تعتبر المادة الجنائية من أهم المجالات التي تتعرض للصراع والتناقض والجدال القانوني بين مختلف الحقوق والحريات وبين سؤال حماية المصلحة العامة … التشريع الجنائي، بهذا الخصوص، يتحمل مسئولية تحقيق التوازن الذي يوقف هذا الصراع ويكفل حماية الحقوق والحريات والمصلحة العامة بقدر متناسب؛ ويلتزم المشرع في سبيل كفالة هذه الحماية باحترام الضمانات التي ينص عليها الدستور. أنطلق من الأسئلة التالية: كيف تجيب المادة الجنائية، على مسألة فرض جواز التلقيح في الفضاءات المؤسسات العمومية؛ من له الحق في تحديد وضبط ممارسة الحقوق والحريات الدستورية الأساسية ؟، وماهي الشروط والمبادئ الأساسية التي أسس لها كل من الفقهي الإداري والدستوري بهذا الخصوص ؟ ومن جهة أخرى، إذا كانت البلاغات والدوريات والمناشير لا ترقى حتى إلى درجة القرارات التنظيمية، فكيف لها أن تتدخل لتوسيع مبدأ الشرعية الجنائية ؟ ومن أهم نقاشات الشرعية الجنائية، يحضر دستوريا مبدأ "انفراد التشريع" كاختصاص حصري للمشرع وحده بمعالجة المسائل التي تدخل في اختصاصه. ويعني هذا المبدأ أن السلطة التنفيذية لا تملك من خلال التشريع اللائحي الفرعي معالجة المسائل التي تدخل في اختصاص المشرع وحده. ومن ناحية أخرى، يعني هذا المبدأ أن المشرع لا يملك أيضا الإفلات من مسئوليته واختصاصاته في معالجة هذه المسائل وتوفير الضمانات لممارسة الحقوق والحريات، وإلا سقطنا في ما يسمى ب"الإغفال التشريعي"، على أن ذلك المبدأ لا يصادر حق السلطة التنفيذية من خلال المجال التنظيمي في تنظيم وتنفيذ ما أقره المشرع. أولا، فرض جواز التلقيح يعد انتهاكا صريحا للحقوق الأساسية الدستورية الفصل 24 من الدستور: "حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون". الفصل 29: "حريات الاجتماع مضمونة" يتجاوز اليوم فرض التصريح بجواز التلقيح الإطار العادي للقانون الجنائي. ويؤدي إلى عقوبات اجتماعية غير مسبوقة هي مزيج من الحرمان من الحرية والتحريض على الإذلال العلني. إنها طريقة غير قضائية لتعطيل الأشخاص اجتماعيًا وفصلهم بطريقة ما. والطامة الكبرى اليوم، لم يعد القضاة من يعاقبوا ، بل السكان أنفسهم في الكافيتريات وأمناء المكتبات وحراس المتحف أو موظفو المستشفيات – أصبح هؤلاء من يطبق العقوبة وليس القضاء. وهذا يشير إلى أن السلطات المختصة تبنت منطق القمع الهائل: لأنها لا تستطيع أن تضع قاضياً خلف كل مواطن، فهي تعتمد على السكان وعلى الوسائل الآلية للقيام بذلك. إنها ثورة مناهضة للبرالية في بعدها الاجتماعي قبل السياسي. فرض الجواز في الفضاءات والمؤسسات العمومية، بل حتى على الذين أخذوا الجرعتين، يعد انتهاكًا للحقوق الأساسية بالإضافة إلى عقوبة خارج نطاق القضاء. يعد استبعادك أنت المواطن الحر من وسائل النقل العام والمستشفيات والمقاهي والمطاعم والمكتبات والجمعيات الرياضية والثقافية وأماكن الاجتماعات الأخرى حرمانًا شديدًا من الحرية. إنه حرمان من الحق في التجمع وحرية الذهاب والإياب، استبعاد حقيقي من الحياة الاجتماعية. ثانيا، فرض جواز التلقيح في الفضاءات العامة "عقوبة اجتماعية" خارج نطاق القضاء نسجل اليوم بالإضافة إلى ما تم التأسيس له مع المرسوم قانون 2.20.293 المتعلق بحالة الطوارئ وخاصة المادة 3، حين وسع من الآليات القانونية لوضع السياسة الجنائية بحيث أصبحت الإمكانية في تحديد الجريمة فقط ببلاغات. وهذا ما يخالف السياسة الجنائية التقليدية. (فمثلا بالرجوع إلى الفصل الأول من القانون الجنائي نجد انه " يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان الذي يعدها جرائم بسبب ما تحدث من اضطراب اجتماعي ويوجب جزر مرتكبيها") لكن الأمر توسع بحيث يشمل آليات أخرى واقل درجة من القانون من ناحية التراتبية. وبعد أن تم توسيع من الوعاء ب"بلاغات"، بمعنى توسيع مجاال الجرائم التي توجب عقوبات: مثلا؛ جريمة الخروج بدون ترخيص، جريمة الخروج بدون كمامة، جريمة الحظر الليلي في رمضان ؛ الجديد اليوم «فرض عقوبة جديدة أسميها ب"العقوبة الاجتماعية". فرض الجواز والحرمان من الحقوق الدستورية الأساسية يعد اليوم "عقوبة اجتماعية" جديدة. فرض جواز التلقيح بهذا الشكل هي "وسيلة خارج نطاق القضاء لتعطيل الناس وعزلهم اجتماعيا"؛ وبالتالي تُكيف على أنها عقوبة جديدة أكثر خطورة وخارج نطاق القضاء( extrajudiciaire ) مبدئا وجنائيا "لكل شخص حُرم من حريته الحق في المثول أمام القضاء"؛ في الواقع، عندما يوضع شخص قيد الإقامة الجبرية أو يأمر بارتداء سوار إلكتروني، يجب أن يوافق قاضي الحريات والاعتقال على الإجراء. وعندما يُدان الأشخاص، مثلا، بأضرار اجتماعية مثل السرقة والتهرب الضريبي والاعتداء والضرب، يكون لهم الحق في المحاكمة، بل وفي المحاكمة العادلة. وعمومًا، الهدف من "المادة الجنائية" هو إعادة الاندماج الاجتماعي، بل وحتى بالنسبة للجرائم الخطيرة، هناك تعليق، وتعديل للعقوبة . اليوم للأسف الشديد مع أزمة "كوفيد" ومع فرض مجموع هذه العقوبات بدأنا نُعاقب جنائيا واجتماعيا دون أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسها؛ فما الذي يبرر هذا النوع من العقوبة ؟ ولا ننسى أن هناك سوابق في الفقه القضائي الفرنسي للأشخاص الذين أصابوا عن قصد أشخاصًا آخرين بالإيدز، لكن القضاة احتفظوا بالجانب المتعمد: لم يعلموا فقط أنهم مرضى ولم يتخذوا الاحتياطات، ولكنهم اتخذوا أيضًا رغبة معلنة في إصابة أشخاص آخرين ، هذا هو ما الذي دفع القناعة. من النادر جدًا في القانون إدانة شخص بجريمة الإغفال؛ القاعدة هي أن تتم إدانتك لفعل شيء ما، وليس لعدم القيام بشيء ما؛ وهنا الأصل هو "الإباحة" وأن "العقوبة ما هي إلا تقييد للأصل الذي هو التمتع بالحرية". مثلا قد نجد جريمة عدم تقديم المساعدة إلى شخص في خطر من قانون العقوبات، لكن الأكيد أن شروطها مقيدة للغاية والإدانات نادرة. والقول هنا أنه للحد من ممارسة الحقوق والحريات يتوجب تدخل السلطة المختصة، السلطة التشريعية، ولا يتم ذلك إلا بناء على منطق التوازن بين حقوق وحريات الأفراد ومبدأ احترام المصلحة العامة، وذلك في إطار احترام مجموعة من الشروط من قبيل شرطي التناسب والضرورة وأيضا حضور فكرة " المعقولية " التي أسس لها القاضي الدستوري الايطالي والاسباني. * د. عبدالحق بلفقيه أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبدالله، المغرب، فاس