نعيش، اليوم، في المغرب على إيقاع زواج كاثوليكي جديد بين كيانين عقدا قرانهما خلال المرحلة الاستعمارية، و تم الفراق بعد فشل المشروع الاستعماري على يد الحركة الوطنية المغربية. و ها هما الآن يعودان إلى البيت المشترك بعد أن تم فسح المجال أمامهما لتنفيذ مخطط تهشيم مقومات الهوية الوطنية المغربية، في بعدها العربي الإسلامي، و تعويضها بمقومات جديدة تستمد قوتها من المشروع الاستعماري البائد. نحن هنا لا ننطلق من نظرية المؤامرة كما قد يتوهم البعض، و لكن هناك مؤشرات متعددة تؤكد على هذا التوجه الاستعماري الجديد . • من جهة، هناك حضور غير مسبوق للأصوات العرقية التي تناهض، بما أوتيت من قوة، البعد الحضاري العربي الإسلامي للمغرب، مقيمة تحالفات مشبوهة مع مراكز القرار الصهيونية و الفرنكفونية، و هذا يمدها بدعم مادي و رمزي سيساهم، لا محالة، في زعزعة الأمن الروحي و الثقافي للمغاربة. • من جهة أخرى، هناك هجوم فرنكفوني كاسح على الانتماء الحضاري العربي الإسلامي للمغرب، و هذا الهجوم يستهدف المقوم اللغوي العربي من خلال فرض الفرنسية كأمر واقع في التعليم و الثقافة و الإعلام، و يستهدف كذلك المقوم الروحي من خلال ممارسة تزييف غير مسبوق على الدين الإسلامي الذي يتم ربطه، زورا، بالتطرف و الإرهاب في عقر مجاله الحضاري الذي عمّر فيه لأربعة عشر قرنا مساهما في ترسيخ الاستقرار و الأمن الروحي بين المغاربة. يأتي هذا التحليل في سياق التنسيق القائم بين التيار العرقي و بين التيار الفرنكفوني، و هذا التنسيق موجه، أساسا، لقلب المعادلة الحضارية السائدة داخل المغرب، و التي جاء التعديل الدستوري الأخير (2011) لتأكيدها. ففي تصديره نجد التأكيد صريحا على الانتماء العربي الإسلامي للمغرب من خلال الدعوة إلى تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة. و هذا التوجه الدستوري الواضح و الصريح هو الذي يجب أن يتحكم في مسيرة النضال الوطني، لأن أي محاولة للتشكيك في الانتماء الحضاري العربي الإسلامي للمغرب يُعدُّ ضربا لمقتضيات الدستور الذي صوت عليه المغاربة، و لذلك فإنه من واجب النخبة الثقافية و السياسية الوطنية مواجهة الهجوم الفرنكو-عرقي بمنطق الفكر و القانون. و من أجل توضيح الصورة أكثر، لابد من كشف الغطاء عن المؤامرة الفرنكو-عرقية، التي تستهدف الانتماء العربي الإسلامي للمغرب، فهناك تطابقا تاما في الأهداف و في وسائل العمل بين التيارين. فالتنظير و العمل موجه، أساسا، لإخراج المغرب من الإطار الحضاري العربي الإسلامي الذي انتمى إليه لقرون. • من جهة، سبق لأحد رواد التيار العرقي أن ركب حماره و جرب حرث سيرة جديدة للمغرب، و هو يتساءل عن جدوى ارتباط المغرب بمحيطه العربي الإسلامي (الشرق) معتبرا أن هذا الانتماء الحضاري لا يعد أن يكون منظومة مستوردة لا تتطابق مع مصالح المغرب. و قد عقبنا على هذه الأوهام العرقية حين صدورها في مقال حمل عنوان (أوهام المثقف العرقي : الأساطير في مواجهة حقائق التاريخ و ثوابت الواقع) . • من جهة أخرى، تخرج علينا، اليوم، كبيرة الفرنكفونيين التي تتحكم في السياسية التحريرية لقناة وطنية يمولها المغاربة من قوت يوهمهم ناسجة على نفس المنوال العرقي. فقد اعتبرت (سميرة سيطايل) أن المغرب ليس بلدا عربيا بل هو بلد مغاربي !!! و لا ندري ماذا تقصد السيدة سيطايل بهذا الانتماء المغاربي؟ ! لأن ما يؤكده التاريخ هو وجود امتداد جيو-حضاري اسمه المغرب العربي حسب التسمية الحديثة، و اسمه الغرب الإسلامي حسب التسمية القديمة. أما كلمة مغارب فهي لا تحيل على أي حمولة دلالية، سوى أنها جمع لمفردة (مغرب: مغارب) في مقابل مفردة (مشرق: مشارق)، و هذه المفردة إذا تم تجريدها من لازمتها الحضارية (المغرب-المشرق: العربي/الإسلامي)، فإنها لا تتجاوز دلالتها على اسم مكان شروق الشمس (المشرق) و اسم مكان غروبها (المغرب) !!! إن الأمر الواضح و الصريح من خلال هذين التصريحين، اللذين يتجاوزان الرأي الشخصي إلى التعبير عن مخطط قائم الذات، هو أن الأمر يدخل في إطار تحالف جديد يجمع بين التيار العرقي و بين التيار الفرنكفوني، و المستهدف من هذا التحالف هو نفس المشروع الحضاري العربي الإسلامي الذي كان مستهدفا من قبل، خلال المرحلة الاستعمارية، فمنذ دخول المغرب ضمن الحسابات الاستعمارية -الفرنسية خصوصا- كان التوجه واضحا نحو العودة بالمغرب إلى مرحلة اليباب الحضاري ليسهل الاستحواذ عليه و إلحاقه بالمتربول الاستعماري، و ذلك لأن دهاقنة الاستعمار كانوا على تمام الوعي بأن الحضارة العربية الإسلامية منحت المغرب شخصيته الحضارية المتفردة التي يصعب على أي مستعمر تجريده منها. إن مشروع الحركة الوطنية المغربية، عندما تأسس في مواجهة التحالف الفرنكو-عرقي الذي جسده الظهير البربري، كان يحمل وعيا حضاريا حادا، و هذا الوعي الحضاري هو الذي مكن قادة الحركة الوطنية من إلحاق الهزيمة بالمشروع الاستعماري، و من خلاله تم إلحاق الهزيمة بالمشروع العرقي، و ذلك لأن الأطروحة العرقية في المغرب ولدت في حضن الاستعمار الفرنسي الذي وظفها من أجل إحياء المشروع الروماني القديم في شمال إفريقيا، و إذا كان الفتح العربي الإسلامي للمغرب قد وأد هذا المشروع الاستعماري، فإن اهتمام الفرنسيين كان منصبا على تغيير الوجه الحضاري العربي الإسلامي للمغرب، بوجه حضاري فرنكو-عرقي تأخذ فيه فرنسا مركز القيادة . إن المشروع الفرنكو-عرقي القديم/الجديد، و هو يخطط لتهميش البعد الحضاري العربي الإسلامي للمغرب، كان على تمام الوعي بأن المواجهة يجب أن تمر عبر تزوير حقائق التاريخ، و لذلك تم التوجه نحو إحداث تشويه مقصود في المفاهيم المؤطرة للانتماء الحضاري العربي الإسلامي للمغرب، و قد تم التركيز على مفهوم " العروية" : • من جهة، تم الترويج لخلط منهجي مقصود بين "العروبة " كانتماء حضاري ثري و متنوع ساهمت في بنائه شعوب مختلفة، أبدعت في مجال الأدب و الفلسفة و العلوم الدقيقة... بلسان عربي فصيح و بمتخيل عربي واسع الانتماء. و بين " العروبة" كانتماء عرقي. و هذا المنظور العرقي للعروبة هو الذي تم ترويجه من طرف الخطاب الكولونيالي و تمت إعادة إنتاجه، بعد ذلك، من طرف الخطاب الفرنكو.-عرقي، فقد تم استحضار العروبة في هذا الخطاب كإحالة على انتماء عرقي منغلق يهم سكان الجزيرة العربية. • من جهة أخرى، استند الخطاب الكولونيالي، و معه الخطاب العرقي، إلى تأويل إيديولوجي مغرض للبناء المفاهيميالخلدوني، من خلال الترجمة المغرضة و المؤدلجة- التي تصل حد التزوير العلمي- لمفهوم "الأعراب" les bédouines كما وظفه ابن خلدون ببعد اجتماعي خالص، باعتماد المقابل " العرب" les arabes , و هذا ما فتح باب التأويل واسعا، أمام التيار الفرنكو-عرقي، لتصفية حسابات إيديولوجية ضيقة مع البعد الحضاري العربي الإسلامي للمغرب، و ذلك من خلال تصوير المنظومة الحضارية العربية الإسلامية، التي تعتبر من كبرى حضارات العالم حسب المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، باعتبارها منظومة اجتماعية أعرابية بسيطة لا تستجيب لمقومات التحضر الإنساني الحديث !!! - توجيه منهجي أخير بناء على هذا التحليل، يمكن أن نعتبر أن الباحث و الفاعل الثقافي و السياسي الوطني، حينما يوظفون مصطلحات من قبيل "العالم العربي"، "المشرق العربي"، "المغرب العربي"، فإن ذلك لا يحيل على بعد عرقي ضيق، و لا يحيل كذلك على بعد اجتماعي خاص بثقافة الرُّحَّل، كما يريد أن يوهمنا بعض الفرنكو-عرقيين، بل إن هذه المصطلحات تحمل أبعاد حضارية و جيوسياسية، و كل هذا يدخل في إطار المرجعية العلمية، و ليس في إطار المرجعية الإيديولوجية. • على المستوى الحضاري، تحيل هذه المصطلحات على امتداد حضاري عمّر لقرون و امتد إلى جغرافيات متنوعة، و ساهمت في بنائه عدة أعراق، كانت تجمعها دوما وحدة الثقافة و اللغة و الدين، ليس من منظور الاستهلاك و التبعية ولكن من منظور الإبداع و الإنتاج الثقافي، و لذلك عبر ابن آجروم الأمازيغي عن هذا الانتماء العربي حضاريا عندما ألف الأجرومية في النحو العربي و نافس بها عن جدارة ألفية ابن مالك . • على المستوى الجيو -سياسي، تحيل هذه المصطلحات على تقسيم جغرافي تعترف به جميع خرائط العالم، كما تعترف به المؤسسات الدولية، و لا يشكك أحد - ما عدا العرق-فرنكفونيون المتطرفون- في إجرائيته. و حتى المجاهد الأمازيغي الكبير ( عبد الكريم الخطابي) كان يتمتع بهذا الوعي لما ترأس لجنة نسبها إلى المغرب العربي بتاريخ 5 يناير 1948 جاء في بندها الأول: "المغرب العربي بالإسلام كان، وللإسلام عاش، وعلى الإسلام سيسير في حياته المستقبلية".