على إثر استقبال الرئيس الكولومبي المنتخب، غوستافو بترو، لمحمد سالم ولد السالك، مسؤول العلاقات الخارجية في الجبهة الانفصالية، وما رافق ذلك من حديث عن إعادة الاعتراف بالكيان الوهمي بعد سحبه منذ سنوات خلت، سنكون إذا تأكد هذا الانحراف الدبلوماسي، أمام ظاهرة تميز الجمهوريات الموزية التي تغير مواقفها كما يغير الواحد منا جوارب حذائه. وهذا السلوك يهين الدولة المعنية بسحب واعادة الاعتراف قبل غيرها، لان العلاقات بين الدول منزهة عن العبث، وليست لعبة بين المعارضة والأغلبية، وإنما هي التزامات تهم قبل كل شيء مصداقية الدولة بكل مؤسساتها. وللتذكير فإن الحكومة الكولومبية كانت قد أصدرت مذكرة تدعم فيها الموقف المغربي منذ بضع سنوات، كما ان البرلمان الكولومبي كان قد صوت على عدة قرارات تدعم الوحدة الترابية للمملكة. فكيف انقلب الموقف إذن؟! لمحاولة فهم ما جرى، يجب ان نقلب صفحات سيرة الرئيس الجديد الذي تم تنصيبه يوم 7غشت الجاري، فقبل وصوله إلى سدة الرئاسة، كان عضوا في الحركة المسلحة المعروفة باسم M19، وهي محسوبة على اليسار الراديكالي، بل كانت تعتبر حركة إرهابية نفذت عمليات اختطاف وقتل وتفجير وتخريب ضد الحكومة الكولومبية قبل أن تلقي السلاح سنة1989، وتنخرط في العمل السياسي في وقت مبكر سبق المصالحة مع حركة "فارك" بما يقرب من ثلاثة عقود. من هذه الزاوية الأيديولوجية، أكيد أنّ هناك تعاطفاً لدى أغلب الحركات اليسارية في أمريكا اللاتنية مع جبهة "البوليساريو" الانفصالية، وذلك راجع إلى تأثير البروبكاندا الجزائرية التي قلبت الحقائق حول قضية الصحراء المغربية، وحولتها زوراً وبهتاناً في نظر العالم من حركة انفصالية تخدم ضمنياً وعملياً أهداف الامبريالية من خلال تفتيت دول العالم الثالث لإبقائها تحت السيطرة، إلى حركة تحررية تزعم مواجهة هذه الامبريالية وحلفائها. ورغم كل ذلك لا يجب أن نُعلق كل أخطائنا ومتاعبنا الدبلوماسية على مشجب الآخر، مهما كانت أحقاد وعدوانية هذا الآخر. بل ينبغي أن نبحث عن الخلل في منظومة مناعتنا الوطنية، ليس بغرض جلد الذات ولكن لتدارك ما يجب تداركه. وفي هذا الصدد لا يمكن إعفاء وزارة الخارجية المغربية من المسؤولية المباشرة، كما لا يمكن إعفاء الأحزاب السياسية المغربية منها، سواء تلك ممثلة أم غير ممثلة داخل قبة البرلمان. فلولا غياب استراتيجية تواصل سياسي مُنسَّق ودائم من الجانب المغربي، مع الاحزاب اليسارية في تلك الدول، لكان التعاطف مع المغرب أولى وليس العكس، لأن مشروع الانفصال في الصحراء، قبل أن تنشأ جبهة تندوف في ماي 1973، وقبل أن تستغله الجزائر كورقة لتصفية حسابات الحدود والصحراء الشرقية مع المغرب، هو في الأصل مشروع استعماري لتقطيع أوصال المغرب بين قوتين امبرياليتين أوربيتين قسمتا المملكة المغربية إلى مناطق نفوذ تابعة لمدريد أو باريس. وفي مرحلة لاحقة سعى الجنرال فرانكو إلى خلق دويلة تابعة له في الصحراء بطرق شتى مهّد لها بإنشاء مجلس الجماعة الصحراوية وخلق حزب "البونس" في انتظار ساعة الصفر للإعلان عن الانفصال. والاحزاب اليسارية في أمريكا اللاتينية لديها ما يكفي من الأسباب التاريخية لإدانة الجرائم الاستعمارية لإسبانيا في المغرب كما أدانتها في بلدانها لو وجدت من يفسر لها جذور هذا الصراع والمؤامرة التي تعرض لها المغرب لتفتيت وحدته من قبل الدول الأوربية، ولو وجدت من يشرح لها أنّ المغرب ضحية الإمبريالية التي يعاديها اليسار وليس العكس، وأنّ الحركة الانفصالية هي من يخدم الاجندة الإمبريالية عن وعي أو غير وعي. وبنفس المنطق فإنّ اليسار في أمريكاالجنوبية لديه رصيد من المعاناة وزخم من المآسي التراجيدية ضد الدكتاتوريات العسكرية كي لا يضع يده في يد النظام العسكري الجزائري، الراعي الرسمي للانفصال في الصحراء المغربية، لو وجد من يزيح عن نظام جنرالات الجزائر القناع الذي يتوارون خلفه. ولكن معظم حركات اليسار الأميركي اللاتيني لازالت تحت تأثير البروبكاندا الموروثة عن فترة الحرب الباردة، ولازالت تتعاطف مع كل دولة تحمل صفة "الجمهورية الديمقراطية الشعبية" مثلما هو الحال بالنسبة للجمهورية النفطية على حدودنا الشرقية. ولأسباب ليس هذا مكان سردها، لازالت أحزاب اليسار، او بعضها على الأقل، في البرّ المقابل للمغرب على المحيط الاطلسي لم تكتشف بعدُ، الطبيعة الدكتاتورية والعسكرية للنظام الجزائري الذي انقلب عدة مرات على الحكم المدني وعلى صناديق الاقتراع منذ انقلاب الكولونيل هواري بومدين 1965، مروراً بانقلاب الجنرال خالد نزار ورفيقه الجنرال محمد العماري 1992، وصولاً إلى انقلاب الجنرال قايد صالح ورفيقه الجنرال شنقريحة 2019، وهي الانقلابات التي أدت خلال العشرية السوداء وحدها إلى مقتل ربع مليون جزائري واختطاف عشرات الآلاف. ولازال العسكر إلى اليوم يتحكم في المشهد السياسي الجزائري من خلف واجهة مدنية كشف الحراك الشعبي زيفها وأبرز تهافتها. ولكن من كلف نفسه في المغرب عناء التواصل مع اليسار الكولومبي وغير الكولوملبي لإزالة أقنعة العسكر في جمهورية النفط والغاز وفضح جرائمه بالأدلة والحجج؟! ورغم كل هذا الواقع المرير الذي نكابده مع الجارة الشرقية من جهة، ورغم كل الانجازات الدبلوماسية المغربية في العقدين الأخيرين، من جهة أخرى، وعلى رأسها اعتراف واشنطن بالسيادة الوطنية على الصحراء، والمراجعة التاريخية للموقف الإسباني، وسحب معظم الدول لاعترافها بكيان تندوف وغيرها من المكاسب الكثيرة، رغم كل ذلك مازلنا مع الاسف نتعامل مع قضيتنا الوطنية المصيرية، بمنطق "التبوريدة" السياسية أو "التويزة" الدبلوماسية، وننتظر وقوع الفأس في الراس كي نتحرك. وكأننا نرفض وبكل إصرار الاستفادة من دروس الماضي البعيد والقريب، سواء في جنوب إفريقيا سنة 2004 أو السويد عام 2015 او في مواقع ودول أخرى كثيرة. وفي هذا السياق، من منا يتذكر وجود مجموعة صداقة بين البرلمان المغربي ونظيره الكولومبي؟ وما هي الغاية من إنشائها؟! فلو كانت هذه الآلية السياسية بامتياز تشتغل بشكل عقلاني ومنتظم وليس بشكل فلكلوري مناسباتي، لاستطعنا استباق هذا التراجع في الموقف الكولومبي وتفاديه. هذا بالنسبة للبرلمان، أما بالنسبة للدبلوماسية المغربية، فلا يمكن إلغاء مسؤوليتها هي الأخرى في عدم استشراف نتائج الانتخابات رغم أن حزب الرئيس الكولومبي المنتخب غوستافو بترو كان قد دخل في تحالفات حكومية وأصبح يشكل ثالث قوة سياسية في كولومبيا منذ عدة سنوات. فهذه المعطيات لوحدها، لو كانت الخارجية وسفارتنا لدى بوغوتا تشتغل وفقاً ل"قواعد الفن" الدبلوماسي، لكانت كفيلة بإطلاق صافرة الإنذار منذ سِنين كي تتحرك مجموعة الصداقة البرلمانية وتتحرك الدبلوماسية الرسمية والموازية. لقد كان ولا يزال بإمكان الأحزاب ذات المرجعية اليسارية ببلادنا تصحيح المفاهيم لدى نظيراتها الكولومبية، كما فعلت من قبل إبان حكومة اليوسفي. فهذه الاحزاب تملك الأدوات الايديولوجية والحقائق التاريخية والشرعية السياسية والرصيد النضالي، لإبطال سحر البروبكاندا الجزائرية بطريقة أكثر مرونة وسلاسة من الدبلوماسية الرسمية، ولكن جدارا عازلا سميكا لازال يهمش دور الدبلوماسية الحزبية، بحيث لا تتم الاستعانة بها إلا عند اشتعال الحرائق كما فعلت خارجيتنا الموقرة خلال الازمة مع السويد، حيث لجأت في اللحظات الحرجة إلى إيفاد وفد عن الأحزاب التي تملك المصداقية على المستوى الوطني والدولي للتواصل مع أحزاب السويد التي كانت قاب قوسين او أدنى من الاعتراف بجمهورية تندوف. لأجل ذلك يجب تجاوز هذا الخلل المزمن الذي يكمن في غياب تنسيق مؤسساتي بأجندة واضحة ذات اهداف ملموسة وآلية اشتغال دائمة وقارّة ومعروفة ومضبوطة بين وزارة الخارجية والأحزاب السياسية في المغرب. وهذا يقودنا أيضا إلى طرح سؤال "البروفايل" السياسي للسفراء ومدى إلمامهم بتفاصيل القضية الوطنية، وقدرتهم على الحِجاج السياسي والمرافعة والاقناع، وشروط أخرى منها الكاريزما والمستوى الثقافي والمهارات التواصلية، والقدرة على الرصد والتتبع والتحليل اليومي لكل شاردة وواردة في الحقلين السياسي والدبلوماسي، وسرعة التفاعل مع الأحداث وحضور البديهة والنفس السياسي وغيرها من الملكات التي لا غنى عنها لأداء مهام سفير دولة، لا تعيش ظروفاً عادية بل تتعرض منذ نصف قرن لاستراتيجية عدوانية لا تدخر أي وسيلة للوصول إلى أهدافها الهدامة، مستعينة في ذلك بسلاح البروبكاندا الرهيبة ودبلوماسية الابتزاز والبترودولار التي تجعل من الاعترافات بالكيان الوهمي وسحبها مجرد لعبة انتهازية لا تحتكم إلى الأخلاق السياسية والأعراف الديبلوماسية. وخلاصة الأمر، لا يمكن أن نقضي على أفعى الانفصال ما لم نحطم رأسها، فهذه المعارك الجانبية التي تستنزف الجهد والوقت والمال، ستبقى مصدر تهديد للمغرب ما لم يتم التركيز على أم المعارك، واقصد بها طي الملف في اللجنة الرابعة بالأمم المتحدة، وهي لجنة تصفية الاستعمار التي كان المغرب هو من أدخل إليها ملف "الصحراء وسيدي إفني" منذ 1963 في إطار معاركه لاستكمال تحرير أراضيه من الاحتلال الاسباني، وقد آن الأوان لإغلاق هذا الملف في نفس اللجنة الأممية، من خلال تعبئة الدول الحليفة والصديقة للتصويت على توصية تؤكد مغربية الصحراء. وأعتقد أن هذا هو الهدف المنطقي والحتمي من سحب الاعترافات، أعني أن نجد عائد ذلك كله في طرد الكيان الوهمي من الاتحاد الإفريقي، ثم الحسم النهائي في اللجنة الرابعة للأمم المتحدة. ما عدا ذلك ستصبح عملية سحب الاعترافات مجرد عملية سوريالية غير ذات جدوى ولا معنى لها، ولكنها مكلّفة وخطرة للغاية.