لفت انتباهي شاب يصيح بأعلى صوته مشجعا الفريق الألماني ليتقدم أكثر، همست في أذنه أتظنهم يسمعونك من وراء حجاب؟ أدار وجهه نحوي: "راه خاصهم اغلبوهم أصاحبي"، أخذني الفضول فقررت مواصلة الحوار بقليل من التغابي استفزازا لصاحبنا؛ * راك شي عاشق قديم للبايرن؟ * لا ما نحمل فمهم شعرة. راه هما اللي دارو الحرب العالمية الثانية وحتى الأولى واقيلا كاع. * واييه .. لكن لماذا تشجعهم بهذا الحماس؟ * باش يغلبو الريال. * وما العلاقة؟ * حيت أنا بارصاوي. * حبيبي برشلوني. * هههههه انتهى حوارنا بابتسامة علها تهدئ أعصابه قليلا. والحقيقة أن حوارنا لم ينته، فقد ظلت صورته في مخيلتي فنسجت معها حوارا أطول، وفي نفسي شيء من الغبطة أو ربما الحسد لهؤلاء الذين يحصلون على السعادة بهذه السهولة. نعم سهل جدا أن يفرح أولئك الذين يكفيهم أن يفوز فريقهم المفضل في مباراة لكرة القدم لتنشرح صدورهم وينسون همومهم كليا، فلا فقر ولا مشكل سكن أو صحة أو تعليم أو نقل... بل إنها "بكت على أمها" ومن حقه أن يهلل ويسعد وربما احتاج إلى حفلة تختلف من شخص إلى آخر، من مشروبات غازية إلى مشروبات "لا روحية". بعد كل فوز يخرج هؤلاء مجموعات يرددون أهازيج جماعية، وفي غرفهم صور للاعبيهم المفضلين، وكل نقاشهم مع أصدقائهم يخصصونه لكرة القدم بلا كلل، في الشارع والمقهى والمدرسة... ويقضون ساعات طوال في إثبات أن ميسي أفضل من رونالدو أو العكس، يحفظون أسماء اللاعبين والمسيرين وتاريخ الفريق منذ التأسيس إلى آخر مباراة، يشتمون الحكام الغربيين بالعربية، ويقذفون أمهاتهم بكلمات نابية لأنهم حرموهم من ضربة جزاء. يشترون أقمصة الفريق لفريق حي لا يعرفه أحد، بل إنهم يشترون قميصا واحدا فترى الفريق يلعب كله بالرقم 7 أو 10ويحملون جميعا اسما واحدا. مثل هؤلاء لا ينافسهم في السعادة إلا المتعلقون والمتعلقات بالفن والفنانين، يتتبعون أخبارهم وفضائحهم، ويملؤون غرفهم بصورهم، ويحفظون أغانيهم، ويكفي أن يسمعوا بوجودهم في مكان ما حتى يشدوا الرحال وينفقوا الأموال من الحصول على توقيعهم. فترى منهم من يبكي فرحا معبرا عن سعادة لا توصف. وتعود الفتاة وتعبر عن إعجابها بالفنان أمام أبيها، وتريه صورته وهي تعانقه في لحظة من أجمل لحظات عمرها التعيس، والأب يفتح فاه ويخرج منه "تبارك الله عليك أبنتي" فتغني له أغانيها المفضلة، وتخبره برغبتها في المشاركة في مسابقة غناء تنظمها إحدى القنوات، وتطلب منه أن يدعو لها في صلاته، وتصر عليها في صلاة الفجر بالتحديد أي بعد أن تغلق هي الفيسبوك بقليل. يستمر الأب في فتح فيه وهو يتذكر كل الشتائم التي يكيلها هو وأصدقاؤه لتلك البرامج التي "تعري بنات الناس" وتعرض مؤخراتهن الراقصات للجمهور، ثم ما يلبث أن يقنع نفسه بأن الوقت تغير وهذا جيل آخر والمهم هو أن تحقق ابنته سعادتها. أيها التعساء المنشغلون بهموم الدنيا، وبالناخبين والمنتخبين، والوضع الاقتصادي والاجتماعي بالوطن، وبالأزمة العالمية، والشرق الأوسط، ودول إفريقيا الجائعة، وحرب أوكرانيا، والأطفال المشردين، وانتشار الأمراض والأوبئة، وحال الفقراء والكادحين، وفساد الحاكمين... أيها التعساء إنكم تقولون الكلام نفسه منذ سنين ولم يتغير شيء: لم تحرر فلسطين، ولم تسقط أمريكا، ولم تمت إسرائيل، ولم توزع الثروات بشكل عادل، ولم يتحسن التعليم والصحة والسكن... فجربوا أن تسعدوا قليلا ولتشتروا قميص فريق أوربي وقرص مغنية جميلة ولتسعدوا.. أو اتركوا الشباب يسعد فليس عدلا أيضا أن نعيش كلنا تعساء.