهوم للأغلبية، وبعيدا عن ثوابت المغرب في تدبير مسألة الأسرة بشكل جماعي، مع تحاشي منطق "الأغلبية" و"الأقلية". الأخطر أن هذه الخطوة تضرب عرض الحائط حرص إمارة المؤمنين على الاجتهاد الجماعي في مسألة الأسرة، وعلى ضرورة توسيع المشورة مع جميع الحساسيات، وعلى التوافق بين المكونات، من أجل إخراج نصوص تحظى بقبول أوسع الشرائح الاجتماعية. في هذه الواقعة نقف إزاء ثلاث مصائب، أولها انقلاب على مساطر التشريع كما هي معمول بها في المغرب، فالتشريع أصبح مبنيا على "تدوينة"، وتهريب لنقاش المدونة من عمل لجنة أنشأها الملك، وينتظر الجميع مخرجاتها، إلى تفعيل مطالب النسوانية عبر القطاعات الحكومية، ثانيا، واستمرار التمكين المؤسساتي للانحراف الفكري القائم على المساواة التماثلية بين الرجال والنساء، وتعزيز أوجه الحرب على مؤسسة الأب بعد الطلاق. إن ولاية الأب على أبنائه بصيغتها الشرعية، تمثل أرقى مستويات المساواة بين الأب والأم في مراعات مصالح الأبناء، فمن جهة تمنح الأم حق حصريا للحضانة، بما أنها رعاية عاطفية ونفسية يحتاجها الأطفال، كما تضمن حق الأب في متابعة شؤون أبنائه، وتمكنه من رعاية وتدبير مصالحهم والإشراف على صناعتهم مستقبلهم. تدافع النسويات عن قرار القنصليات، وتعتبرنه خطوة في مسار المساواة، غير أنه يجب أن يتركز في الأدهان باعتباره محاولة اختطاف مدونة الأسرة، وسلوكا أقرب للعصابات لا يشرف المؤسسات والدول.