لا يرى أحمد نور الدين وجودا لأي صراع بين فرنسا والمغرب، بدليل الإقامة الطويلة للملك بباريس. كما اعتبر أن كل وسائل الإعلام التي تحدثت عن الأزمة الصامتة بنت تقديراتها على فرضيات مردود عليها، دون أن ينفي وجود اختلاف في التقدير بين باريسوالرباط حول مجموعة من الملفات.
وبالنسبة للصراع على مستوى الأممالمتحدة حول قضية الصحراء، أكد خبير العلاقات الدولية أن المكان الوحيد الذي يمكن أن نحسم فيه النزاع بشكل نهائي، هي اللجنة الرابعة للأمم المتحدة المسماة: لجنة تصفية الاستعمار.
هناك تجليات كثيرة لصراع صامت بين فرنسا والمغرب، من بينها عراقيل منح التأشيرة وعدم وجود زيارة وازنة بين مسؤولي البلدين. ما هي الأسباب العميقة لهذه الأزمة التي لم تعد سرا بين البلدين؟
في تقديري، وقد أكون مخطئاً، لا يمكن الحديث عن الصراع ونحن نرى أنّ العاهل المغربي يقضي فترة تجاوزت الشهرين في هذا البلد. ولا أظن أحداً سيجادل في أنّ سلوك رئيس الدولة والإشارات السيميولوجية الصادرة عنه، هي البوصلة في العلاقات الدبلوماسية بين الدول.
المؤشر الثاني على جودة العلاقات بين الدول هو التعاون في المجالات الاستراتيجية والعسكرية منها بالخصوص، وفي هذا المجال استقبل المغرب على أرضه المناورات العسكرية بين البلدين والتي جرت مرتين خلال هذه السنة 2022، واحدة منها في المنطقة الشرقية المحاذية للجزائر، وحملت اسم مناورات «رياح الشركي» بما تحمله من دلالات، وهذه حجة أخرى على أن التعاون الأمني والاستراتيجي بين باريسوالرباط يوجد في أزهى فتراته.
نعم قد تكون هناك ملفات مختلف عليها، وقد تكون هناك أخطاء ارتكبت من هذا الجانب أو ذاك، ويجب الجلوس إلى مائدة المفاوضات لحلها أو إيجاد توافقات. وهذا النوع من الخلافات أمر طبيعي حتى بين الحلفاء. وقد رأينا في الاتحاد الأوربي عند بداية الحرب في أوكرانيا تباينا كبيراً في المواقف بين ألمانيا مثلا التي لم تكن ترغب بتاتاً في التصعيد مع روسيا لارتباطها شبه الكلي بالغاز الروسي، وبين دول البلطيق التي دعت منذ الوهلة الأولى إلى فرض العقوبات الاقتصادية على موسكو رغم أنها كانت قبل سنوات جزءا من الاتحاد السوفياتي.
في تقديركم ما هي إسقاطات هذه الأزمة على مستقبل العلاقات الثنائية بين المغرب وفرنسا؟
وسائل الإعلام التي تحدثت عن الصراع الصامت بنت تقديراتها على خمس فرضيات كلها مردود عليها. وهي استثناء المغرب من جولة الرئيس الفرنسي التقليدية بعد انتخابه والتي قادته إلى ثلاث دول افريقية جنوب الصحراء، ثم الزيارة التي قام بها يوم 25 غشت إلى الجزائر، ثم تخفيض التأشيرات الفرنسية للمواطنين المغاربة إلى النصف عما كانت عليه في السابق. وهناك من يضيف قضية الصحراء وعدم التحاق باريس بركب واشنطن أو على الأقل بمواقف جيرانها الأوربيين مثل ألمانيا وإسبانيا، بالإضافة إلى أزمة أمنية، وأخرى حول قلق مزعوم من منافسة مغربية للنفوذ الفرنسي في إفريقيا. وقد تكون هناك نقاط أخرى لا أستحضرها الآن، ولكنها فرضيات تتهافت أمام الواقع الذي لا يرتفع.
فرنسا لازالت تعتبر الشريك الاقتصادي الأول للمغرب، وإن كانت إسبانيا قد انتزعت منها المرتبة الأولى كشريك تجاري فقط وليس كشريك اقتصادي أول. كما أن الحجم التراكمي للاستثمارات الخارجية الفرنسية المباشرة بالمغرب لا زال يحتل الرتبة الأولى. وهذان المؤشران لوحدهما كفيلان بإبراز عمق هذه العلاقات وقوتها، وليس من مصلحة أي طرف تعريضها لهزات لأسباب عرضية مثل تخفيض عدد التأشيرات مثلاً. وإذا اقتضى الأمر منّا تحوّلا استراتيجياً، فلابد أن يكون القرار مبنياً على دراسات معمقة وأن يتم تصريفه بتدرج وبنفَس طويل بعيداً عن المزاجية، وبالحكمة التي طبعت دائما سياسة المملكة.
كيف السبيل للخروج من هذا البرود الذي يسود مفاصل العلاقات بين البلدين وهل تتوقعون أن تكون زيارة ماكرون الموعود بها للرباط فرصة لعودة الدفء بين فرنسا والمغرب؟
فرنسا مثل باقي الدول تبحث عن مصالحها الاستراتيجية، وهي تعلم أن لديها مصالح اقتصادية كبرى مع المغرب، وشراكة يمكن أن نصفها بالاستراتيجية تشمل كل المجالات الثقافية والعلمية والصناعية والفلاحية والتكنولوجية والعسكرية والأمنية والمالية وغيرها. ولكن فرنسا تريد أيضاً أن تحافظ على مصالحها الطاقية في الجزائر والتي تربطها بها عقود لاستغلال حقول الغاز والنفط يصل مداها إلى ما بعد سنة 2045، وقد ازدادت أهمية تلك المصالح بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا واستعمال روسيا للغاز كسلاح ضد أوربا.
من جهته، يعرف المغرب أنّ فرنسا كانت دائما حليفا موثوقا في دعم موقفه من قضية الصحراء وفي مساندته في معاركه الدبلوماسية في مجلس الأمن، ولا ننسى أن الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك كان أول رئيس دولة أوربية وغربية عموما يصف الصحراء المغربية بالأقاليم الجنوبية للمملكة، في تصريح صحافي رسمي. لذلك كان يصفه الرئيس الجزائري بوتفليقة وبامتعاض كبير بجاك شيراك العلوي، نسبة إلى العائلة الملكية بالمغرب.
ولكن المغرب يريد الخروج من مرحلة تدبير النزاع إلى مرحلة حسم النزاع، ومن حق المغرب أن يطالب حلفاءه بتحديد مواقفهم من الصحراء المغربية بكل وضوح مثلما جاء في العديد من الخطب الملكية الأخيرة، لذلك فهو يريد من فرنسا أن تتقدم خطوة إلى الأمام وتعترف رسمياً بالحدود الحقة للمملكة، خاصة وأنها كانت شاهدة، كقوة استعمارية إلى جانب إسبانيا، على تفتيت وحدة المغرب وتقسيم أراضيه، من خلال مؤتمري برلين والجزيرة الخضراء، ومن خلال البروتوكولين السريين سنتي 1902 ثم 1904 بينها وبين مدريد. لذلك، فمن مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية أن تساهم في تصحيح الخطأ التاريخي والتكفير عن الجريمة التي ارتكبتها في حق جغرافية المملكة المغربية.
أظنّ أنّ هذا هو جوهر معادلة التوافق والتوازن في العلاقات الذي يبحث عنه الطرفان، اعتراف كل واحد بالمصالح الحيوية للطرف الثاني، وأمّا بقية المواضيع الخلافية فأظنها مجرد أوراق للضغط من أجل تليين المواقف قصد الوصول إلى التفاهم المنشود.
تنامي الصراع بين المغرب والجزائر بشكل غير مسبوق، وبعد النجاح الدبلوماسي للمملكة، وفي ظل أزمة الحرب الأوكرانية الروسية وحاجة أوربا إلى الطاقة، التي دفعت العديد من دول الاتحاد الأوربي إلى طلب ود الجزائر، هل يؤثر هذا الأمر على التوازن الإقليمي؟
الأكيد أنّ الحرب في أوكرانيا والظرفية الجيوسياسية التي يمر منها العالم، تجعل من الغاز الطبيعي ورقة مهمة في يد النظام العسكري الجزائري لاستمالة الاتحاد الأوربي، ولكن لا أظن أنها ستؤثر على التوازن الإقليمي القائم مع المغرب، وذلك لعدة اعتبارات. من ذلك أنّ المغرب يتحكم في العديد من متغيرات هذه المعادلة الإقليمية، خاصة في الجوانب المتعلقة بالأمن الشامل ومحاربة الإرهاب وقضايا الهجرة النظامية وغير النظامية، بالإضافة إلى حجم المبادلات التجارية خارج المحروقات، وصولاً إلى الشراكة الإستراتيجية مع الحلف الأطلسي وغيرها من العوامل التي تجعل من الرباط حليفاً موثوقاً للدول الأوربية سواء في علاقاتها الثنائية أو متعددة الأطراف.
وفي المقابل، تعتبر الجزائر دولة مزاجية ومتقلبة وغير موثوقة سواء من خلال نظامها السياسي الذي هو في منزلة بين الدكتاتوريات العسكرية وبين الأولغارشية، ويعيش احتباساً اجتماعياً واقتصادياً وصراعات داخل مؤسسة الجيش، مما ينذر بانفجار الأوضاع في أي لحظة كما شاهدنا ذلك خلال سنتين ونصف من عمر الحراك الشعبي، وكما تشير إلى ذلك تقارير البنك الدولي ومعهد «إلكانو» للدراسات الاستراتيجية بمدريد، وغيرها. وبالتالي فهو نظام تتعامل معه أوربا للضرورة وانتزاع الصفقات الطاقية بشروط مريحة في ظل الوهن الذي ينخر مفاصله.
ولكنها لا يمكن أن تُعول عليه كحليف خاصة وأنه يرتبط بعلاقات عسكرية قوية مع العدو القديم الجديد لأوربا وأعني به روسيا التي تزود الجزائر بأكثر من تسعين بالمائة من أسلحتها. وستقوم الجزائر بخطوة استفزازية أخرى تجاه الغرب من خلال تنظيم مناورات مع روسيا خلال نونبر 2022 على الحدود المغربية في عز الحرب الأوكرانية، التي أصبحت نوعاً ما حربا بين الدول الغربية وروسيا.
وقد تزايدت هذه التخوفات بعد سحب السفير الجزائري من مدريد بسبب دعم هذه الأخيرة لموقف المغرب في الصحراء، ولجوء الجزائر إلى الابتزاز من خلال استعمال ورقة الغاز والتهديد بمراجعة الأسعار التفضيلية التي كانت تقدمها لإسبانيا، وتجميد معاهدة التعاون بين البلدين ووقف التعاملات البنكية مع إسبانيا، وغيرها من الإجراءات التي عمقت الهوة بين النظام الجزائري والاتحاد الأوربي الذي أصدر بلاغاً يدعم فيه إسبانيا، فكانت الجزائر بذلك تحفر قبرها بنفسها وتعطي الدليل على أنها دول مارقة لا تحترم الاتفاقيات والمعاهدات المبرمة، وهذا نعرفه جيداً في المغرب الذي اكتوى بنقض العهود منذ اتفاقية 1961 مع الحكومة المؤقتة إلى معاهدة الاتحاد المغاربي سنة 1989 مرورا باتفاقيات 1963 و1969 و1972. دولة لا عهد لها ولا ذمة.
تقدمت الجزائر بطلب عضوية مجلس الأمن الدولي المؤقتة، ومجلس حقوق الإنسان بجنيف. هل يمكن أن يؤثر ذلك على المغرب؟
بالنسبة لعضوية مجلس حقوق الإنسان، ستكون وصمة عار في جبين الأممالمتحدة إذا حصل النظام العسكري الجزائري على مقعد في هذا المجلس، لأنّه لا يستقيم أن يجلس الجلاد الذي لازالت تقطر يداه من دماء شهداء الحراك الشعبي سنة 2019 وشهداء انتفاضة الأقلية المزابية بغرداية سنة 2015، وشهداء العشرية السوداء في 1992 بسبب الانقلاب العسكري الدموي على صناديق الاقتراع، وشهداء انتفاضة أكتوبر 1988، وشهداء ربيع القبائل 1982، وهؤلاء جميعاً يتجاوزون ربع مليون شهيد سقطوا برصاص النظام الجزائري بالإضافة إلى آلاف المعتقلين والمختطفين مجهولي المصير إلى اليوم.
أمّا بالنسبة لعضوية مجلس الأمن الدولي، فمعروف أنّ القرار الأخير يعود للدول الخمس دائمة العضوية، ولكن من المؤكد أن الجزائر إن حصلت على العضوية لمدة سنتين فستستغلها كمنصة دولية للترويج لمشروعها الانفصالي في الصحراء المغربية، كما فعلت ذلك في مرات سابقة سواء في الأممالمتحدة أو الاتحاد الإفريقي ومنظمة عدم الانحياز. لذلك علينا أن نستعد لمزيد من المعارك في هذا المحفل وقد رأينا بواكير ذلك هذا الأسبوع في الدورة 77 للجمعية العامة بنيويورك.
لذلك قلتها مرارا وتكرارا: على المغرب أن يتوجه إلى رأس الداء مباشرة حتى نضع حداً للابتزاز والضغط الذي يمارس عليه، والمكان الوحيد الذي يمكن أن نحسم فيه النزاع بشكل نهائي، هي اللجنة الرابعة للأمم المتحدة المسماة لجنة تصفية الاستعمار. ومع كامل الأسف مازلنا كل سنة نلجأ إلى آلية التوافق حول مشروع القرار الذي تقدمه الجزائر كل سنة منذ 1975 ويصوت عليه المغرب بعد إدخال بعض التعديلات. بينما المفترض في الدبلوماسية المغربية أن تتقدم بمشروع مُضادّ للمشروع الجزائري، وأن تعرضه للتصويت.
وهذا أمر يستوجب تشميراً عن ساعد الجد، ويتطلب تعبئة استثنائية واستراتيجية محبوكة مع حلفاء المغرب، ومعرفة جيدة بخارطة الأعضاء في اللجنة وغيرها من التفاصيل. وللأسف خارجيتنا تُفضل الحلّ الأسهل مما يُبقي شَمعة الانفصاليين مُتّقدة داخل اللجنة الرابعة ويُعطيهم منبراً دِعائياً كلّ سنة في الأممالمتحدة. وهذا ما تريده الجزائر لأنّ بقاء الجبهة الانفصالية مرتبط ببقاء الملف في المنابر الدولية والإعلامية.
من المرتقب أن تلتئم القمة العربية المقبلة في فاتح نونبر القادم، هل تتوقعون أن يستغل عسكر الجزائر المناسبة للإساءة للمغرب بالرغم من الاتفاق على مدخلات الاجتماع بالجامعة العربية بالقاهرة، أو السعي إلى التشويش عبر تقديم خارطة المغرب منقوصة على خلاف ما ارتضته الجامعة العربية، أو استقدام زعيم جبهة بوليساريو أو اللعب بأوراق قضية فلسطين؟
الخيار الأفضل هو ألا تنعقد هذه القمة من أصلها، لأنّ مجرد انعقادها في الجزائر هو في حدّ ذاته هدف يريد النظام الجزائري من ورائه فك العزلة الدولية عنه، منذ بدأ الحراك الشعبي وسقوط القناع عن الجنرالات الذين يسيرون هذا البلد بقبضة من حديد. هذا بالإضافة إلى التناقض الصارخ بين شعار جمع الشمل وتوحيد الصف العربي وعرض الجزائر وساطتها المزعومة لمصالحة سورية مع دول الخليج، في حين ترفض الجزائر على لسان رئيسها وبلاغات خارجيتها أي وساطة مع المغرب، وتصر على قطع العلاقات مع جارها المغرب، وهذا لوحده كان سبباً كافياً لمنع انعقاد القمة العربية في الجزائر.
ولكن يبقى الخيط الناظم لكل التحركات الدبلوماسية الجزائرية هو السعي إلى الإساءة للمغرب بكل الطرق، ومحاولة الترويج للمشروع الانفصالي في الصحراء. وفي هذا الباب أستحضر نقطتين مهمتين، الأولى وهي أنّ الجزائر سعت بكل طاقتها إلى أن يكون لها الفضل في أن تستعيد سورية مقعدها في القمة العربية، ليس حباً في سورية ولا في بشار الأسد، ولكن لكي تستغل هذه الورقة لاستمالة النظام السوري للاعتراف بكيان تندوف من باب ردّ الجميل لجنرالات الجزائر. ولكن دول الخليج رفضت دعوة الرئيس السوري للقمة لاعتبارات وحسابات أخرى ليس هذا مجال التفصيل فيها.
والنقطة الثانية، تتمثل في أنّ الجزائر ستصبح رئيسة فعلية للقمة لمدة سنة كاملة، وبإمكانها أن تستغل المنصب في لقاءاتها مع التجمعات الإقليمية ومع المنظمات الدولية لنفث سمومها ضدّ المغرب. وأذكر في هذا النطاق أنّ القمة العربية الإفريقية في مالابو سنة 2016، كانت قد فشلت بسبب انسحاب ثمان دول عربية بسب تآمر الجزائر من أجل إقحام جمهورية تندوف الوهمية، ولكن هناك دولا أخرى حضرت، وهذه الحادثة يجب أن تستنفر الخارجية المغربية لرصد تحركات الجزائر قبل وقوع أزمة جديدة مشابهة.
تجري اليوم تحولات متسارعة في العديد من دول أمريكا اللاتينية التي عرفت أو ستعرف في المدى القريب استحقاقات انتخابية مع صعود اليسار كما حدث في كولومبيا والبيرو. هل تتوقعون تغيرات قادمة وما هي إسقاطاتها على الوحدة الترابية ومصالح المملكة الاستراتيجية خاصة بعد الاختراق الذي حققته الدبلوماسية المغربية في معظم هذه البلدان؟
أكيد أن هناك تغييرات في المواقف كلما تغير الحزب الحاكم في تلك الدول من اليمين إلى اليسار، وهذا راجع لأسباب فيها ما هو مرتبط بشراء الذمم ودبلوماسية البترودولار التي تنهجها الجزائر، وهناك ما هو مرتبط بالأيديولوجية. أكيد أنّ هناك تعاطفاً لدى أغلب الحركات اليسارية في أمريكا اللاتنية مع جبهة «البوليساريو» الانفصالية، وذلك راجع إلى تأثير البروبكاندا الجزائرية التي قلبت الحقائق حول قضية الصحراء المغربية، وحولتها زوراً وبهتاناً في نظر العالم من حركة انفصالية تخدم ضمنياً وعملياً أهداف الإمبريالية من خلال تفتيت دول العالم الثالث لإبقائها تحت السيطرة، إلى حركة تحررية تزعم مواجهة هذه الإمبريالية وحلفائها.
فلولا غياب استراتيجية تواصل سياسي مُنسَّق ودائم من الجانب المغربي، مع الأحزاب اليسارية في تلك الدول، لكان التعاطف مع المغرب أولى وليس العكس، لأن مشروع الانفصال في الصحراء، قبل أن تنشأ جبهة تندوف في ماي 1973، وقبل أن تستغله الجزائر كورقة لتصفية حسابات الحدود والصحراء الشرقية مع المغرب، هو في الأصل مشروع استعماري لتقطيع أوصال المغرب بين قوتين إمبرياليتين أوربيتين قسمتا المملكة المغربية إلى مناطق نفوذ تابعة لمدريد أو باريس. وفي مرحلة لاحقة سعى الجنرال فرانكو إلى خلق دويلة تابعة له في الصحراء بطرق شتى مهّد لها بإنشاء مجلس الجماعة الصحراوية وخلق حزب «البونس» في انتظار ساعة الصفر للإعلان عن الانفصال.
والأحزاب اليسارية في أمريكا اللاتينية لديها ما يكفي من الأسباب التاريخية لإدانة الجرائم الاستعمارية لإسبانيا في المغرب كما أدانتها في بلدانها. وبنفس المنطق فإنّ اليسار في أمريكاالجنوبية لديه رصيد من المعاناة وزخم من المآسي التراجيدية ضد الدكتاتوريات العسكرية كي لا يضع يده في يد النظام العسكري الجزائري، وهنا تبرز مسؤولية وزارة الخارجية المغربية بالأساس لكشف هذه الحقائق، ومسؤولية الأحزاب السياسية المغربية في المقام الثاني، سواء كانت ممثلة أو غير ممثلة داخل قبة البرلمان. ويجب الاشتغال على هذه الجوانب بنفس طويل وبتعاون بين الدبلوماسية الرسمية والموازية.
إلى أين تسير التحولات الجيواستراتيجية في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، والتحديات التي تطرح بقوة على المغرب؟
نبدأ بالجانب الإيجابي: بالنسبة للتحديات الاستراتيجية، فالمملكة المغربية رغم كل التحديات بدأت تجني ثمار ما زرعت خلال العشرين عاما الماضية، ويمكن أن نضرب مثالين بارزين في هذا الباب، الأول يخص السيادة الصحية والتي برزت أهميتها مع جائحة كوفيد-19، وأخص بالذكر المختبر الوطني الموجه لتصنيع اللقاحات وقد انتهت أشغال إنجازه مؤخراً في مدينة بن سليمان، ومن المتوقع أن يساهم ولو جزئياً في تحقيق السيادة الوطنية بل والإفريقية في مجال تصنيع اللقاحات والكثير من الصناعات البيولوجية والدوائية بصفة عامة.
والمثال الثاني يخص السيادة الطاقية، وأعني به خط أنابيب الغاز الذي سيربط المغرب بنيجيريا مرورا بحوالي 11 بلدا في غرب إفريقيا ليصل في مرحلته الأخيرة إلى أوربا، وهو مشروع استراتيجي بكل المقاييس وسيساهم في تحقيق السيادة الوطنية في مجال الطاقة إلى جانب منشآت الطاقات المتجددة، كما سيعزز الوزن الجيوسياسي للمغرب إفريقيا وأوربيا.
ولكن رغم كلّ ما تحقق مازلنا في بداية الطريق نحو السيادة الوطنية في القطاعات الاستراتيجية التي تحدث عنها العاهل المغربي في خطاب افتتاح البرلمان في أكتوبر 2021 سواء من حيث المخزون الاستراتيجي الغذائي أو المخزون الاستراتيجي للنفط والغاز، أو بالنسبة للسيادة الصناعية والتكنولوجية والرقمية وفي مجال البحث العلمي، دون أن ننسى التحديات الأخرى ومنها ندرة المياه السطحية والجوفية وخطورتها على الأمن الفلاحي والصناعي أو حتى العمراني، بالإضافة إلى الملفات الكلاسيكية مثل ظاهرتي الهجرة والإرهاب المرشحتين للتفاقم مع موجة الانحباس الحراري. وكل هذه التحديات تستلزم جبهة داخلية قوية من أجل رفع المناعة الوطنية بخيار ديمقراطي واضح وبتحقيق التنمية المستدامة، وتستوجب رؤية متبصرة لعلاقتنا بالنظام العالمي الذي سيتشكل بعد الحرب الأوكرانية والأزمة التايوانية.