تعتقد بعض الجمعيات والهيئات الحقوقية والأحزاب، وكذلك الحكومة ،أن اللجوء إلى المناصفة لبناء المكاتب ، أو اختيار الممثلين، يعد إنصافا للمرأة ، ومناسبة لتمتيع النساء بحق بات مطلبا أساسا في حياتهن السياسية والاجتماعية والثقافية، وذاك برفع عدد النساء أملا في تحقيق نسبة مئوية محددة سلفا. وقد يبدو ظاهريا، وللوهلة الأولى ،أن في الأمر، فعلا ، توجها جديدا منصفا للنساء ، وذلك حينما تتساوى المرأة مع الرجل ، في التمثيلية أو المشاركة ،من حيث العدد. لكن ، وبنظرة فاحصة ، وبإرجاع الأمور إلى طبيعتها، بالتعامل مع المرأة / الإنسان ، يتبين أن الترويج لهذا التوجه قد يشكل بداية للإجهاز على حقوق المرأة ، شيئا فشيئا،وليس من المستبعد أن تصبح بعض النساء النافذات بصيغة المناصفة " أدوات " في يد ثلة من الرجال يشغلونها كما يشاؤون، تارة بالإشفاق على حالها ، وأخرى باشتراء مواقفها، واستراق مبادئها ، ومقايضتها ومضايقتها بآراء الرجال، أو" بتبييض" آرائها إزاء الإشكاليات الاجتماعية والحقوقية، وبالتالي تقزيم تاريخها النضالي وتذويبه في حدود المناصفة أو أقل... وكل هذا سيحصل بالتدريج، وعن طريق تعويض حقها في المنافسة ب"حقها"في المناصفة ، هذه المناصفة التي يمكن ، من جهة أخرى ،أن تقرأ قراءة " متخلفة " - في مجتمع يعج بالمتناقضات - من لدن بعض الأطراف فتصبح مكافأة أو"جزاء" تفضل به الرجل عليها أو دينا أبديا ترسخه الأجيال ويوثقه السلف ليوافق عليه الخلف ويتوارثه، إلى أجل غير مسمى . فهذا التحايل - العفوي أو المقصود ، والذي يمكن تلخيصه في وضع المناصفة" المجانية" مكان المنافسة الشريفة الحرة بين النساء والرجال، كما كانت ، في إطارها الأصيل المحدود بالحدود الطبيعية والإنسانية والحقوقية ، والمحكوم بالصيرورة التاريخية وبمنطق الجدل السرمدي - قد يضعف أو يخفي التنافس أو " الصراع" الطبيعي بين الجنسين، و الذي يعد "سنة طبيعية" من سنن حياة البشر منذ الأزل. ومن الغريب أن فئة مهمة ،من النساء، وازنة ،بوعيها وعلمها وثقافتها ومكانتها في المجتمع، قد انخرطت في هذا التوجه معتقدة أنها نجحت في انتزاع حق من حقوق النساء كان مؤجلا أو مغصوبا ، وسارعت إلى رفع شعار المناصفة والمطالبة بتحقيقها في كل جوانب الحياة، وكأن مشكلة المرأة في علاقتها بالرجل وبالمجتمع تتلخص في التنافس العددي على الكراسي ومجالس التسيير، في حين أن الإشكالية أعظم من ذلك بكثير. وبالعودة إلى قراءة تأملية في" كلمة المناصفة " نكتشف أنها تعني- من بين ما تعنيه - دفع المرأة دفعا إلى المشاركة في حدود النصف ، و بذلك ستكون هذه المناصفة أداة حادة "لإغلاق"فرص التفاعل مع النصف الآخر ، والذي لا يضمنه ولا يحرص عليه إلا الإنصاف ، لأنه يرقى بالنصفين معا إلى درجة العدل العام الذي لا يأخذ بالجنس ولا بالنوع أو العدد ، وإنما يسعى إلى إحقاق الحق في جوهره ، بمعايير الكفاءة والعمل الجاد والتضحية وإيثار الصالح العام على المصلحة الخاصة.... فلا مانع ، بمفهوم الإنصاف، أن ترقى النساء - كلهن أو جلهن- بعملهن وتضحياتهن لقيادة الرجال،تماما كما يمكن أن يتحقق الوضع نفسه لصالح الرجال، أو تحصل المناصفة ، فعلا ، عن جدارة واستحقاق دون أن "يسوقنا" إليها هذا التوجيه المناصفي. ولعل هناك تساؤلات " خفية " تزعج من يفكرون في المناصفة ، من الرجال والنساء، منها ما يبدو بديهيا بسيطا في ظاهره ، وعميقا مستفزا في باطنه ، ومن ذلك قولنا،مثلا : " أليس من الأفضل أن تنافس المرأة الرجل بالدرجة نفسها وبالحقوق ذاتها وبالأهداف عينها؟ أليس من حق المرأة أن تشغل مناصب وكراسي أكثر من الرجل، فتتجاوز بذلك "جدار المناصفة " التي ستحاصر المرأة في إطار محدود مسبقا؟ أليس من الحكمة والإنسانية أن نترك للمرأة حرية "بناء "حدودها بنفسها باعتماد عقلها ورأيها وإرادتها ،و وفق أحلامها وطموحاتها التي لا يسمح المنطق السليم بأن تكون محددة مسبقا ب"علامات " اختار لها الرجال-ومعهم بعض النساء- اسما براقا"هو المناصفة. وهكذا ، وباعتماد " المناصفة" كما تبدو ملامحها حاليا، سيصبح دور المرأة خاضعا لحد أقصى يمكن رفعه أو خفضه حسب "الحاجة" ، وفي هذا نظرة إلى المرأة نظرة دونية تضعها في حكم القاصر العاجز عن بلوغ نسبة معقولة في التمثيل والتسيير في الهيئات والأحزاب وغيرها،إلى أن يصبح دور النساء شبيها بدور العدائين الأرانب في سباق المسافات......! وأما الحقيقة الثابتة فواضحة ،وهي أن نفسح المجال للمرأة والرجل كل حسب مؤهلاته واستعداده ودرجة علمه، بغض النظر عن جنسه وانتمائه الحزبي أو الجمعوي أو غيره. ومن زاوية أخرى، فإن هناك مقارنة يمكن أن تبين "هشاشة" نظرية المناصفة وعلاقتها بالكفاءة واحتلال المكان المناسب في أسلاك الدولة والمجتمع ، وهي أن المرأة التي " تفوز " - فرضا- بالمناصفة على حساب المنافسة في حزب من الأحزاب أو هيئة من الهيئات، قد لا يتحقق لها ذلك أو لنظيرتها في حزب آخر أو هيئة أخرى، ليس لاختلاف في الكفاءة ، ولكن ، فقط، لاختلاف في الانتماء الحزبي أو الجمعوي. وهذا الوضع غير المستساغ من الناحية العلمية يرجع بنا قرونا إلى الوراء، ويبطل مفهوم القيم الإنسانية التي سعت المجتمعات -ولا تزال-تسعى إلى تطويرها وترسيخها في الوعي الفردي والجماعي.