ليس في الكلية ازدحام، وليس هناك مظاهرة تصيح "أمريكا عدوة الشعوب"، ليس هناك معتصمون أمام العمادة يطلبون المنحة، ليس هناك حلقة يتوسطها شاب نحيف يضع يده في جيبه ويلوي رجليه كألف لام ويشرح للمتحلقين نضاله وسنوات سجنه، وكيف تحولت الدولة إلى رأسمالية متوحشة سرقت عرق الكادحين، ومنحتهم للشركات الخاصة، يشرح لهم أن البنية التحتية ليست الطرقات والقناطر بل ملء بطون الجوعى كي تتحرك البنية الفوقية (وهو يشير إلى رأسه ثلاث مرات).. يشير لهم إلى أن عدوهم موجود في الحلقة الأخرى خلفه حيث يصطف الظلام والظلاميون الذين يستحقون الموت... ليس هناك حلقة أخرى يتوسطها شاب بلحية مشذبة تفوح منه رائحة المسك، وشابة بجلباب بني وحجاب أبيض.. يصيح الشاب أننا متخلفون لأننا بعيدون عن منهج الله ورسوله، ويؤكد أن الحل في العودة إلى الخلافة الراشدة، وبداية ذلك صحوة الشباب وترك الفواحش والعلاقات الغرامية بين الطلبة والطالبات، يخبرهم أن العدو الذي يحارب الله وأنصاره موجود في تلك الحلقة الأخرى التي يتوسطها الشاب النحيف ويحمد الله أنه بفضل الصحوة تقلصت حلقة العدو وتراجعت إيديولوجيته وأنصاره، وصار بمقدورهم أن يسلخوا جلده نصرة للدين... تتوحد الحلقتان في رفع الشارة لمناضليها وشهدائها ومسجونيها ولأطفال الحجارة بفلسطين.. هؤلاء يرفعون أصبعا واحدا، والآخرون يرفعون أصبعين... وهناك حلقة ثالثة ترفع ثلاثة أصابع (بينما حنان هناك في المقصف ترفع أصبعها الأوسط في وجه صديقتها أسماء لسبب لا أعرفه). الحلقة الثالثة تطالب بحق لغتها في العيش والدسترة، وعلى شعبها المهمش في الجبال أن يقدم إلى المدن ويطرد منها الأعراب الغزاة المستعمرين... خارج الكلية ليس هناك بائع أشرطة؛ لا صوت قرآن ولا صوت أم كلثوم ولا حسني ولا الغيوان ولا الشيخ إمام... ليس هناك بائع أبراج حيث في كل مرة تصر سعاد على اقتناء برجها الذي يبشرها بأسبوع حافل مع فارس الأحلام وبنجاح مهني وترقية، وهي التي تعرف أنها مجرد طالبة بئيسة تأكل من الأرز أكثر مما يأكل "يوهان" .. وتعرف أن أحمد الذي يعجبها تعجبه مريم، ومريم لصيقة بسفيان، وسفيان بارد كسيبيريا لا يشغله غير المحاضرات والبحث عن المونسيو، ولو فكر في أنثى فسيفكر في صاحبة النظارات الغليظة تلك التي تأتي مبكرا وتجلس أمام الأستاذ وتكتب كل شي.. كل شيء، حتى اللاشيء نفسه... ليس على الدرج شابان بشعر طويل مكركب يعزفان على الگيثار ويغنيان لبوب مارلي، ومعهما فتاة بدينة معترقة الإبطين بتيشورت أبيض تضحك كثيرا بصوت مرتفع وتقول كلاما فاحشا. ليلى على دراجة سوينغ سوداء تحكي قصتها مع إعادة السنة الأولى وكيف غيرت الشعبة من الحقوق إلى الأدب العربي.. سمير يقول لها بلكنة مراكشية "إيوا راه ما كايتعاود غير الصلاة على النبي والخطاب الملكي والأولى فلافاك" في مكان ما جنوبي يمسك هاتفا يكتب ذلك، وحتى لا يتأخر يضطر إلى التوقف عن الكتابة رفقا بقرائه وينهي كلامه ب "يكفي أن تعود إلى الكلية لتشعر أنك صغير لم تكبر بعد، وأن ظهرك قوي بإمكانه أن يحمل كل ذكرياتك دون أن ينكسر، لولا أنك قلبك الهش لا يتحمل غيابك وغيابها".