نزل القرآن الكريم على النبي عليه السلام يخاطب الانسان بكل مكوناته الروحية والعقلية والوجدانية. وهكذا نجد السورة الواحدة، بل الصفحة الواحدة من القرآن تحتوى على آيات تدعو إلى التأمل والتفكر وإعمال النظر، وبجانبها ما يخاطب القلب ويستجيش العاطفة من خلال الترغيب والترهيب. وكانت دعوة الرسول عليه السلام لأصحابه مزيجا من خطاب العقل وخطاب الروح والوجدان والعاطفة. ومضى الأمر على هذه الحال، ثم جاءت القرون المتأخرة فظهرت علوم ومدارس متعددة، واختص بعض أفراد الأمة في الفقه وأصوله والقرآن والحديث وأصولهما، وآخرون في الزهد والترغيب في أمور الآخرة كالمتصوفة والوعاظ والمذكرون والقصاص، وقامت فئة أخرى على إتقان فنون الحجاج وإبراز براهين التوحيد والايمان وهم علماء الكلام. والوعظ فن من فنون الخطاب غرضه استمالة المستمع وتليين قلبه لفعل الخير والاستمرار فيه، وترك الشر والإعراض عنه. قال ابن باديس في تعريف الوعظ: " الوعظ والموعظة، الكلام الملين للقلب، بما فيه من ترغيب وترهيب فيحمل السامع- إذا اتعظ وقبل الوعظ، وأثر فيه- على فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه" . وقال ابن عاشور: " الْوَعْظُ: الْأَمْرُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ بِطَرِيقَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ وَتَرْقِيقٌ يَحْمِلَانِ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْمَوْعِظَةُ" . وقد ظهر خلال تاريخ الاسلام من ينتقص من الخطاب الوعظي ويزدري بأهله، وفي مقدمة هؤلاء بعض الفلاسفة المسلمين ممن تأثروا بمدارس الإغريق التي كانت ترى أن هرم الانسانية السامي يمثله الفلاسفة أهل الحكمة، وأن المشتغلين بالفقه والوعظ تابعون لأصحاب النظر العقلي. كما انتقد الاشتغال بالوعظ بعضُ أهل العلم عندما رأوا أهله انحرفوا به عن أصوله الشرعية، وأدرجوا فيه كثيرا من الإسرائيليات والقصص غير الصحيحة، وغلب على ممارسته من لا صلة لهم بالعلوم الشرعية. وظهر في هذا العصر فئة من المثقفين ترى الوعاظ خداما للسلاطين والحكام، يُشغلون الناس بأمور الآخرة ويلهونهم عن المطالبة بحقوقهم الدنيوية، ويمدحون الحكام ويمجدونهم . وانخرط في تبخيس الوعظ – أحيانا بحسن نية – أفراد من المثقفين وأولى العلم في زماننا، فبتنا نرى من لا شغل له إلا التفتيش عن بعض هنات الوعاظ، ونشرها بين الناس وتنفيرهم من الاستماع إليهم والتفاعل معهم. وأرى أن هذا النهج غير سديد، وأنه يخدم مصالح أعداء الاسلام في تزهيد العامة عن سماع الوعظ من أهله ومن الانتفاع بهم في الثبات على صراط الله المستقيم. إن رسالة الوعظ رسالة جليلة حين يمارسها أهلها، ويتقيدون بضوابطها وأصولها. وهي مهمة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم. فمقصد رسالات رب العالمين هو استمالة القلوب إلى طاعة الله وامتثال أوامره، وقد وصف الله تعالى القرآن الكريم بأنه موعظة فقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] وقال أيضا: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. ونبه الحق إلى فضل الاتعاظ بالآيات فقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } [النساء: 66] . ووصف الله سبحانه الانجيل أيضا بصفة الموعظة فقال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46]. وبين القرآن الكريم أن مهمة النبي الخاتم تجمع بين التعليم والتزكية، ومن وسائل التزكية المقررة الموعظة المؤثرة التي ترقق القلوب. قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. وقد استجاب النبي عليه السلام لأمر ربه، فكان لا يدع مناسبة يعظ فيها أصحابه إلا تخولهم فيها بالموعظة. روى أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية قال ( وعظنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ). وتبعه أصحابه في وعظ الناس وتذكيرهم، وكان عبدالله ابن مسعود يخصص يوما في الأسبوع لوعظ الناس في المسجد. روى البخاري ومسلم عن شقيق بن سلمة : قال : « كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الناسَ في كلِّ خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، لَوَدِدْتُ أنك ذَكّرتَنا كلَّ يوم ، قال : أمَا إِنه يمنعني من ذلك أني أكْرَه أن أُمِلَّكم ، وإني أتَخَوَّلُكم بالموعظة ، كما كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بها مَخَافَةَ السَّآمَةِ علينا ». والواعظ يلقي موعظته على كل الناس، مؤمنهم ومنافقهم، قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا }[النساء: 63]. قال ابن كثير:"{ وَعِظْهُمْ } أي: وانههم على ما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا } أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم". وكان شأن الأنبياء السابقين أن يدعوا قومهم وأبناءهم إلى عبادة الله، وأن يعظوهم ويوصونهم . قال تعالى عن إبراهيم ويعقوب: {وَأوصَى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ () أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132، 133]، وأخبر سبحانه عن وعظ هود لقومه، وكيف أنهم استثقلوا موعظته المليئة بالدلائل والبراهين: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: 136]. تلازم الوعظ مع العلم والحكمة : إن وعظ الناس واستمالتهم إلى سلوك طريق الآخرة لا ينفصل عن العلم والحكمة، وإن تفاوتت النسبة بينهما. وعلق ابن عاشور على قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل: 125] فقال: " ومعنى الملابسة يقتضي أن لا تخلو دعوته إلى سبيل الله عن هاتين الخصلتين : الحكمة والموعظة الحسنة" . والحكمة هي المعرفة الصافية الخالصة من الجهل، وفي مقام الدعوة والموعظة هي: " اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحا مستمرا لا يتغير " . وإن العلم والحكمة يتبعّضان، ومن علم أمرا من أمور الدين فقد أذن له بالدعوة إليه، ووعظ الناس به. ورأى بعض أهل العلم وجود خصوص وعموم بين الموعظة والحكمة، وأنه قد "يسلك بالموعظة مسلك الإقناع فمن الموعظة حكمة ومنها خطابة ومنها جدل" . ومن ثم فالمتصدي للوعظ يحتاج إلى أن يكون عالما بما يعظ به، عنده الحجج التي تناسب ما يعرضه على جمهور السامعين. ورأى أبوالفرج بن الجوزي أن الذي يعصم من بعض آفات الوعظ، ويجعله مشروعا لا كراهة فيه هو أن يتولاه أهل العلم فقال:" إذا وعظ العالم، وقص من يعرف الصحيح من الفاسد؛ فلا كراهة ) . ومن تأمل دعوة الأنبياء عليهم السلام سيرى أنها تتضمن الموعظة المقرونة ببسط الدلائل العقلية التي تخاطب العقل إلى جانب العاطفة والوجدان. فهذا ابراهيم عليه السلام يعظ أباه ويدعوه إلى ترك عبادة الشيطان، ويخاطب عقله ووجدانه وعاطفته قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا () إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا () يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا () يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا () يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } [مريم: 41 – 45]. ونقل ابن عاشور عن شيخه الْوَزِير بيان ما اشتمل عليه خطاب إبراهيم لأبيه فقال:"عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ فِي طَبْعِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ تَحْقِيرَهُمْ لِلصَّغِيرِ كَيْفَمَا بَلَغَ حَالُهُ فِي الْحِذْقِ وَبِخَاصَّةٍ الْآبَاءُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ، فَتَوَجَّهَ إِلَى أَبِيهِ بِخِطَابِهِ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ لَهُ النَّصِيحَةَ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ حُجَّةَ فَسَادِ عِبَادَته فِي صُورَة الِاسْتِفْهَامُ عَنْ سَبَبِ عِبَادَتِهِ وَعَمَلِهِ الْمُخْطِئِ، مُنَبِّهًا على خطئه عِنْد مَا يَتَأَمَّلُ فِي عَمَلِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ سَمِعَ ذَلِكَ وَحَاوَلَ بَيَانَ سَبَبِ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِ لَمْ يَجِدْ لِنَفْسِهِ مَقَالًا فَفَطِنَ بِخَطَلِ رَأْيِهِ وَسَفَاهَةِ حِلْمِهِ، ...ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دَفْعِ مَا يُخَالِجُ عَقْلَ أَبِيهِ مِنَ النُّفُورِ عَنْ تَلَقِّي الْإِرْشَادِ مِنِ ابْنِهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا " . الحاجة إلى تكثير الوعاظ والمؤثرين في الأمة إن حاجة الناس إلى الوعاظ كبيرة، فالصوارف عن الحق متعددة، ودعاة جهنم كُثر، ولو نظرنا في عدد الوعاظ سواء في المساجد أو في غيرها من أماكن تجمعات الناس أو منصات تواجدهم، مقارنة مع عدد من يستميلون الناس إلى الباطل، لوجدنا البون شاسعا. ومما يؤسف له أن بعض أهل العلم ممن لهم باع في علوم التفسير أو علوم الحديث، وعندهم مؤهلات للقيام بالوعظ والخطابة يزهدون في هذه المهمة النبيلة، ولايرضون لأنفسهم أن يكونوا من الواعظين. وهذا من تلبيس إبليس عليهم، وإلا فإن مقام الوعظ والتذكير ونفع العامة من أعلى مقامات العبد عند الله تعالى. قال ابن باديس رحمه الله :" فالمسلم المتبع للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يألو جهداً في الدعوة إلى كل ما عرف من سبيل ربه، وبقيام كل واحد من المسلمين بهذه الدعوة بما استطاع، تتضح السبيل للسالكين، ويعم العلم بها عند المسلمين، وتخلو سبل الباطل على دعاتها من الشياطين" . وإن ثمرة الاشتغال بالعلم وطلبه، أن يبادر العالم إلى تعليم قومه وإرشادهم ووعظهم، وأن يرابط على ذلك. وكان العلماء يوصون من تتلمذ على أيديهم بأن يكون رجل عامة، أي ممن يتولى نفع عامة الناس بوعظهم وتعليمهم ما ينفعهم. ومما أثنى به الزاهد المشهور بشر بن الحارث الحافي رحمه الله على الإمام أحمد بن حنبل أنه امتاز عليه بثلاث خصال قصر هو عنها، أحدها : ( انه نصب اماما للعامة ). هذا الامام الزهري زعيم المحدثين ، ربى أجيالا من أهل الحواضر الاسلامية ، وكان ينزل بالأعراب يعلمهم . وجدد الفقيه الواعظ أحمد الغزالي ، أخو الامام صاحب الاحياء سيرة الزهري فكان يدخل القرى والضياع ، ويعظ لأهل البوادي ، تقربا الى الله . وجعل أبو حامد الغزالي المرابطة على العلم وعلى تعليمه ووعظ الناس به بمثابة الرباط على ثغر من ثغور الدين وقال:" ولا تفهمن من غلونا في الثناء على علم الآخرة تهجين هذه العلوم فالمتكفلون بالعلوم كالمتكفلين بالثغور والمرابطين بها والغزاة المجاهدين في سبيل الله فمنهم المقاتل ومنهم الردء ومنهم الذي يسقيهم الماء ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدهم ولا ينفك أحد منهم عن أجر إذا كان قصده إعلاء كلمة الله تعالى" . وهذا الثناء يزداد شرفا لمن اشتغل على تحبيب الخلق إلى ربهم ودلالتهم عليه وهي أرقى حالات العبد كما نبه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي حين قال محاورا نفسه: " ثم ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل، بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام." إن مقام الوعظ يزداد فضلا ومنزلة بفضل ما تيسر في زماننا من وسائل التسميع والتصوير، ووسائل النشر والتسجيل. فقد أصبح الواعظ يعظ في المغرب ويصل وعظه المشرق، ويستمر أثره بعد وفاته. وإذا كان أبو الفرج بن الجوزي وهو من أكابر العلماء الذين اشتغلوا بالوعظ يجمع المئات في مجلس وعظه، وتاب على يديه الكثير في مجلس واحد، فإنه بإمكان من أوتي مقدرة على التأثير في زماننا أن يعظ في مجلس ويصل وعظه إلى المئات والآلاف ويستمر بعد مماته والأمثلة على هذا كثيرة في المغرب وفي المشرق. مزالق ومحاذير في طريق الوعاظ والدعاة إن طريق الوعظ مع عظيم فضله وشأنه تكتنفه آفات وشوائب، يحتاج المشتغل به إلى الانتباه لها، والحذر من السقوط فيها. وهي ليست خاصة بمن سلك هذا الطريق بل هي محاذير في طريق العلماء والزهاد والمتصوفة والحكام والقضاة وغيرهم، وقد فصل فيها ابن الجوزي في تلبيس إبليس، ونبه على بعضها أبو حامد الغزالي فقال: " وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى وبها يهلك العلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشر ولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة". ومن ذلك: 1- آفة التفريط في العلم والخوص فيما لا علم للواعظ به هذه الآفة كما سبقت الإشارة هي التي دعت بعض العلماء قديما وحديثا إلى انتقاد الوعاظ . فلابد للواعظ أن يكون له حظ من العلم الشرعي، وأن يمزج في خطابه بين مخاطبة العاطفة التي تزكي النفوس وتدفع إلى العمل، ومخاطبة العقل بما يبعد الفرد عن الوقوع في الضلالات والبدع. قال عبد الله بن رفود السفياني في كتابه الخطاب الوعظي:" ومن الأسباب الجوهرية التي نقف عندها بعناية هو التمايز الذي كان يحرص السلف على أن يظل واضحاً جلياً بين حديث القلوب وحديث العقول بين الخطاب العلمي الفقهي الذي يراد به التفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام، وبين الخطاب الذي يراد منه هز النفوس وتذكيرها ونقلها من الغفلة إلى الذكرى بحيث يكون العلم هو الخطاب السائد لا يزاحمه غيره" . إن القول بوجوب الدعوة، والقيام بالتبليغ لا يعني أن يقول الانسان على الله ما لا علم له به، فحفظ بعض الآيات أو الأحاديث لا يكفي في العصمة من الزلل، ومن ثم فلابد للواعظ أن يجتهد في معرفة الأحكام الشرعية، وأن يحرص على ألا يتسرع في الاجابة عمّا لا يعلمه. ومما يحمد لبعض الوعاظ والأساتذة خاصة ممن يوجهون دروسهم ومواعظهم لفئة الشباب أنهم يمزجون في وعظهم بين الجانب العاطفي الوجداني والجانب العقلي النظري، فيقدمون بعض دلائل الايمان العقلية، ويردون على شبهات الملاحدة بأسلوب عصري يناسب فئة الشباب. وإذا كان من تقصير في بسط الحجج فهو مغمور في بحر حسناتهم، ولعل العيب في تقصير العلماء في تجديد علم الكلام العقدي، وربطه بالشبهات والتحديات المعاصرة. 2- آفة التطويل والإملال للمستمعين من الآفات التي يقع فيها بعض الوعاظ، وبعض من يتقاسمون فقرات الوعظ في المنصات الاجتماعية التطويل لحد إملال المستمعين والمتابعين. فتجد الخطيب أو الواعظ يأخذ مكبر الصوت ويسترسل في الكلام منتقلا من موضوع إلى موضوع آخر، والناس ينتظرون ختمه للقيام للصلاة وهو غير آبه لهم، والويل لمن تعجل وطالب الواعظ بالختم والقيام للفريضة. والأدهى من ذلك ألا يُميّز بين الوليمة والمأثم، فيأخذ الوعاظ الكلمة بالتناوب في وليمة عرس أو غيره ولا يراعون المقام وأنه مقام فرح ولهو وتجاذب أطراف الحديث بين الضيوف. قال السفياني في كتابه الخطاب الوعظي: " نعتقد في الغالب أن حديثنا محبب إلى الناس، وأن الناس حين يصغون إلينا في لقاء أو لقائين متيّمون بنا وبما نلقيه على أسماعهم، وقد يكون لبعضنا من القدرة على التأثير ما يجعل الناس فعلاً يقبلون عليه ولكن هذا الإقبال لا يدوم طويلاً كما قد نظن" . إن التطويل لم يكن من هدي النبي عليه السلام ولا هدي أصحابه، بل كان حديثه ووعظه قاصدا مقتصدا، وكان يتخول أصحابه بالموعظة أي يختار الوقت الذي يناسب ويحصل فيه الإقبال عليها، ويلقي الموعظة في كلمات مختصرة بليغة تفي بالمقصود ولا تؤدي إلى السآمة والملل. روى البخاري عن عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما -: " حَدِّثْ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً , فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِم، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، فَتُمِلُّهُمْ ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ , فَإِذَا أَمَرُوكَ , فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَانْظُرْ السَّجْعَ مِنْ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ". ومن الأمور التي تعين على القصد وتجنب التطويل أن يحرص الواعظ ( الخطيب) على اختيار موضوع محدد لموعظته، ويستوفي جوانبه ومحاوره. وأن يختار الاستشهادات القرآنية والحديثية المرتبطة به مع التركيز على المقطع موضع الاستشهاد، ويبتعد عن غير الصحيح إلا ناذرا وفي فضائل الأعمال فقط، وألا يغالي في سرد أسانيد الحديث لأن المقام لا يتسع له. وكلما اعتنى الواعظ بكتابة موعظته، أو على الأقل النصوص القرآنية والحديثية وضبط تنقيطها وشكلها، كلما ساعده ذلك على التركيز وعدم الاستطراد المؤدي إلى التطويل. 3- آفة العجب والغرور والوقوع في الرياء: وهي آفة تحصل من خلال ملاحظة الاستجابة للواعظ، والتأثر بوعظه، وكثرة السامعين له والمترددين عليه. وقد نبه أبو حامد الغزالي على هذه الآفة في كتاب الإحياء وبسطها بشكل جلي ، وبيّن كيف يستدرج الشيطان الواعظ ويجعله لا يخلص في وعظه من خلال حديث النفس: " أمَا لك رحمةٌ على عباد الله تنقذهم من المعاطب بنصحك ووعظك، وقد أنعم الله عليك بقلب بصير ولسان ذلق ولهجة مقبولة، فكيف تكفر نعمة الله تعالى وتتعرض لسخطه وتسكت عن إشاعة العلم ودعوة الخلق إلى الصراط المستقيم، وهو لا يزال يقرر ذلك في نفسه ويستجره بلطيف الحيل إلى أن يشتغل بوعظ الناس، ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقول له إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم، ولم يهتدوا إلى الحق ولا يزال يقرر ذلك عنده، وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعزز بكثرة الأتباع". وإن التاريخ القديم والحديث يشهد لفئة من الوعاظ ومن أهل العلم أيضا ممن أصيبوا بآفة الغرور والإعجاب بالنفس، خاصة عندما رأوا كثرة من ينصت لهم ومن يطري عليهم لكنهم سقطوا وفتنوا فانقلبوا على وجوههم. وقد قال أحمد الريسوني: " شخصيا لم أجد مقتلا أشد على النبهاء والأذكياء من الغرور والاغترار بالنفس إلى حد الافتتان". 4- آفة التحدث دون تثبت: ومن الآفات أيضا ألا يجتهد الواعظ في تحصيل ما يحتاجه من زاد علمي، وذلك بحسن تحضير المواعظ والدروس، والاستعانة بالورقة أثناء الارتجال. فكم من واعظ يعتقد في نفسه الكفاءة والقدرة، فيقوم للكلام في الناس دون إعداد ولا تنسيق للموعظة فتجده ينتقل بين المواضيع دون رابط بينها، ويقع في التطويل الممل. وتزداد هذه الآفة حصولا لمن وقع لهم القبول بين الناس، وأقبلوا عليهم يسألونهم ويستفتونهم. فعلى الواعظ أن يتعلم حكمة مالك وألاّ يقول على الله دون علم، وألا يتحرج من قول لا أدري، أو من طلب التأجيل لبحث المسألة ومدارستها مع غيره من العلماء. ذكر ابن رشد الجد في المقدمات الممهدات عن ورع مالك وتحرجه من القول على الله دون علم فقال: " عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة وذكر أنهم أرسلوه يسأله عنها من مسيرة ستة أشهر، قال: فأخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بهذا. قال: ومن يعلمها؟ قال: الذي علمه إياها. قال عبد الرحمن: قالت الملائكة: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا وروي عن أبي الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة قال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري" . ومما يجب التثبت فيه أن يمحص الواعظ ما ينقله من قصص سواء كانت واقعية أو مروية عن بعض علماء بني إسرائيل. وإن قول النبي عليه السلام فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة – رضي الله عنه – : « حَدِّثوا عن بني إِسرائيل ، ولا حرج ». " يعني التحديث بما بالصحيح، وإلا فإن كثيرا من مرويات بني إسرائيل فيها الكذب، وبعضها مما يناقض صريح المعقول. 5- آفة البعد عن واقع الناس ونوازلهم: ومن الآفات والمنزلقات التي يقع فيها بعض الوعاظ أن يبتعدوا عن هموم الناس وقضاياهم، وأن تكون مواعظهم في واد وواقع الناس في واد آخر. إن من أهم مايميز الأنبياء وأتباعهم أنهم يمشون في الأسواق، وهذا المشي كناية عن مخالطة الناس، وعن غشيان أماكن تجمعاتهم كما فعل موسى عليه السلام حين قال: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. إن المتأمل في مواعظ النبي عليه السلام يلاحظ أنها كانت مرتبطة بأحوال الناس، فكان يعظ عند نزول البلاء والمصائب، ويغتنم الأحداث للتوجيه لما يناسبها. ومن الأمثلة في ذلك ما فعله عليه السلام حين وفد المدينة قوم فقراء من الأعراب بهم فاقة شدة حاجة. روى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه – : قال : « كُنَّا في صَدْرِ النهارِ عِنْدَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ، فجاءه قَوم عُرَاة مُجتابي النِّمار ، أو العَباءِ ، مُتَقَلِّدي السيوفِ ، عامَّتُهم من مُضَرَ ، بل كلُّهم مِنْ مُضَرَ – فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- : لما رأى بهم من الفَاقة ، فدخل ، ثم خَرَجَ ، فأمر بلالا ، فأذَّن وأقام فصلَّى ، ثم خَطَبَ، فقال : { يَا أَيُّها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاء ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرْحَامَ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } [النساء: 1] ، والآية التي في الحشر : {اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُر نَفْس مَا قَدَّمَتْ لِغَد } [الحشر: 18] تصدَّق رَجُل مِن دِينارِهِ ، من دِرْهَمِهِ ، من ثوبِهِ ، من صاع بُرِّه ، من صاع تَمرِهِ ، حتى قال : ولو بشِقِّ تمرة ، قال : فجاء رَجُل من الأَنصار بصُرَّة ، كادت كَفُّه تعجِزُ عنها ، بل قد عَجَزَتْ ، قال : ثم تتابع الناسُ ، حتى رأيتُ كَوْمَيْنِ من طعام وثياب، حتى رأَيتُ وجهَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- تَهَلَّلَ كأنه مُدْهَنَة ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : مَن سَنَّ في الإِسلام سُنَّة حَسَنَة فله أجرُها وأجرُ من عمل بها من بعده ، من غير أن يَنْقُصَ من أجورهم شيء ، ومن سَنَّ في الإِسلام سُنَّة سيِّئة كان عليه وِزْرُها وَوِزْرُ مَنْ عمل بها من بعده ، من غير أن ينقُصَ من أوزارهم شيء ». وهكذا ينبغي للواعظ أن يربط مواعظه بالتخفيف عن الناس، من خلال ربطهم بالله عز وجل، ودعوتهم إلى التكافل وإشاعة الجود والتكافل. خاتمة إن الوعظ اليوم لم يعد كلمة تلقى في مسجد أو بيت أو جمعية ويبقى أثرها رهينا بمن حضرها؛ بل إنه أصبح ينتشر انتشار النار في الهشيم خاصة مواعظ بعض المؤثرين والمشهورين، ومن ثم يجب على الوعاظ أن ينتبهوا للمحاذير السالفة، وأن يجتهدوا في حسن الإعداد، وفي المزج بين مخاطبة العقل ومخاطبة الوجدان، وفي ربط الناس بالعلوم الشرعية والتقليل من القصص الغريبة والحذر من الإسرائيليات. ومن جهة أخرى ينبغي للمسلم أن يتثبت مما ينشر ، وأن يحرص على التخول في المواعظ عبر المنصات وإلا فإن الناس سيزهدون في كل ذلك ويتركونه. فالكثرة والإغراق كما سبقت الاشارة تؤدي إلى الملل والإعراض، والأولى الاقتصار على القليل، والتنويع فيما ينقل من حيث مزج الموعظة بالحكمة وبلغة العلم والفقه.