منطلق هذا المقال الرسالة الملكية الموجهة إلى السيد رئيس الحكومة، المتعلقة بإعادة النظر في مدونة الأسرة، وذلك تفعيلا وتسريعا لأجرأة مضامين خطاب العرش لسنة 2022، الخطاب الملكي الذي حدد فيه جلالته الخطوط العريضة لهذا الاصلاح وحدوده ، والذي عزز بالرسالة سالفة الذكر المحددة أيضا للمقاربة والمنهجية الواجب اعتمدهما لإعداد مشروع تعديل مدونة الأسرة والأجل الزمني لعرضه على أنظار جلالته قبل عرضه على المسطرة التشريعية المعمول بها بخصوص النصوص التشريعية من هذا القبيل، فقبل التطرق لمناقشة المضامين التي من المتوقع أن يتضمنها مشروع تعديل مدونة الأسرة الجديد لابد من التطرق للسياق العام الذي فرض التفكير في إعادة النظر في مقتضيات مدونة الأسرة، إذ مر على اعتماد مدونة الأسرة الحالية عشرين سنة إلا عدة أشهر ، ويختلف السياق العام الذي تم فيه إعداد مدونة الاسرة لسنة 2004 جذريا على السياق الوطني والدولي الحالي في كثير من الجوانب الرئيسية، يمكن القول أن سياق إعداد مدونة الأسرة في سنة 2004 اتسم بسياق وطني ودولي متميز ، الذي استوجب إحداث مجموعة من التعديلات على مستوى مجموعة من القوانين في الخمس السنوات الأولى من العهد الجديد بعد تولي الملك محمد السادس مقاليد الحكم ، ومن بينها المصادقة على مدونة الأسرة ، هذه المرحلة عرفت ارتفاع منسوب المقاومة ضد أي تعديل في منحى إعطاء حقوق أكبر للنساء ، وهناك من اعتبر لحظة إعداد هذه المدونة لتعويض مدونة الأحوال الشخصية آنذاك، بمثابة لحظة استفتاء، بين تيارين تيار تقليدي وتيار حداثي وما أخرجها من هذا الخندق الكبير هو التدخل الملكي الذي يعتبر بمثابة تحكيم ضمني بين التيارين ، التحكيم الذي كانت فيه لمسة التحديث والحداثة، وفيه بعد الاستنباط من مقاصد الشريعة السمحة ومواكبة للتطورات التي عرفتها بنية المجتمع المغربي مع الاحتفاظ على الثوابت الرئيسية للشريعة الإسلامية، بالإضافة للتيارات المعارضة كانت بنية المجتمع المغربي تميل لمجتمع تقليدي وسادت مجموعة من المخاوف والهواجس لدى فئات كبيرة من أفراد المجتمع المغربي، بفعل التعبة التي قامت بها أطراف محسوبة على التيار التقليدي آنذاك. يختلف السياق الحالي الذي دعا فيه جلالة الملك بمناسبة عيد العرش لسنة 2022، في خطابه إلى إصلاح مدونة الأسرة بالقول "وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.من هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية"، عن سلفه أن مدونة الأسرة الحالية بعد المصادقة عليها سنة 2004 ساهمت وبشكل كبير في تغيير مجموعة من المعتقدات التقليدانية وخلخلة النظرة النمطية عن المرأة في المجتمع ، وساهمت أيضا في ازدياد نسب التعلم و انتاجية المرأة داخل المجتمع حتى وأن مناقشة هذه المواضيع أصبح متجاوزا في وقتنا الحالي ، بالإضافة إلى المجهودات التي بذلتها مختلف مؤسسات الدولة وهيئات المجتمع المدني في جعل موضوع الرقي بحقوق المرأة في مختلف المجالات الحياتية اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، والذي تم تعززه بالمصادقة على مجموعة من المواثيق الدولية ذات صلة بالموضوع وفي مقدمتها "اتفاقية سيدو" ووقع المغرب على ثمانية من أصل تسع آليات دولية متعلقة بحقوق الإنسان من بينهم اتفاقية سيدو سالفة الذكر، وعلى ثلاث من أصل أربع اتفاقيات للمنظمة الدولية للشغل مخصصة للمساواة منها الاتفاقيتان 110 و 111 الخاصتان بتكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة والأجرة، هذا السياق العام يجعل من مناقشة التعديلات الجديدة المزمع إدخالها على مدونة الاسرة تجد أرضية خصبة بسقف مرتفع عن السابق ، ويعزز هذا أيضا مختلف التقارير التقييمية للمؤسسات المتدخلة والمتتبعة لتنزيل مدونة الأسرة منذ اعتمدها سنة 2004. بعد الانتهاء من السياق العام لإعداد مشروع تعديلات على مجموعة مقتضيات مدونة الاسرة سوف نتطرق الى المقتضيات المرتقب تعديلها في مدونة الأسرة التي أصبحت الآن تحتاج لكثير من التغيرات والتحين لمقتضياتها، لتتلاءم والتطورات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتستجيب لحجم انتظارات وتطلعات كافة القوى الحية داخل المجتمع. فمدونة الأسرة وبعد أن وضعت في مختبر التجربة لمدة 20 سنة تقريبا، ووفق التغيرات المجتمعية السابقة الذكر، ظهرت مجموعة من الثغرات التي يستوجب سدها وتداركها لما لها من أثار سلبية على المجتمع بصفة عامة، وعلى المرأة بصفة خاصة، فهذه الثغرات ظلت ولا زلت تستغل بسوء نية لدى مجموعة من المتدخلين والمعنيين بهذه المدونة، إذ لازال التمييز يشوب العديد من الأحكام المتعلقة بمدونة الأسرة ، وقبل التطرق لمضامين المنتظر أن ينصب عليه النقاش في التعديلات الجديدة، لا بد من التأكيد أولا أن الجهة المكلفة بإعداد مشروع تعديل مدونة الأسرة هي رئاسة الحكومة وفقا لبلاغ الديوان الملكي بتاريخ 26 سبتمبر 2023، وأسند جلالته الإشراف العملي على إعداد هذا الإصلاح بشكل جماعي ومشترك لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، ودعا جلالته المؤسسات سالفة الذكر لإشراك هيئات أخرى معنية بالموضوع وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى والمجلس الوطني لحقوق الإنسان ، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين ، من هذا المنطلق فالهيئات المذكور سالفا هي الجهة الوحيدة المعنية باقتراح التعديلات المزمع إدخالها على مدونة الأسرة ، وهذا لا يمنع من الشروع في الحديث عن الموضوع ولاسيما أننا نتابع النقاش العمومي بشأن مدونة الأسرة منذ سنوات وسوف نحاول التطرق لبعض أهم الإشكاليات المطروحة خلال السنوات الأخيرة وأهمها ما يلي: 1- تزويج القاصرات والقاصرين: تجيز مدونة الأسرة في المادة 20 تزويج الطفلات والأطفال دون وصولهن/م السن 18، بعد إذن القاضي وفي حالات استثنائية وفق شروط. غير أنه في الواقع يعرف زواج القاصرات والقاصرين ارتفاعا تصاعديا. وإذا كانت الضمانات المسطرة المحيطة بزواج القاصرين والقاصرات تعكس الطابع الاستثنائي لهذه التدابير وجعله في الحدود الدنيا وفي الضرورة القصوى، فإن الأرقام الصادرة عن المؤسسات الوطنية تدق نواقيس الخطر بخصوص هذه المسألة، حيث انتقل من 18 ألفا و341 زواجا سنة 2004، إلى 20 ألفا و738 زواجا سنة 2019. وحسب الإحصاءات الصادرة عن رئاسة النيابة العامة في دراسة تشخيصية حول زواج القاصر، تم تقديمها يومي 29و30 نونبر 2021، تنفيذا لاتفاق مراكش ، تمثل طلبات الإناث نسبة 99.79 % من مجموع طلبات الزواج، وهذه الظاهرة لها أثار متشعبة تمس المرأة على جميع المستويات، وتحرمها من باقي حقوقها الدستورية والقانونية، حيث أكدت نفس الدراسة سالفة الذكر، أن الغالبية العظمى من القاصرات المتزوجات، إما دون مستوى تعليمي أو انقطعن عن الدراسة في مستويات تعليمة دنيا. أفرزت نتائج الدراسة أن 13.22% من القاصرات لم يسبق لهن ولوج الأقسام و86.43%، منهن انقطعن عن الدراسة في مستويات تعليمية دنيا، وأظهرت نفس الدراسة أنه كلما ارتفع المستوى التعليمي للطفلات كلما قلت نسبة تزويجها وهي قاصر بفعل إدراكها أهمية تحقيق ذاتها. 2- المساواة في الولاية على الأبناء تتضمن مدونة الأسرة في طياتها مجموعة من المواد التي في عمقها تمييزا ضد المرأة بغض النظر إن كانت تصب في صالح المرأة أم لا، على سبيل المثال لا الحصر، لا تتمتع الأم بنفس الحق في الولاية القانونية على أبنائها القاصرين إلا بتوفر شروط تم تحديدها في الفصل 238 من مدونة الأسرة، منها غياب الأب أو وفاته أو فقدانه للأهلية القانونية. وحتى في حالة وفاة الأب تحرم الأم من هذا الحق إذا كان الأب قد عين قيد حياته وصيا قانونيا آخر على أبنائه، وتسقط حضانة الاطفال على المرأة في حالة ما تزوجت بعد الطلاق، عكس الرجل الذي لا يمس زواجه بعد الطلق في حضاناته للأطفال، ولا يحق للزوجة السفر مع الأبناء المحضنين خارج الوطن دون موافقة النائب الشرعي الذي هو الطليق والذي لا تعلم بمكان تواجده في بعض الأحيان. 3- الزواج والطلاق لا يتمتع الزوج والزوجة بنفس الحقوق والمساطر في إجراءات الطلاق، وحتى التطليق للشقاق الذي جاء باعتباره إجراءً يهدف إلى إعطاء المرأة شروطا تسهل طلب الطلاق دون إلزامية إثبات الضرر أو الاستعانة بالشهود، كما هو مفروض على المرأة في هذه المسطرة. وتنص المادة 39 من المدونة على أنه لا يحق للمرأة المغربية المسلمة الزواج بغير المسلم، بينما يحق للرجل المغربي المسلم الزواج بغير المسلمة. تجسد بعض مقتضيات مدونة الأسرة مظاهر التمييز بين المرأة والرجل وتكرسها بإقرارها للصداق شرطا موجبا للزواج، وباعتبار النفقة على الأبناء والزوجة ملزمة للرجل وحده في الحالات العادية، إلا في حالة عجز الزوج ويسر الزوجة. بالإضافة إلى تكريس التمييز في الإرث، وكذا حرمان الزوجة غير المسلمة والطفل الذي يزداد خارج عقد شرعي من حقهما في الإرث. 4- التعصيب في الإرث تجدر الإشارة إلى أن مسألة التعصيب في الإرث من أهم النقط التي ستناقش في التعديلات الجديدة المزمع إدخالها على مدونة الأسرة لما خلقته من ردود أفعال في الآونة الأخيرة، وما لها من أثر على استقرار الأسر والحفاظ على حقوق أفراد الأسر وخاصة الأسر النووية، وذلك لما عاشه المجتمع المغربي من تحولات اجتماعية واقتصادية بفعل التحول في نمط العيش، ونخص بالذكر الانتقال من الأسر الممتدة إلى الأسر النووية، هذا التحول المجتمعي الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في كل تحيين أو تعديل للنصوص القانونية بغض النظر عن أي خلفيات ثقافية واجتماعية. وكذا محاولة فهم النصوص الدينية انطلاقا من مقاصدها وذلك باستحضار عنصري الزمن والمكان أثناء التحيين والتعديل. وهذا ما أوصى به النموذج التنموي الجديد حيث اقترح في هذا الصدد أن ينصب التفكير في مسألة التعصيب وأن لا تكون بشكل تلقائي، إنما بدراسة الإمكانات في إطار الهيئات المختصة وأن تمنح للقضاة السلطة التقديرية حسب مقاربة تأخذ بعين الاعتبار كل حالة على حدة، ووفق معايير تحيل خصوصا على دور القريب المطالب بحق العصبة في الاعتناء بالهالك قيد حياته.