تحدث الرئيس الأمريكي، جو بايدن في خطاب حالة الأمة، عن إقامة رصيف بحري لاستقبال السفن على سواحل غزة، على أن يكون قادرا على استقبال سفن كبيرة تحمل الغذاء والماء والدواء، كما ستلعب دور "الملاجئ" المؤقتة. تصريحات بايدن، أتت بعد أيام من ابتكار العالم حلا للإبادة الجارية في غزة، لا يضمن وقف القتل بمختلف الأسلحة الغربية، ولا يجبر إسرائيل على وقف الحصار القائم منذ 2006، ولا يلزمها بمغادرة القطاع الذي تحتل أجزاء منه، بل يرمي المساعدات من الجو. وعوض فتح المعابر البرية الموجودة أصلا بين غزة ومحيطها، لعبور المساعدات والأدوية والأشخاص، تفتق العقل الغربي على فكرة إسقاط المساعدات عبر المظلات، فيما ستعمل الصورة على صناعة قناعة أن "غزة أرض بلا سلطة"، "بلا مؤسسات"، "بلا تنظيم"، "بلا إدارة". هذا الغرب صاحب الحل السحري، هو حليف إسرائيل وشريكها، ودوله سلمت العدو كميات تاريخية من السلاح والجنود بعد طوفان الأقصى، وأيضا هو من حدد الأهداف السياسية للعملية العسكرية على غزة، وتحديدا إنهاء حكم حماس ولو عبر ترحيل سكان القطاع. إن إنزال المساعدات على غزة جوا، تنطلق من عقيدة تحقيق إسرائيل الانتصار أولا، لكن مع حفظ صورة الغرب المدافع عن منظومة حقوق الإنسان، لذلك سعيا (إسرائيل والغرب) عبر المساعدات إلى تحقيق ثلاث أهداف هي؛ 1 أرض بلا سلطة: يحاول الغرب فرض تصوره عن قطاع غزة، انطلاقا من مرجعية حكومة العدو، أي خوض الحرب للقضاء على حماس، وفي الحد الأدنى إنهاء الوجود المادي للحكومة/السلطة في غزة، مهما كانت الأثمان. الهجوم على المؤسسات "الحكومية"، ابتداء من الداخلية والأمن، وليس آخرها وزارة الصحة ومستشفياتها، وبعدها هيئات المجتمع الأهلي الفلسطيني المدنية، بما فيها المستشفيات، لم يكن فقط مبالغة في القتل، بل بغاية إحداث "فراغ مؤسساتي" يحول دون تواصل مباشر بين غزة والعالم. قصف معبر "رفح"، ومنع مرور الشاحنات عبر "كرم أبو سالم" بالوقفات، كانت تعمل ضمن نفس الهدف، قطع تواصل مؤسسات غزة مع العالم من حولها. لا يجب أن نغفل انه بالتوازي مع إنزال المساعدات جوا، تعمل إسرائيل وشركاؤها على خلق "هيئة عشائر" تقوم بمهام "حكومة"، عبر خلق إدارة مدنية في غزة، في إطار خطة بايدن لما عرف ب"اليوم التالي للحرب على غزة". 2 إنهاء "الأونروا": عقب نكبة 1948، تأسست " وكالة الأممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "، لتقديم المساعدات، وتنسيق الخدمات بين المنظمات غير الحكومية والأممالمتحدة الأخرى، غير أن أمريكا قطعت في 2018 دعمها عن الوكالة، وفي أثناء الإبادة الجارية قررت كندا وأستراليا وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا، وقف الدعم كذلك. تاريخيا تتهم إسرائيل الأونروا بالانحياز لصالح فلسطين، وسبق لها خلال عشرات السنوات أن اعتبرتها تدعم اللاجئين على الفلسطينيين دون اللاجئين اليهود الذين طردوا من الدول العربية، قبل أن تتهم الوكالة بتحويل مكاتبها إلى مقرات للمقاومة في الإبادة الجارية. الدول الغربية التي أوقفت دعم الأونروا، لم تطرح بديلا عن طريق "الأممالمتحدة"، ولم تعمل على تسليم المساعدات إلى مؤسسات دولية أخرى تعمل داخل القطاع، بل تجاهلت وجودها، وتسعى إلى إبعادها عن الوساطة في تسليم المساعدات. وجود وكالة الأونروا والمنظمات الإنسانية الدولية العاملة في غزة، لم يكن لتوزيع المساعدات فقط، بل يثبت وجود حد أدنى من الإدارة والتنظيم في القطاع، والأهم تنسيق العمل بين غزة ومحيطها، لقد كانت دليلا على التواصل المؤسساتي بين غزة والعالم. 3 التجويع باب الترحيل: تريد إسرائيل تأمين الأراضي المحتلة من عمليات المقاومة، وتطرح لذلك احتلال شمال غزة، وبحد أدنى إقامة منطقة آمنة داخلها، ولأجل ذلك تعمل على ترحيل السكان بالقتل والحصار والتجويع. أخضعت إسرائيل 700 ألف إنسان في شمال القطاع وفي مدينة غزة، لحصار خانق، والشكل الاستعراضي لإنزال المساعدات الإنسانية، لا يضمن حماية السكان من المجاعة، أو تمكينهم من الماء والغذاء والدواء، نظرا للكثافة السكانية، ولقلة الكميات التي تسقط، وللصعوبات التقنية والميدانية للوصول الآمن لهذه المساعدات. الطبيعي والعادي، أن تقوم الدول الراغبة في تقديم المساعدة الجوية بالتواصل مع السطات القائمة في غزة، ويتم ترتيب الوقت والمكان لاستقبال تلك المعونات، غير أننا في حالة القطاع، لا شيء من هذا الأمر تحقق. حديث جو بايدن عن رصيف بحري يحوي "ملاجئ مؤقتة"، يندرج في ذات الخطة الرامية إلى ترحيل السكان وإخراجهم من المناطق التي تريدها إسرائيل فارغة. بعد 150 يوما من الإبادة، لم تحقق إسرائيل وحلفاؤها الغربيون نصرا عسكريا قابلا للصرف سياسيا، لكنهم لم يتوقفوا عن المحاولة ولو عبر توريط شركاء جدد. إسقاط المساعدات جوا محاولة جديدة في هذا الباب، وعلى الأنظمة العربية أن تفهم أن مسايرة الغرب في حيلة المساعدات، يجعلها منخرطة لا في إسقاط المساعدات بل في إسقاط غزة.