أخذ البحث والتكوين الأكاديمي الجامعي بالمغرب مؤخرا منعطفا خطير جدا، وخاصة بعد العشرية الثانية من القرن الحالي، ذلك أنه انحرف نحو مسار انعكس على مكانة وهوية مجموعة من الحقول المعرفية التي لم يحترم المنتسبون إليها أنفسهم أولا، وتخصصهم ثانيا. وينظر هذا المقال في غيض من فيض من النقط السوداء التي طفحت واستشرت على مستوى البحث والتكوين الأكاديمي الجامعي بالمغرب. تبدأ النقط السوداء من التسجيل في سلك الماستر والذي لا يحترم الشروط الموضوعية المقررة في دفتر الضوابط البيداغوجية، مرورا بنفس العملية في التسجيل بسلك الدكتوراه، وصولا إلى الظفر بمنصب في الوظيفة العمومية. فهذه المنظومة المهترئة تكرس الفساد وتربي عليه بل تعمل على تكوين خلف يحمل مشعل الولاء والطاعة والقبول أو الرضي بالفساد والمفسدين، إذ يصبح عادة ومكتسبا عند البعض، وأن الحديث عن هذا الأمر يجعل صاحبه حالة شاذة في هذا الوسط النتن، إلى درجة أنه يحارب من داخل الموقع الذي يوجد فيه بكل الوسائل، حتى يتم اقبار كلمة الحق وابراز أصحاب الباطل أنهم على حق. يجد هذا الأمر تفسيره في تخلف رواد البحث والتكوين الأكاديمي وانسحابهم من الساحة، واتجاههم نحو انجاز دراسات لتقييم مشاريع مأجورة (أبحاث تقنية)، فضلا عن أن الصيغ التي تدبر بها التكوينات والتوظيفات من داخل الكليات أصبحت تتيح الفرصة للمفسدين وتبعد النزهاء والشرفاء من اللجن ومواقع التدبير، سواء على مستوى سلك الماستر أو سلك الدكتوراه، حيث إن صناع هذه التكوينات يختارون بكل دقة وبعناية فائقة عناصر الطاقم التربوي والبيداغوجي الذين سيقبلون بالفساد، ومن طينة من يرددون "أمين" وكل من سيحذون حذو أعضاء اللجنة دون أي مناقشة أو تعليق. ويسهم في تكريس منظومة الفساد النص القانوني الذي يمنع الأساتذة الذين يوجدون ضمن أعضاء لجن مناقشة المتبارين أو في الاشراف من عضوية لجن التوظيف؛ هذه الوضعية القانونية تسمح للضعفاء ومهزوزي الشخصية، الذين يبحثون عن نقط للترقية، المشاركة في هذه اللجن بحكم قوة القانون، ومن ثم فإن هؤلاء (هناك رجال عاهدوا الله وفي أنفسهم ذرة الخير) يقبلون بالإملاءات والاغراءات التي تمنح لهم، وبذلك تضيع حقوق الأشخاص وتفوت الفرصة على المؤسسة أولا من خلال إبعاد ذوي الكفاءات وإتاحة الفرصة للضعفاء مثلهم والأقل منهم تكوينا للولوج، حتى يكونوا لقمة صائغة في نظرهم، ويروضونهم بل يوجهونهم كيفما وأنا شاؤوا تحت غطاء بنية البحث المفككة. إن الفراغ الذي عرفته ساحة البحث الأكاديمي الرصين، وذلك عبر صمت وتراجع الأسود والرواد وانزوائهم وراء مشاريعهم الشخصية أو المسؤوليات الإدارية المرهقة جعلت الضباع والذئاب تقفز على المنصات والمنابر وتأخذ الكلمة في كل محفل علمي باسم فئة الأسود، حتى صور على أن فئة الضباع والذئاب هي حاملة للمشعل، وللأسف هذا العبث يتم بمباركة من بعض الأسود المهزومة التي فقدت مواقعها الأصلية، وأصبحت تحارب بني جلدتها في عقر الدار فقط. كما أن ملء هذا الفراغ كان من طرف فراخ همها هو المصلحة الشخصية (المفسدون المتقون) لخدمة الملف المسمى ب"العلمي" للتقدم لأحد المناصب الموضوعة على المقاس. وفي السياق ذاته، يعد الاشراف على تنظيم دورات تكوينية وندوات وملتقيات، من أبرز البرك النتنة التي تنشط فيها هذه الفئة من الذئاب، حيث تمرر من خلال هذه القنوات التواصلية فسادها وسمومها إلى الجسم الفتي المبتدئ الذي يعتقد، حسب زعمهم، أنهم يخدمون ملفهم "العلمي"، بينما يسعون إلى تكريس نفس التجربة وتعميمها حتى تصبح هي الأصل في الواقع. إن اشراف مثل هؤلاء على تنظيم هذه الأنشطة الموصوفة بالعلمية، فضلا عن استضافة نظرائهم ممن يتقاسمون معهم الرداءة والتملق نفسه، يسعون إلى تمرير أخطاء معرفية ومنهجية بالجملة، نحن لسنا هنا من أجل التقييم ولكن هذا واقع يفرض نفسه، كما أن هذه الفئات تسعى، من خلال تنظيم هذه الأنشطة، في ظاهرها تكوين الأجيال المبتدئين في البحث، ولكن في جوهرها تهدف استقطاب أتباع الدكاكين والمنظمات السياسية المترهلة، وذلك بهدف العمل على توطيد أوتاد المستقبل في العمل السياسي بالحزب أو المنظمة التابعة له، وذلك على حساب البحث الأكاديمي أو إن شئت قل توظيف الموقع الأكاديمي للتدرج في الحزب واكتساب المريدين المصفقين والمصوتين غدا في المؤتمرات الحزبية. وقد تزايد خطر هيمنة واكتساح رداءة هذه الفئة وأتباعها الساحة الأكاديمية بالإضافة إلى تنظيم الندوات والمؤتمرات تقوم بالإشراف على اخراج وتنسيق مؤلفات جماعية لا تراعي ولا تحترم الشروط الموضوعية ولا تقدم أي جديد يذكر في الحقل المعرفي المؤطر لها. كما أنه مع اعتماد التنظيم عن بعد، ظهر اسهال كبير في مجموعة من المنصات والصفحات، ذلك أن هذا الأمر أسهم في انتشار المعلومة الخاطئة بشكل سريع، بينما كان في السابق يقتصر تداولها في فضاء الندوة بعد نقاش مستفيض وتنقيح من طرف الأسود. إذن، من هنا يمكن الحسم في مسألة أساسية وتتعلق بكون هذا الواقع الذي أصبحنا نعيشه على مستوى البحث الأكاديمي ناتج كذلك عن استمرارية تصدير العشوائية والأخطاء المعرفية والمنهجية في البحث، فضلا عن اعتماد خطاب غير موحد وخدمة أهداف غير واضحة وغير مؤطرة ولا تخدم المصلحة الوطنية بالمرة. كل هذا ساهم في تمييع النشاط الفكري الأكاديمي وخلق فوضى في هذا الجانب ترجع المسؤولة عن انتاج هذا الواقع بالدرجة الأولى إلى صمت فئة الأسود التي رابطت ودافعت عن الصرح، بل ناضلت وكافحت من أجل وضع القواعد والأسس الرصينة للبحث الأكاديمي. فهذه الفوضى يجب أن تقف عن حدها بتقنين العملية العلمية بقوانين صارمة للحد من هذا العبث. لأن الصعود إلى المنبر أو المنصة والتحدث باسم الأخريين أمر غير مقبول وخطير، إذ يكرس النمطية في العمل. بالإضافة إلى ذلك وجب اعادة النظر في كيفية ولوج الأساتذة إلى المؤسسات الجامعية، وذلك عبر حذف ما يسمى ب"الملف العلمي" واعتماد مبارة وطنية سنوية بمدخلين: الأول عبر اجتياز المترشحين لاختبار كتابي، والثاني عبر اجتيازهم لاختبار شفوي مع أعضاء لجنة وطنية تضم مجموعة من الأسود، وأن يقتصر ذلك على مناقشة المؤهلات المعرفية والمنهجية التي يحملها الباحث؛ أي الارتكاز على الكيف وليس الكم، لأن ظهور هذه الأنشطة بشكل رتيب ارتبط بضرورة تجميع "الملف العلمي". وهكذا، فالقضاء على العبث يجب أن يبدأ من قص الجذور وليس الأغصان. — على الأسود أن تعود لزئيرها وعلى الذئاب أن تدخل جحورها وأن تستحيي من عِرْضها — * عبد الواحد العمراني أستاذ باحث – كلية اللغات والفنون والعلوم الانسانية، ايت ملول، جامعة ابن زهر